ليس صحيحاً أن لبنان لم يدخل كتب التاريخ. لقد دخلها، من باب صغير. منذ القرن التاسع عشر على الأقل (لأن لا شيء كان اسمه لبنان بالرغم من عيش مجموعة من الفئات والشعوب المُتقاتلة على أرض ما يُعرف اليوم بلبنان، كما يقول فيليب حتي في تاريخه عن قطعة أرض تأبى أن تصبح وطناً ـــ لحسن الحظ)، لاحظت الدول الكبرى أن شعوباً في جبل لبنان تهوى وتحترف وتتقن التناحر والصراعات. لكن دخول لبنان في باب التاريخ العريض تمّ في القرن العشرين عندما سجّلت شعوبه أرقاماً قياسيّة (ولبنان يهوى الأرقام القياسيّة في كل شيء كما هو معروف) في المجازر الطائفيّة وفي الحروب الأهليّة الضروس
أسعد أبو خليل*
ما حدث في كترمايا ليس منعزلاً عن السياق العام لتاريخ مسخ الوطن لبنان وحاضره. ويمكن تحليل ما حدث على أكثر من صعيد. ولكن في البداية لا بدّ من تسجيل بعض ردود الفعل. وزير الداخليّة في لبنان «أسف» لعمليّة القتل الجماعي، فيما استنكر الحزب التقدمي الاشتراكي قتل «الجاني». رئيس الجمهوريّة تأسّف هو الآخر وأبدى قلقه من الإساءة إلى «صورة لبنان». ووزير العدل اللبناني الذي أمضى سنوات الحرب عضواً في المكتب السياسي لحزب الكتائب (الذي يتحمّل أكبر مسؤوليّة في اندلاع الحرب الأهليّة وفي استمرارها) أبدى حرصاً على «صورة لبنان في العالم». وهل سمع العالم بلبنان إلا من خلال أخبار حروبه الأهليّة وأخبار صحن الحمص العملاق؟ حتى السفارة المصريّة في لبنان اعتبرت أن مشهد جريمة قتل المواطن المصري «يتنافى مع الوجه الحضاري للشعب اللبناني الشقيق». أما المدير العام لقوى الأمن الداخلي، الذي لا يزال يصرّ على أن الاتفاق الأمني الذي وقّعه مع السفارة الأميركيّة في بيروت ليس اتفاقاً أمنياً لأنه «هبة» مثلما تسمّي إسرائيل اجتياحاتها وعدوانها بأسماء مثل «سلام الجليل»، فقد أصدر بياناً في اليوم التالي يدعو فيه قوى الأمن لحماية المحكومين أو المتهمين. أي إن بيانه مهم، وإن تأخر يوماً واحداً لا أكثر. كتلة الحريري أبدت تفهّماً لأهل كترمايا واصفةً عملهم بـ«الثورة والغضب» لكن لم تقل الحق في السحل، للإنصاف. والأصوات لا تستنكر، إذا استنكرت، من دون أن تستلحق بكلام عن حضاريّة لبنان ذي الوجه المُشرق، وكلام آخر عن لبنان كبلد الإشعاع والنور رغم الأزمة الكهربائيّة المزمنة. والذين (واللواتي) يستعينون بتشبيه طائر الفينيق، مرّات ومرّات، أو بأغنية «راجع راجع يتعمّر، راجع لبنان» لا يلاحظون السمات التدميريّة والتخريبيّة لشعب البلد المضياف لأمراء الخليج ولبعض الجيوش الأجنبيّة إذا أتت لحماية طائفة ضد أخرى، بالتناوب.

