كميل داغر *لقد استهدفتنا شظايا عديدة في مقالتك في «الأخبار» (9/3/2010) التي رددت بها على السيدة أمل حوّا. وهي شظايا، أسوأ ما فيها أنها قائمة إجمالاً على نسبة أمور لا تمتّ إلى الحقيقة بصلة. وسوف أختصر ما أقصده بمسائل ثلاث، أولاها تتعلق بالعلاقة المزعومة بأوساط محددة في المقاومة الفلسطينية، وثانيتها بالموقف من راهنية الثورة، وثالثتها بالموقف من القوى المندرجة إجمالاً في الإطار الشيوعي.
1ـــــ العلاقة بالمقاومة الفلسطينية:
في آخر الفقرة الأولى من العمود السادس من مقالك، ورد ما يلي:
«أمّا السيدة حوّا، ورفاقها (التشديد من وضعي)، فقد كانوا يمارسون معتقداتهم الديموقراطية والعلمانية من خلال القتال في صفوف منظمة الصاعقة (هكذا ومن دون أن يرف لك جفن!!) وجبهة التحرير الفلسطينية».
كلا! أيها العزيز! لأن الحقيقة هي النقيض المطلق لهذا الاتهام! فالمرة الوحيدة التي صدف أن التقينا فيها الصاعقة، كانت خلال حرب السنتين، وبالتحديد في شارع عبد الكريم الخليل في الشياح، حين تصدّى رفاقنا بقوة السلاح لمجموعة من تلك المنظمة كانت تحاول الانقضاض على موقعٍ للحزب الشيوعي اللبناني، مجاورٍ للموقع الذي كان رفاقنا يشغلونه، وقد ردّوها على أعقابها بالفشل والخذلان!
من جهة أخرى، فإن من تسمّيهم «إحدى الشلل التروتسكوية» لم يقاتلوا يوماً في صفوف أحد، وشاركوا في الحرب المذكورة أعلاه من موقع الاستقلال الكامل، لا بل النقد الجذري لقوى اضطلعت بالأدوار الأهم فيها، سواء في الحركة الوطنية، أو في المقاومة الفلسطينية. أما العلاقة بجبهة التحرير الفلسطينية، بقيادة طلعت يعقوب، فكانت من زاوية التعاون، لا أكثر، في حينه، مع فصيل حدَّد نفسه، بعد انشقاقه عن الجبهة الشعبية ـــــ القيادة العامة، في مواقع اليسار، مثلما أقمنا كذلك علاقة تعاون مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وتيارات يسارية في حركة فتح.
أكثر من ذلك، وطالما أنك تحاول إثارة الغبار حول موقفنا من النظام العربي، عبر الكذبة الفاقعة للعلاقة بالصاعقة، الملحقة بدمشق، فنحن نود إعلامك بأن العلاقة الوحيدة التي أقامها «التجمع الشيوعي الثوري»، في السبعينيات (وما بعدها)، داخل سوريا، كانت مع حزب العمل الشيوعي، التنظيم الوحيد الذي تصدى للنظام الحاكم في دمشق من مواقع ثورية، ودعا إلى تغييره، قبل أن تنجح أدوات ذلك النظام القمعية في سحقه.
2ـــــ الموقف من راهنية الثورة
لقد ورد، في الفقرة الثانية من مقالك، الكلام التالي: «تفيدنا السيدة حوّا بأنها لم تعد تمارس العمل الحزبي. مع ذلك، يبدو أن عدّتها «الفكرية» لا تتجاوز قلة من المقولات الأكثر تبسيطية وجموداً التي علقت بها من نشاطها في إحدى الشلل التروتسكوية (هكذا!). ويمكن إجمالها باثنتين: واحدة إرادوية مملّة تزعم أن الثورة جاهزة للاندلاع دائماً وأبداً، ولا تحتاج إلا إلى قيادة ...».
وسوف أتوقّف، عند هذه النقطة، حصراً، وهي الأولى بين ما تعتبره مقولتين علقتا في ذهن أمل حوّا من مرحلة «الشُلَّة» التي سبق أن نشَطَت فيها، على أن أعالج النقطة الثانية، في المقطع الثالث من هذا الرد.
إنّ أبسط مقوِّمات النزاهة الفكرية، هي أن تنقل أفكار من تعتبره خصمك كما هي، وليس بعد مسخها. فلم يحدث أن قلنا ما يدعم هذا النقل المزوَّر لرؤيتنا لقضية الثورة.
إن الديالكتيك المادي، جوهر الماركسية، كان ولا يزال يهدينا في رؤيتنا للأمور، بحيث نستطيع أن نفرِّق بين وضع وآخر، في المكان كما في الزمان. على هذا الأساس، أمكن أن تكون بين آخر إطلالات أحد كبار المفكرين والمناضلين الماركسيين، في هذا العصر، رفيقنا أرنست ماندل، قبل رحيله بأسابيع قليلة، وفي المؤتمر الرابع عشر للأممية الرابعة، تلك الكلمة التي عبّر فيها، عن تشاؤمه، ربما لأول مرة، بخصوص قضية الثورة، التي رأى أنها قد لا تعود إلى أعلى جدول الأعمال، قبل عقود.
