حسّان الزينمع كل استحقاق، يُظهر الجنوب أنه أكثر تنوّعاً من القوى السياسية والمذهبية التي تختصره وتتولّى أموره. اليوم، مع الانتخابات البلدية، يتقدّم في مشهده كثيرون يقصيهم القانون الانتخابي.
أبرز المتقدمين في المشهد الجنوبي، بعد انحسار اليسار والإقطاع هناك، هم أسامة سعد وزياد أسود ورياض الأسعد. هؤلاء تجمعهم عناوين مشتركة وتفرّقهم أمور عدّة، أقلّها الجغرافيا الانتخابية، التي تجعلهم غير منتبهين بعضهم إلى بعض، وتبعدهم أكثر بعضهم عن بعض، وكأنّ كلاً منهم في قارّة.
أوّل ما يجمع هؤلاء أنهم، كلّ في منطقته، يعاندون التيار الأقوى، أو الواقع السياسي. الثلاثة، كلّ بحجمه وظروفه، يحفر حضوره بالإبرة. الثلاثة مقيّدون بجغرافيتهم السياسيّة وبتحالفاتهم، ومرتبكون بعدم إنتاجهم خطابات سياسية واجتماعية وثقافية... وإنمائية. والثلاثة في مربّع «الدفاع عن النفس»، وغارقون في المعادلات الحسابيّة التي يفرضها النظام الانتخابي الأكثري وطاقمه السياسي. ويتكوّن خطاب كل منهم في الزاوية التي يُحشر فيها. هذا ما يجعل خطاباتهم ردّات فعل تنهل من القاموس اليساري: مناقض للبورجوازيّة (سعد)، ضد الإقطاع (أسود)، رافض لاحتكار السلطة السياسيّة والحزبيّة (الأسعد).
أسامة سعد، ابن معروف سعد وشقيق مصطفى سعد، يشعر بأن زعامته الصيداوية مهدّدة. فتراه يندفع لشدّ عصبها وتظهيرها، بالخطاب القومي الوطني والطبقي. ويخوض المعارك لهذه الغاية. ويعود إلى لحظة تأسيس الزعامة لهذا الهدف. ولعله كان ليقبل بالتوافق لو أن هذا لا يذوبه ويجعله مثل أي عائلة صيداوية، زعامتها تحت المظلّة المحلية. فموقفه القومي الوطني والاجتماعي هو بُعد زعامة آل سعد، ومن دونه ينتهي أمرها بامتدادها الجنوبي، ويتقلّص دور صيدا مع محيطها جنوباً وشرقاً نحو جزين.
وضع زياد أسود مختلف (ربما الأريح انتخابيّاً). هذا، وجد نفسه جنوبياً في حصار نبيه بري، راعي الخصم، سمير عازار، فاعتقد أن في استدارة جزين نحو جبل لبنان مخرجاً. وقد استفاد من أن خصمه عازار بالرغم من علاقته ببري ووجوده لسنوات في مجلس الجنوب، لم يجعل جزين جزءاً من الجنوب بالمعنى الإنمائي والسياسي والاجتماعي والثقافي أيضاً. ردة فعل أسود، التي تجد صدى في وادي العلاقة الغامضة بين جزين والجنوب، والتي تعمّقت أثناء الاحتلال الإسرائيلي، تربك هوية جزين أكثر ممّا تبلورها وتحدد بوصلتها، وتضعها بين سؤالين: أتكون خزان احتياط لـ«مسيحيي» الجبل وهامشهم وبالتالي تغدو أسيرة المعادلة الجبلية التي ما عادت تختصر لبنان، أم تكون ظهر مسيحيي الجنوب ومجالهم والبعد الثالث للجنوب؟ أيهما تختار؟ كلام أسود يناقض خطاب تياره الوطني وتفاهمه مع حزب الله، وليس واقعياً أو إنمائياً. فالإنماء والواقع يستوجبان صوغ دور لجزين ومنطقتها. وأخذ جزين إلى الجبل من دون صوغ دور جنوبي هو سلخها من محيطها وواقعها ووضعها في طريق مسدود، لا سيما مع تعثّر عودة المهجرين إلى الجبل.
واحدة من مشكلات أسود التي تؤثّر في حضور تياره وامتداده، أنه لا ينظر إلى الجنوب. ودون ذلك لا يمكنه بحث دور جزين اقتصادياً وسياسيّاً واجتماعيّاً وثقافيّاً... وحتى جغرافياً. هذا الخطاب الاستداري يُبقي جزّين وأسود وتيّاره في مسلخ «الإقطاع» وشوارعه المقطوعة ومستشفاه الحكومي البائس.
رياض الأسعد حالة خاصّة. فهو وإن بدا في مسرح أوسع، إلاّ أنه أكثر منهما تقيّداً بالجغرافيا والتاريخ معاً. ولعلّه الأكثر عرضةً للبقاء مرشحَ زعيم. فهو وإن استطاع تجاوز أزمة انحسار عائلته الإقطاعية سياسياً، لم يتمكّن خلال عقد ونصف واستحقاقات انتخابية نيابية وبلدية واختيارية عدّة، من تجاوز كونه غادر حركة أمل وعصي أمر أستاذها. وهو وإنْ خَلَت له منابر اليسار، ما زال من خارج هذا النادي المتضائل. وهو وإن اعتمد باب الخدمات والمساعدات، لم ينافس آلة التوظيف والمنافع المتمثّلة بحركة أمل وآلة الرعاية التي يوفّرها حزب الله.
رياض الأسعد محكوم بمواجهة السلطة الثنائيّة التي يسعى منافسو سعد في صيدا إلى التحرّر منها، ويسعى خصوم أسود في جزّين إلى البقاء في حضنها والتنفّس من رئتها السياسيّة.
لكن، رغم هذا التعقيد، لا يمكن أن تجد خطابات هؤلاء أفقاً خارج بحث العلاقات الجغرافيّة السياسيّة والاقتصادية والاجتماعيّة والثقافيّة بين مناطقهم وعلى مستوى لبنان. لا يُنهض بهذا البحث لأن هؤلاء وكثيرين أمثالهم أسرى اللعبة الانتخابيّة المحليّة وحساباتها الرقميّة، وخطاباتهم عبارة عن أخذ الموقع النقيض لمن يواجهونهم تحت شعار رفض الاستئثار.
هذا ما يظهّر سعد كرجل قديم، وأسود كفتى تحرّكه ردّة الفعل على إقطاع منطقته، والأسعد كشاب طموح تعوّد الخسائر ويبحث عن شركاء بين كسور المرايا التي تملأ الجنوب.