إذا كان محمد سلام بالفعل سوسلوف الحريريّة فإن الإعداد للحرب الأهليّة يجري على قدمٍ وساق
الذي حصل في كترمايا ليس طبعاً ظاهرة استثنائيّة محصورة بلبنان أو بأي بلد عربي. والخيال الاستشراقي يُسارع في كلامه عن العراق مثلاً إلى الحديث عن تاريخ «السحل»، وكأن السحل لم يسجّل إلا في العراق، يكفي الاستشهاد بخطبة الحجّاج بن يوسف، كما فعل المراسل الأميركي، طوني شديد (وهو من أفضل المراسلين الأميركيّين في الشرق الأوسط) أخيراً في الـ«نيويورك تايمز» للتدليل على وحشيّة أهل العراق. (هذا لا يقلّل من وحشيّة الحجّاج، طبعاً، الذي ترك وراءه سجن الديماس والذي حاصر في أسواره عشرات الآلاف ـــــ يُراجع كتاب هادي العلوي «من تاريخ التعذيب في الإسلام»، ص. 13). لم يلاحظ شديد أن قدرة (وممارسة) جيش الاحتلال في العراق على ارتكاب الجرائم وعلى القتل تفوق بأضعاف قدرة الشعب العراقي، وأن أعمال العنف في العراق ازدادت باطراد بعد وصول المُحرّر الأميركي. لهذا، يجب ألا ننساق وراء رغبة المُشاهد الغربي كي نقع في حبائل الاستنكار المُصطنع للرجل الأبيض وهو يلقي عظاته من على دبّابة مُتعجرفة تحميها من فوق طائرات حربيّة تتساهل في رمي حممها على من يبدو من الجو مشبوهاً.
والذي حصل في كترمايا مألوف في التاريخ العالمي، والأوروبي خاصة. إنه يوصف في أميركا بـ«اللينشنغ» ـــــ وهناك جدال حول أصل الكلمة لكنها تعود لاسم شخص. غير أن الكلمة تصف جريمة يرتكبها بعض العامّة ضد رجل أو امرأة من مجموعة ما، ومن دون محاكمة، أو خلافاً لمحاكمة، ويصاحب جريمة القتل تمثيل بالجثّة. ويُقدّر عدد السود الذين ذهبوا ضحيّة الـ«لينشنغ» في أميركا في القرن التاسع عشر فقط بخمسة آلاف. وهناك كتاب حديث صادر عن الموضوع يظهر أن الجريمة من قبل العامة لم تكن فرديّة: لا من حيث المرتكبون والمنفّذون أو المتفرّجون، ولا من حيث الضحيّة والمقصودون. فـ«اللينشنغ» في أميركا توخّى إحداث سلطة قمع نافذة من قبل البيض للسيطرة على مجمل السود بعد نهاية الحرب الأهليّة على غير ما اشتهى عتاة العنصريّين البيض. وجريمة الشنق والتمثيل بجثة الضحيّة الأسود كانت (كما درس فوكو في ما بعد) مهرجاناً بحد ذاته. كانت النسوة يصطحبن الأولاد مع سلال من الطعام لقضاء وقت في الهواء الطلق كما كان الناس يشاهدون عمليات صراع الأسُود مع البشر في العصر الروماني القديم. هناك صور تذكاريّة معروضة في متاحف تاريخ السود في هذه البلاد من تلك الحقبة.
وكان يمكن ميشال فوكو في كتابه الفذ «عاقب وراقب» أن يدرس حدث كترمايا بتمعّن شديد، وهو الذي درس التاريخ الأوروبي للعقاب الجماعي أو الحكومي الفظيع. والعقاب كان يجب أن يكون مهرجاناً معروضاً. الطبيب الفرنسي «غيوتين» ساهم في اللجنة التي استحدثت المقصلة بعد بدء الثورة الفرنسيّة. والهدف كان الرحمة بالضحيّة، لا الوحشيّة، لأن وسائل القتل السابقة (من قطع الرأس بالفؤوس وما شاكل) كانت فظيعة. غير أن تأريخ المرحلة يذكر أن العامّة لم تستسغ مشهد المقصلة لأن القتل كان سريعاً (ورحيماً بالنسبة للسيّد «غيوتين»). مشاهد الإعدام كان يجب أن تكون عامّة وقاسية ومعروضة وممتدّة ومشوّقة للمشاهدين والمشاهدات. والأنظمة العربيّة الحديثة (وخصوصاً البعثيّة) اشتهرت ليس فقط بتعليق المشانق بل بترك المشنوقين متدلّين للاتعاظ. أي إن الهدف من الشنق كان مزدوجاً: الاقتصاص والتخويف أو الترهيب. والترهيب يفعل فعله.
