أرنست خوري *بات شبه طبيعي أن يرفع لبنانيّون، أعلام دول أجنبية مشارِكة في كأس العالم لكرة القدم، على شرفات منازلهم وسطوحها، أو فوق نوافذ سياراتهم، وعلى قبّعات رؤوسهم، أو أن يعلّقوها «زينة» (بشعة نظراً إلى منافسة عدد كبير من الألوان غير المتناسقة في ما بينها) في شوارعهم ـــــ جمهورياتهم. ظاهرة شبه طبيعية رغم كل ما ومَن يحلّلها (بتعمّق مبتذَل ومثير للسخرية أحياناً) على أنها دليل على غياب المواطنية لدى أهل هذا البلد، وعلى قاعدة أنّ الانجرار وراء فرق أجنبية، بعصبية قبليّة تسبب إشكالات وإراقة دماء في المباريات الحسّاسة، ما هو إلا صورة مصغَّرة، لكن معبّرة، عن انحياز اللبنانيين بطريقة غرائزية إلى دول عظمى دولية أو
إقليمية.
وإلى أن يجري التوصّل إلى نتيجة علمية بشأن هذا الموضوع، لن يقتنع أحد بـ«سخافة» أو «لا وطنيّة» هذا السلوك، طالما أنّه لا دليل على أنّ الخطابات والطلّات الإعلامية لزعماء جمهور كرة القدم، أهم من الانشغال بإظهار الحماسة تجاه مباريات لأمم، لا يعرف عدد كبير من اللبنانيين عنها سوى ألوان أعلامها. باختصار، ما دام العمل النقابي في لبنان آخر هموم العمّال أنفسهم، وما دام القطيع لزّم راعيه خصخصة القطاعات الإنتاجية لدولته، وما دام إعلان المصارف اللبنانية أنّ أرباحها السنوية لا تتوقف عن الصعود، لا تُقابل سوى بتعليقات من نوع «برافو عليهم شاطرين»، وما دام جيل بكامله يردّد ببغائية «رزق الله على أيام الحرب»، وما دام البلد ممتلئاً بسيارات رباعية الدفع رغم أنّ سعر صفيحة البزنين دنا من الـ 40 ألف ليرة، وما دامت المشاهد الواصلة من العراق وفلسطين وهايتي وباكستان وسريلانكا وكترمايا، لا تفعل سوى تزويد اللبنانيين بأفكار جديدة لاختراع النكات السمجة... فحريّ باللبنانيين حصر اهتمامهم وحشد طاقاتهم واستغلال مواهبهم التحليلية لتشجيع فرقهم في كأس العالم.
هكذا أفضل، فقد تكون «القضايا الكبرى»، مثل السرقات والطائفية وحقوق العمّال والبرامج الانتخابية وخصخصة النظافة وفضائح سندات الخزينة والتقنين الكهربائي وإمبراطوريات الاحتكار في الأسواق... «مش إلنا»، ومحصورة بفئة فُوِّضَ إليها انتخابياً وديموقراطياً النيابة عن شؤون الناس في بتّها.
لكن، ملاحظة بالنظام. هل ثمّة من انتبه لارتفاع معدّل الذين يرفعون علمَين لدولتين مشاركتين في كأس العالم، على سيارة واحدة؟ بالطبع سيسارع طيّبو القلب و«محامو الشيطان» إلى تبرير هذا السلوك بالقول إنّ السيارات التي ترفع علمين، تعود إلى عائلة يشجّع أفرادها (غالباً ما يكونون أطفالاً) فرقاً مختلفة، فتكون تسوية الأهل بوضع علم لكل من الطفلين للتخلص من هذه «المشكلة الولّادية»، لكن مراقبة سريعة لركّاب معظم تلك السيارات التي ترفع علمين لدولتين، تُظهر بطلان حجّة طيبي القلب هؤلاء. فعدد كبير من أصحاب تلك السيارات هم شباب وشابات يصعب جداً أن يكونوا أرباب عائلات يبحثون عن حلول للمشاكل الرياضية لأولادهم. إنهم لبنانيون ولبنانيات بالغون وبالغات قانونياً، وهم يشجّعون فريقَي كرة قدم (أو أكثر) في آن واحد، وفي البطولة نفسها، عن سابق إصرار وتصميم وتفكير. هنا، نصبح أمام ظاهرة غير طبيعية بتاتاً.
ولا بدّ أنّ كثيرين قد لاحظوا أنّ عدد رافعي العلمَين في لبنان، زاد زيادة لافتة في هذه الدورة من كأس العالم تحديداً. هكذا، ومن دون مصالحة تاريخية بين ألمانيا والبرازيل، أصبح العلمان يتجاوران فوق نافذة السيارة نفسها. علما الأرجنتين وهولندا باتا أعزّ الأصدقاء في لبنان شأنهما شأن فرنسا وإيطاليا... وقِس على الآخرين.