في حين أن تروتسكي، وعلى العكس، ففي عام 1938، في النص الذي كتبه للمؤتمر التأسيسي للأممية الرابعة، وبات معروفاً بالبرنامج الانتقالي، رأى أن «المقدمات الموضوعية للثورة البروليتارية ليست ناضجة وحسب، بل أخذت تتعفّن (...). إنّ الأزمة التاريخية التي تعانيها الإنسانية تتلخّص في أزمة القيادة الثورية».
وقبل تروتسكي، كان لينين قد شدَّد على الأهمية القصوى للعامل الذاتي، في انتصار الثورات، وذلك في جمهرة واسعة من النصوص. هكذا رأى في نصه بعنوان إفلاس الأممية الثانية، الذي كتبه في ربيع عام 1915، أنّ «الوضع الثوري أمر حاصل في معظم البلدان المتقدمة والدول العظمى في أوروبا». ولكنه استدرك: «ليس من ريب، بالنسبة إلى ماركسيّ، أن الثورة مستحيلة من دون وضع ثوري، ولكن لا يفضي كل وضع ثوري إلى الثورة (...) لماذا؟ لأن الثورة لا تندلع إلا حين يضاف إلى التغييرات الموضوعية تغيير ذاتي، هو قدرة الطبقة الثورية على القيام بأعمال ثورية جماهيرية من القوة بحيث تحطِّم بالكامل (أو جزئياً) الحكومة القديمة، التي لن «تسقط» أبداً، حتى في عصر الأزمات، إذا لم يجرِ إسقاطها».
العامل الذاتي، أجل! هذا هو جوهر النظرية اللينينيّة في التنظيم. وهو الأمر الذي كنتَ على قناعة عميقة به، ذات يوم، أليس كذلك؟
أخيراً، قبل أن أنهي النقطة الثانية من ردي، أود أن أوضح ما يشير إليه عنوان هذه النقطة بالضبط، المتعلق بمفهوم راهنية الثورة.
الديالكتيك المادي، جوهر الماركسية، كان ولا يزال يهدينا في رؤيتنا للأمور
فمع أنه لا ينطبق علينا اعتبارك أننا نزعم أن الثورة جاهزة للاندلاع دائماً وأبداً، فنحن ننظر إلى واقع هذا العصر بصفته كلّاً لا يمكن فهم أجزائه والتعامل مع موضوعها إلا بالعلاقة بهذا الكل. وهو ما سبق أن أوضحه بامتياز ج. بروم، في مقدمته لكتاب جورج لوكاش عن لينين. أما لوكاش بالذات، الذي سبق أن شارك في قيادة ثورة فعلية هي الثورة المجرية، فقد جاء في كتابه المذكور: «لقد أدخل لينين، ببساطة، إلى النظرية الماركسية، سير التاريخ المتواصل منذ وفاة ماركس. وهذا يعني أن راهنية الثورة البروليتارية لم تعد فقط مجرد أفق للتاريخ الشامل يرفرف فوق الطبقة العاملة التي تتقدم نحو تحررها، بل إن الثورة باتت مسألة على جدول أعمال الحركة العمالية». ويضيف كما لو كان يردُّ أيضاً على اتهامك لنا بـ«إرادوية مملّة»:
«لقد كان بوسع لينين أن يتحمل من دون عناء اتهامه بالبلانكية، إلخّ.... الذي سبّبه هذا الموقف الأساسي، الذي يجمعه بحقٍّ بماركس، ماركس بالذات، الذي سبق أن جرى وصف «بعض وجوهه» بالبلانكية. فمن جهة، لا ماركس ولا لينين تصوّرا راهنية الثورة البروليتارية يوماً، وأهدافها النهائية، كما لو كان يمكن تحقيقها الآن، كيفما اتفق، وفي أيِّ حين. ولكن، من جهة أخرى، تقدِّم راهنية الثورة، بالنسبة إلى كليهما، المقياس الموثوق به للقرارات، في كل الأعمال اليومية. فراهنية الثورة تشير إلى العلامة الغالبة لعصر بأكمله (...) وراهنية الثورة تعني بالتالي ما يلي: التعامل مع كل مشكلة يومية خاصة من خلال ارتباطها الملموس بالكلية التاريخية ـــــ الاجتماعية، واعتبار تلك المشكلات لحظات من تحرر البروليتاريا».
3 ـــــ الموقف من الشيوعيين:
أما المقولة الثانية التي تشير إليها، فهي، في نظرك، «نزعة في النقد وتحميل المسؤولية تجري على قاعدة تكفيرية لا تختلف بشيء عن نزعات التكفير الدينية أو الستالينية (!)، عنوانها «أقربهم إليك أخطرهم عليك». والأقربون هنا هم الشيوعيون اللبنانيون طبعاً، وبينهم كاتب هذه السطور الذي يصدف أنه من أوائل من ترجموا لتروتسكي إلى العربية».