ميشال فوكو يرى أن عمليّات القتل والعقاب والتعذيب جزء من جهاز السيطرة: للدولة أو للسلطة التي تتجاوز الدولة. أما أن يأخذ العامّة بمقدّرات العقاب والثواب، فليس أمراً غريباً البتّة لأن «عدم الشرعيّة عميق التجذّر» وضروري في سيطرة الطبقات كما يقول فوكو. وبعض أهل كترمايا قاموا بالفعلة بترتيب وتنظيم دقيق. تقاسموا الأدوار ولم يتركوا فرصة للتأمل أو لإعادة النظر. الأمر كان لافتاً في ضبطه عمليّةَ القتل والتعذيب، وقد يزيد من القيمة الانتخابيّة للبلدة في حسابات تيّار المستقبل الطائفي ـــــ المذهبي. ويرتبط قمع الناس والسيطرة عليهم بمزيج من التسلّط والعنف المحض، بالإضافة إلى نشر أفكار السيطرة والتسلّط، وهي أجدى وأذكى في نظر فوكو. لهذا، فإن الأخير يميّز بين العقاب الفظيع وما يسمّيه «العقاب اللطيف»، في إشارة إلى وسائل قمع وسيطرة خفيّة (على الفرد، لا على السلطة). القمع الليّن هو أن ينبري عضو في تيّار فريق الحريري المتحالف مع الحكم السعودي في مبادرة لإصلاح السجون. القمع الليّن هو في إيهام الفرد أن الزعيم الطائفي هو حامي الطائفة الأوحد، فيما تمشي الطائفة الهوينا إلى المقصلة وهي تظن أن حفلة سمر تنتظرها.
ولكن من الخطأ النظر إلى جريمة كترمايا بعين طائفيّة أو مناطقيّة. نشطّ لو نفعل كما فعلت سعدى علّوه في «السفير» عندما ذكّرت بتاريخ النضال ضد إسرائيل في البلدة، وكأن الواحدة تشفع بالأخرى، أو تغطّي عليها. قد تحاول طائفة من الطوائف أو بلدة من البلدات في لبنان النظر باستعلاء إلى كترمايا في محاولة للبوس زيف ادعاء «لبنان الحضاري» أو قبس من «الإشعاع والنور» ـــــ من أين، لا ندري بعد. كل الكليشيهات عن لبنان تُردّد بلا تفسير، وما على المرء إلا أن يُردّد الترداد ويطرَب. عندما غطّت حنة أرندت محاكمة «ايخمان» لمجلّة «النيويوركر» (ونشرتها في ما بعد في كتاب أحدث ضجّة فكريّة بعنوان «ايخمان في القدس») استحدثت مصطلح «اعتياديّة الشرّ». العبارة أزعجت كثيرين لأنهم أرادوا أن ينزعوا عن الشعب الألماني صفة «الاعتياديّة». هي لم تقلّل من وحشية النازيّة، وقد درستها بعناية فائقة، لكنها قالت إن شعوباً أخرى في ظروف مشابهة قد تقوم بالأفعال نفسها. لم تقل إنايخمان لم يكن شرّيراً بل قالت إن شرّه كان بيروقراطيّاً. لم يكن ذلك الكلام رائجاً أو مقبولاً، لا في حينه ولا اليوم في الكثير من الأوساط. وآلة الحرب الأميركيّة ـــــ الروسيّة ـــــ البريطانيّة في الحرب العالميّة الثانيّة أرادت أن تعوّل على فصل أخلاقي جذري بين أعمالها الحربيّة الوحشيّة وأفعال النازيّة، وإلا فإن الحكم الأخلاقي قد يرسم علامات تشكيك فوق، مثلاً، التدمير المنهجي لـ«دريسدن» أو لـ«طوكيو» (هذا ما عناه الجنرال الأميركي «لومان» عندما أخبر مساعده، روبرت مكمنمارا، وهما يقرّران أن قسماً من مدينة طوكيو يجب حرقه بالكامل في تلك الليلة، بـ«إننا سنُحاكم كمجرمي حرب لو انهزمنا»، على ما روى الأخير في فليم «ضباب الحرب»).