أيّ عِلم هذا الذي يفسّر كيف أنّ شخصاً يستطيع أن يشجّع أكثر من فريق، علماً بأنّ منسوب الحماسة، في لبنان خصوصاً، خلال شهر «المونديال»، يصل إلى مستويات، لا أجواء الانتخابات البلدية والاختيارية ولا النيابية تقدر على منافستها؟ إنها «ميزة» لبنانية. «ميزة» أن لا يعتمد اللبناني ولا يحسم ماذا يريد. «ميزة» أن يكون رؤساء الطوائف الدينية باغضين للطائفية والمذهبية. «ميزة» أن يكون أمراء حرب الأمس، وسِلم اليوم، مكافِحين للفساد. «ميزة» أن يكون عمّال هذا البلد مُغرمين بمستغِلّيهم. «ميزة» أن يقتنع اللبنانيون بأنّ بلدهم هو «هكذا» منذ وُجدَت الصيغة اللبنانية، وأنّه لا مجال بتاتاً لإصلاحه يوماً. ميزة أن يكون الجميع متذمّرين من مستوى «الفن الهابط» في هذا البلد، من دون أن يمنع ذلك واقع أن تكون أغلى الإعلانات التجارية التلفزيونية من حصّة برامج الترفيه التي يكون «فنّانو» و«مطربو» إمبراطورية «روتانا» أبطالَها، بما أنّ أعلى نسبة مشاهدة محجوزة لهذه البرامج. «ميزة» أن تكون غالبية شعبية قد ارتضت بتوافقات انتخابية بلدية واختيارية جمعت التيار الوطني الحر مع القوات اللبنانية ومع مرشحي ميشال المر والكتائب والقومي...
نعم، إنّ رَفْع الشخص نفسه علمَيْ دولتين متنافستين في مسابقة رياضية، يجد ما يفسره في المجتمع وفي نمط تعاطي اللبناني مع «السياسة»، وفي إسقاط مبدأ «يكون عمّي كل من تزوج أمّي» على جميع مستويات يوميات اللبناني: نشجّع البرازيل والأرجنتين معاً، فتتضاعف حظوظنا بالفوز، تماماً كما نلغي المعركة الانتخابية عندما ندفع باتجاه «التوافق»، فنكون فائزنين «على
المضمون».
لكن ما العمل إذا تواجه منتخبا دولتين يرفع الشخص نفسه علميهما؟ من نشجّع في حينها؟ إيطاليا أم ألمانيا، أم نبقى على الحياد على قاعدة أننا سنكون رابحين في جميع الأحوال؟ سؤال صعب، لكن لا بدّ للبناني أن يجد له تخريجة مشرّفة على طريقة سنربح في الحالتين.
تخريجة سبق له أن جرّبها مراراً في النطاق السياسي، وآخر ملامح هذه التجربة حفلات التوضيحات التي وردت إلى الصحف التي أذاعت خسارة تيارات سياسية معينة في محافظات البقاع مثلاً. وقدّم تيار المستقبل في البقاعين الأوسط والغربي خصوصاً، نموذجاً لمبدأ «تشجيع طرفين خصمين». صوّتت غالبية شعبية في بعض البلدات للوائح منافسة لـ«المستقبل الرسمي» وفازت. عنونت الصحف على خسارة «المستقبل» في هذه البلدات، لكونه عنواناً دسِماً لعلم الجميع الحيثية المستقبلية في هذه المناطق. فما كان من اللوائح الرابحة إلا المسارعة للتأكيد على انتمائها لـ«خط الشهيد الشيخ الراحل الرئيس». إذاً، كانت المنازلة بين «تيار المستقبل أ» ضد «تيار المستقبل ب». هكذا، عندما تتواجه الأرجنتين وألمانيا في مباراة، على الخاسر فيها أن يودّع المنافسة، سيكون رافعو علمَي هذين البلدين مسرورين، لأنهم سيكونون رابحين في الحالتين. وعندما تنتهي المباراة، سيُنزَع علم الدولة الخاسرة ويُستَبدَل بعلم جديد لدولة لم تخسر بعد، بطريقة يبقى المشجّعون بها مشجعين لمنتخبي دولتين حتى تنتهي كأس العالم ويكون الجميع رابحين... تماماً كما يربح جميع اللبنانيين في جميع الاستحقاقات السياسية.
عَلمان والفائز واحد. «كأس العالم أولاً»، حتى ولو أنّ إسرائيل قد تقتلنا مجدداً ونحن نشاهد المونديال.
* من أسرة «الأخبار»