في كل حال، سأبدأ بالرد، من حيث انتهى القسم الأول من الفقرة الأولى، حيث ترى أننا نعتبر كل قيادات الثورات، حين توجد، تخون الثورات المشار إليها. وهذا الكلام عارٍ من الصحة. والدليل على ذلك أننا، كحركة عالمية، دعمنا كل الثورات، في أيّ مكان من العالم، ودافعنا عنها حتى حين كانت قياداتها تضطهد رفاقاً لنا، كما هي الحال في بلدان عديدة، كالصين وفيتنام. كما لا تزال الأممية الرابعة تنظّم إلى اليوم، ومنذ انتصار الثورة الكوبية، حملات شتى لإسقاط الحصار الأميركي عن الجزيرة المتمردة. ولقد قدّمت الدعم العملي الفعّال إلى الثورة الجزائرية، وقيادتها، على الرغم من أن هذه الأخيرة لم تكن شيوعية. وحين تعرضت يوغسلافيا، في ظل تيتو، للتهديد من جانب ستالين، أرسلت مجموعات مقاتلة من بلدان شتى إلى بلغراد، للتضامن العملي مع ثورة مهدَّدة، على الرغم من مآخذ شتى على القيادة اليوغسلافية. وكانت آخر ثورة ظافرة تحظى بأقصى الدعم من جانب التروتسكيين، هي الثورة في نيكاراغوا، عام 1979. من دون أن ننسى الدعم النشط من جانب هؤلاء لمعظم حركات التحرر الوطني، ولا سيما حركة تحرر الشعب الفلسطيني.
أما بخصوص نقدنا الشديد، لكل ما وجدنا فيه انحرافاً عن المبادئ الثورية، سواء لدى الحزب الشيوعي اللبناني بالذات، أو لدى غيره من المنظمات، فكان أبعد ما يكون عما تنسبه إلينا من نزعات تكفيرية «دينية أو ستالينية (!)». كان انخراطاً في التقاليد السامية للماركسية الثورية، منذ أيام ماركس وانجلز بالذات.
وهي التقاليد التي كرّسها كل من لينين وروزا لوكسمبورغ وتروتسكي، وصولاً إلى ارنستو تشي غيفارا.
ألم تسمع بالمواقف والانتقادات اللاذعة من جانب الثلاثة الأوائل لأحزاب الأممية الثانية ورموزها، بعد تصويت تلك الأحزاب لمصلحة ميزانيات الحرب الاستعمارية، في عام 1914؟ ألم تقرأ نعت روزا لوكسمبورغ للأممية المذكورة، بأنها باتت «جيفة نتنة»؟ ألم تقرأ سجالات قائد ثورة أكتوبر اللاذعة ضد من سمّاهم «الاشتراكيين الخونة»، أو «الشوفينيّين»، أو «الانتهازيّين اليمينيّين»؟
وأخيراً ألم تسمع بنقد غيفارا للقيادة السوفياتية بالذات، التي لم يجد فرقاً، من بعض الجوانب، بينها وبين الإمبرياليات الرأسمالية، في علاقتها بشعوب العالم الثالث؟
فهل كان هؤلاء جميعاً أصحاب نزعات تكفيرية «دينية أو ستالينية»؟
في شتى الأحوال، لن أحاول إنعاش ذاكرتك، فربما لم تسعفك لتسمع بمواقف التضامن التي اتخذناها دائماً مع هؤلاء بالذات الذين كنا ننتقدهم، ولكنني سوف أذكِّرُك بكلمتي أمام كل من المؤتمرين السادس فالثامن للحزب الشيوعي اللبناني، وكنتَ حاضراً شخصياً، على الأقل في المؤتمر الثامن، حين أعلنتُ استعدادنا للانخراط في صفوف الحزب، بشرط واحد فقط، هو أن يشرِّع حرية تأليف الاتجاهات فيه. كما سأعلمك الآن بأننا أبلغنا قيادته مراراً، استعدادنا للقتال إلى جانبه، إمّا دفاعاً عنه، كما حين بدأ يتعرض لهجمات العصابات اليمينية الرجعية، في أوائل الثمانينيات لإخراجه من الضاحية الجنوبية، أو لأجل أن نخوض معاً المعركة المشتركة ضد الاحتلال الإسرائيلي.
وأخيراً، بخصوص كونك أحد المترجمين الأوائل لتروتسكي، فأنا أوجّه إليك تحية صادقة ـــــ ولا سيّما أني قرأت كتاب الثورة الدائمة، أول مرة، بترجمتك ـــــ، وإن كنتُ قد تساءلت دائماً: «لماذا حين نقلتَ هذا الكتاب إلى العربية، تحفّظْتَ عن ذكر اسمك الحقيقي كمترجم له، لا بل ظهر لك اسمان مستعاران على الكتاب: بشارة أبو سمرا، على الغلاف، وبشّار أبو سمرا، على الصفحة الداخلية الأولى»؟
كانت قد مضت أكثر من خمس عشرة سنة، آنذاك، على وفاة ستالين؟ ولكن، كما يقول المؤلف المسرحي السوفياتي، ميخائيل شاتروف، في نهاية مسرحيته، إلى الأمام، «كان ستالين لا يزال على خشبة المسرح».
* كاتب ومحامٍ لبناني