وجريدة «الأوريان ـــــ لو جور» لم تفوّت الفرصة ـــــ بالفرنسيّة طبعاً ـــــ لإصدار حكم «زمن الهمجيّة»، وخصوصاً أن الصحافة الفرنسيّة في لبنان نشأت على فكرة تصنيف الناس إلى حضاري وهمجي، متخلّف ومتمدّن. جريدة «الأوريان ـــــ لو جور» تحبّذ التطبيع مع إسرائيل في تهليلها لـ«هضامة» جاد المالح، وتفعل ذلك من باب الحضاريّة والإشعاع. وهي تؤيّد حركة الأمير مقرن في لبنان من باب تصنيف اللبنانيّين إلى حضاريّين ومتخلّفين. والذين يتحدّثون بلغة الرجل الأبيض هم دائماً أكثر حضارة من غيرهم. لم تعنوِن «الأوريان ـــــ لو جور» عن «زمن الهمجيّة» عندما ارتكبت الدولة اللبنانيّة مجزرة مخيّم نهر البارد. كانت مثلها مثل كل جرائد لبنان، باستثناء واحدة، تهلّل لتدمير المخيّم. لم تستفظع الجريدة الحضاريّة السمجة مقتل العمّال السوريّين في بقع مختلفة من لبنان. لكنها فرصة ذهبيّة للمجتمع البورجوازي في لبنان لإصدار أحكام ضد أهل الريف
الدونيّين.
القتل في كترمايا يرتبط بالتحريض الطائفي المتفلّت الذي أطلقه رفيق الحريري وابنه من بعده برعاية الأمير مقرن وجهازه وأمواله الكثيرة التي تشتري وتلغي أي انتخابات في أي بلد عربي. إن الطلاء الديني وصيحات التكبير التي صاحبت القتل والتمثيل هي جزء من التسويغ الطائفي ـــــ الديني الذي صاحب مهرجان الحريريّة بعد اغتيال مؤسّسها. والتسويغ الديني (الذي لا علاقة له بالدين) نتيجة طبيعيّة لمصنع التطرّف الديني الإرهابي الذي شاركت في صنعه هيئة كبار العلماء في السعوديّة بالاشتراك مع الأمير تركي في حقبة الحرب في أفغانستان خدمة للمصالح الأميركيّة في الحرب الباردة. لعلّ الجمهور المحتشد في كترمايا تناسى حديث عمران بن حصين (أخرجه أحمد بن حنبل في «المسند»): «ما قام فينا رسول الله خطيباً إلا أمرنا بالصدقة ونهانا عن المُثْلَة». لكن هذا لا يعفي التاريخ العربي ـــــ الإسلامي (مثله مثل التاريخ الأوروبي) من مسؤوليّة حوادث تعذيب وتمثيل، كحالة ابن أبي الفوارس القرمطي كما أوردها الطبري: «قُلعت أضراسه أولاً. ثم خُلعت إحدى يديه بشدّها إلى بكرة متحرّكة. وعُلّقت بالأخرى جندلة وتُرك على حاله تلك من نصف النهار إلى المغرب. ثم قُطعت يداه ورجلاه في الصباح وقُطع رأسه على حاله وصُلب في الجانب الشرقي ـــــ من بغداد ـــــ وحُملت جثته بعد أيّام إلى محلّة تُدعى الياسريّة كانت تُعلّق فيها جثث القرامطة ليُصلب معهم». (ج. 8). ويمكن الاستزادة من مشهد إعدام الحلاّج الوحشي الذي أعاد تركيبه بإتقان دقيق المُستشرق المُتخصّص لوي ماسينيون.
ومن التجربة الحريريّة، استقى أهل كترمايا، أو من شارك منهم في القتل والتمثيل، تجربة إصدار الحكم والإدانة بلا محاكمة. محمّد الحجّار وقف قبل قتل المُشتبه فيه وطالب بإعدامه في ساحة البلدة أمام الناس. في أي بلد آخر، يمكن أن يتحمّل الحجار ـــــ نائب مسخ الأمة ـــــ مسؤوليّة معنويّة في استثارة غرائز العامّة. وترجع إلى مهرجان الأرز البذيء بعد اغتيال الحريري: زها مرّة واحد من أصحاب الشركات الإعلانيّة بتحضير صور للمنفّذين المُفترضين لجريمة اغتيال الحريري قبل أن تُشكل محكمة للنظر في الاغتيال. وقد سكّ الجهاز الإعلامي لآل الحريري عبارة «الاتهام السياسي» الذي يناقض كل الأعراف القانونيّة في الدول ذات الحد الأدنى من الديموقراطيّة. اليساري السابق إلياس عطا الله الذي يرتبط باليسار مثلما يرتبط محمد دحلان بمقاومة الاحتلال، كان يكيل المديح إبان ثورة جيفري فيلتمان لـ«حدس» الناس في اتهامهم من دون دلائل لقَتَلَة فقيد عائلته. الياس عطا الله في كلامه عن «حدس» جماهيري بالاتهام والإدانة (وإن لم يتكلّم عن حدس في تنفيذ العقوبة) كاد أن يتنبأ بجريمة كترمايا. أي إن المُشتبه فيه محمد مسلّم (وهو مُشتبه فيه، كما ذكّرهم عمر نشّابة في «الأخبار») يصبح مُداناً إذا حصل تبلور لـ«حدس» الجماهير المحتشدة التي عرفت هويّة قاتل الحريري من دون انتظار تشكيل تلك المحكمة «الكانغاروويّة»، التي يتكفّل الشعب اللبناني ـــــ لا آل الحريري ـــــ تسديد نصف نفقاتها وكأن جريمة اغتيال الحريري تفوق في فظاعتها أي جريمة اغتيال أخرى، بما فيها جرائم حرب إسرائيل في لبنان، التي لم تطالب الحكومة اللبنانيّة بعد بمقاضاتها على حرب تمّوز، ربّما لأن حسابات الطامح للرئاسة، شارل رزق، تعارضت مع ما يسمّيه الجهاز الإعلامي لآل الحريري «المجتمع الدولي». يستطيع كوميسار كتلة حلف وارسو السابق، وكوميسار حلف الأمير مقرن حاليّاً، أن يجعل من «حدس» الجماهير بديلاً من الجهاز القضائي برمّته، وخصوصاً أن بعض الشعب في لبنان أظهر استعداداً ليس فقط للانخراط في برامج تحريض طائفي، بل لبيع النفس في مواسم
الانتخابات.
طبعاً، من الظلم تحميل أهل كترمايا وحدهم المسؤوليّة، أو حتى بعضهم. الجو العام في البلاد، بالإضافة إلى الثقافة السياسيّة السائدة في لبنان، هي المسؤولة. قوى الأمن الداخلي هي المسوؤل الأول. لعلّ هبة أميركيّة أخرى تصلح الأمر. كما أن السلطة السياسيّة هي المسؤولة إذا تخلّفت عن معاقبة المسؤولين في قوى الأمن، على أن يتمّ اختيارهم وفق التوزيع الطائفي، التماساً للعدل والوفاق، كما نص ميثاق مسخ الوطن. لكن العنصريّة لعبت لعبها في جريمة قتل المُشتبه فيه. ماذا لو كان المُشتبه فيه عاملاً سوريّاً، مثلاً؟ من المؤكّد أن عدداً من العمال السوريّين كان سيُعلّق شنقاً في أكثر من منطقة من لبنان. وقتل العمّال السوريّين في لبنان، والاعتداء عليهم (تقوم مراسلة أجنبيّة في لبنان بتصوير عمّال سوريّين يتجوّلون في أنحاء مختلفة وهم مصابون برضوض وحروق من جرّاء اعتداءات مختلفة عليهم، ولقد أرتني بعض تلك الصور الفظيعة، ولكنهم يتمنّعون عن تقديم الشكاوى لأن الشرطة اللبنانيّة لا تنظر في أمرهم) لا يحظى بنقاش في تلك اللجان اللبنانيّة ـــــ السوريّة المشتركة. هناك ما هو أهم، على ما يبدو. ماذا لو كان المُتهم فلسطينيّاً؟ هل كان الأهالي سيقومون بإحراق مخيّم فلسطيني؟ وماذا لو كان سريلانكيّاً؟ أما لو كان سعوديّاً، فكان سيُخطف على الأرجح، وتُطالَب دولته بفدية محترمة. أما لو كان أوروبيّاً أبيض، فقد كان سيترك في حال سبيله ويقدّم إلى سفارته مُكرّماً.
أي إن جنسيّة المتهم ساهمت في استسهال عمليّة السحل والقتل والطعن. إن الحشد الكترماوي وجد أن ضحيته سهلة التعذيب والقتل والتمثيل. محمد سلام، الكاتب في موقع «ناوليبانون» (الحريري الآن، وغداً) أعاد رسم الصورة سياسيّاً. أراد أن يقول إن المشهد في كترمايا لا يتنافى مع الحضاريّة، واستشهد بوجود فرق موت (هكذا) من محامين وأطباء ومهندسين ومصرفيّين في أميركا. محمد سلام يستقي معلوماته عن أميركا من أفلام تشارلز برونسون وكلينت إيستوود، على ما يبدو. لكن سلام يقول ـــــ في ما يقول ـــــ إن قتل المُشتبه فيه هو «تطبيق مباشر للعدالة». وإذا كان سلام هو عن حق «سوسلوف» حركة الحريريّة، فإن الإعداد للحرب الأهليّة يجري على قدم وساق ـــــ يصح الاستنتاج.

فرصة ذهبيّة للمجتمع البورجوازي اللبناني كي يصدر أحكامه ضد أهل الريف الدونيّين
التطبيق المباشر للعدالة قد ينتشر، وهو يرتبط برأي سلام في... سلاح المقاومة. (يساري سابق على الموقع ذاته رأى الحل في عودة حبيبته دولة آل الحريري إلى الحكم المنفرد). والطريف أن محمد سلام في دفاعه المبطّن عن فعلة بعض العامّة في كترمايا يستنجد بصفة «المجتمع» و«المواطن» لإضفاء طابع ديموقراطيّ على الفعلة. إنه حكم الشعب، أراد أن يقول (وهذا كان دفاع الأقليّة البيضاء عن أفعال الـ«لينشنغ» في «عمق الجنوب» في الولايات المتحدة في القرنيْن التاسع عشر والعشرين). ويجاري فارس خشّان سلام بالقول إن جريمة الانتقام الشنيعة «مفهومة».
الحكومة المصريّة تتصنّع الوقار وتلتزم الهدوء، فقط لأنها لا تريد إزعاج حلفائها في لبنان. هي الحكومة نفسها التي كادت أن تشعل حرباً ضد الجزائر بسبب مباراة كرة قدم. والبعض على الإنترنت يريد بصورة مشبوهة أن يسعّر حدّة الكره الشوفيني بين العرب، فيشعل نار الكراهية بين كل شعب مصر وشعب لبنان. لكن الذي حصل يثير تساؤلات فظّة: ماذا لو كان الجاني شيعيّاً، مثلاً؟ ألم يكن فريق الأمير مقرن قد صاح بضرورة نزع سلاح المقاومة لأنها أصل البلاء؟ ألم يكن إعلام آل سعود وآل الحريري سيُجمع أن سلاح المقاومة هو الذي دفع الأهالي لارتكاب جريمتهم العلنيّة؟
يستطيع شعب لبنان أن يتشدّق بكلام عن حضاريّته، ويستطيع زعماؤه من مختلف الطوائف إقناع القطعان بأن بلدهم ديموقراطي. رئيس الجمهورية قال إن لبنان أرقى من السودان (في كلامه عن الكوتا النسائيّة). لكن مهرجان كترمايا هو الوجه الحقيقي للبنان، لا الاستثنائي. هناك من يردّد قولاً فارغاً أن لبنان هو أكثر من وطن، إنه «رسالة» (لا ندري ما هي الرسالة). قد يكون هذا صحيحاً: لبنان هو رسالة كترمايا.
* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا
(موقعه على الإنترنت:
angryarab.blogspot.com)