قد يبدو الحديث عن العلمانية في السعودية ضرباً من الجنون بسبب الفتاوى الهائلة التي تكفّر العلمانيّين وبسبب الأرض التي تضم حدودها الحرمين الشريفين ونشوء الدولة على تحالف بين مؤسسة دينية ومؤسسة سياسية. ولكن النخب السعودية قد تجد نفسها مضطرة للتعاطي مع هذا الجنون لاستكمال بناء الدولة الحديثة وتعزيز الولاء للنظام السياسي وتصحيح علاقات المؤسسة الدينية بالسلطة والمجتمع
أحمد عدنان *
الحديث عن العلمانية في السعودية كخيار لا بد منه، يقف وراءه ثلاثة محرّضات: تصريح وزير الخارجية الأمير سعود الفيصل في 14 آذار/ مارس 2010 لـ«نيويورك تايمز»: «السعودية الآن تتحرر من أغلال الماضي وتسير إلى مجتمع ليبرالي»، الخبر الذي تناقلته وسائل الإعلام أخيراً عن حصول مواطن سعودي على حق اللجوء السياسي في نيوزلندا بسبب اعتناقه المسيحية، والحرب الدورية بين الليبراليين والتيار الإسلاموي في ساحة الصحافة السعودية والإعلام.
العلمانية، كأي مفهوم في فضاء العلوم النظرية يحتمل تعريفات واسعة، منها: «الفصل بين الدين والدولة»، «نظام أخلاقي واجتماعي يقوم على اعتبارات الحياة المعاصرة وتبني المدنية والمواطنة، ورفض تدخل المؤسسة السياسية في أمور الاعتقاد... ورفض تدخل المؤسسة الدينية في أمور السياسة».
وهذه التعريفات المتعددة، أدت بالضرورة إلى نماذج تطبيقية متباينة كما يوردها رقيق عبد السلام في بحثه «السياسة والدين في العصر الحديث»: نموذج التصادم مع الدين كما في المثال الشيوعي، ونموذج حياد الدولة إزاء الشأن الديني كما في الدول الإسكندنافية، وأخيراً نموذج التناغم مع الكنيسة (المؤسسة الدينية) كما في الولايات المتحدة وإيطاليا وبريطانيا. ونلاحظ من خلال أغلب النماذج أن تطبيق «الفصل» بين الدين والدولة أو تحييد الدين في الحياة السياسية بصورة مطلقة لم يتحقق لمصلحة موضعة المؤسسة الدينية كأحد معطيات الحياة العامة دون هيمنة أو تسلط. ويجدر التأكيد على خطأ منهجي بالحكم على العلمانية عبر أحد تجلياتها، كما يقع في ذلك بعض الباحثين الإسلامويين، والأصوب قراءتها في سياقها التاريخي ومجموع أمثلتها والمحصلة النهائية لتطبيقاتها.

العلمانية ليست ديناً ولا تتناقض مع الإسلام، ولكنها تتصادم مع تيارات الإسلام السياسي وبعض رجال الدين

وبدون الخوض في التفاصيل، نستطيع استعراض جذور العلمانية منذ انطلاقة حركة الإصلاح البروتستانتي في القرن السادس عشر التي شددت في بواكيرها على الكتاب المقدس مرجعاً وحيداً لتفسير العقيدة المسيحية وحرية هذا التفسير... وتقديم الطاعة للسلطة الزمنية على حساب السلطة الروحية أو ما يعرف بـ«السلطان المطلق للملوك»... كردة فعل على طغيان الكنيسة الكاثوليكية ــــ وليس الدين المسيحي ــــ وأخطائها (صكوك الغفران، محاكم التفتيش، نفوذ البابا المطلق، تحالف الكنيسة مع الإقطاع). وقد أتاح ذلك مؤازرة شعبية ونخبوية للحركة التي تزامنت، بشكل أو بآخر، مع قيام الممالك والإمارات الصغيرة على أنقاض الإمبراطورية الرومانية الغربية، ونزعة بعض الأمراء والملوك للاستقلال عن النفوذ البابوي، ما حقق أرضية سياسية تتعاطف مع الحركة، وبداية الكشوفات الجغرافية، ثم النزعة الاستعمارية والتحول إلى الحداثة الصناعية، التي خلقت مبرراً آخر، اقتصادياً، لاستقلال السلطة الزمنية عن الكنيسة تحت تحريض مصادرة ممتلكاتها وعدم إعفائها من الضريبة!
ووفقاً لهذه المعطيات، نشبت خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر معارك دينية في أوروبا بين البروتستانت والكاثوليك، وطّدت في النهاية سلطان البروتستانت في شمال القارة الأوروبية، وربما أغلبها، لينحصر المذهب الكاثوليكي في جنوبها.
وخلال احتدام هذه المعارك، بقيت السلطة الزمنية غالباً على ظلم الناس ودعم الإقطاع الزراعي. لذلك، اتجهت النخب الأوروبية في نتاجها الفكري إلى تقييد سلطان الملك بالله وبالشعب. وبعد ذلك، مع تطور الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، نضجت فكرة «أن سلطة الملك تستمد من الشعب وحده» فتتبلور نظرية العقد الاجتماعي: «رضى المحكوم أساس سلطة الحاكم».
وخلال هذا السياق المعقّد، ومع تبلور مفهوم الدولة القومية وانتقال أوروبا من مرحلة الاقتصاد الزراعي إلى الحداثة الصناعية ونموّ المدينة، وبالتالي نشوء الطبقة البرجوازية، اشتعلت الثورة الفرنسية في 1789 كانتفاضة على الإقطاع الزراعي والنفوذ الكاثوليكي والسلطة المطلقة للملك بشعارها المشهور (حرية، إخاء، مساواة). وإن كانت الحركة البروتستانتية عاملاً غير مباشر في قيام الثورة الفرنسية، إلا أن هذه الثورة تأثرت مباشرة بثورتين سبقتاها زمناً: الثورة البريطانية 1688، ووثيقة الحقوق التي أصدرها البرلمان البريطاني 1689، والثورة الأميركية التي بدأت بحفلة الشاي 1773 وشعارها المعروف «لا ضرائب بدون تمثيل» ثم إعلان الاستقلال في 1776 الذي جاء فيه: «إننا نؤمن بأن الناس خُلقوا سواسية، وأن خالقهم قد وهبهم حقوقاً لا تقبل المساومة، منها حقّ الحياة والسعي لتحقيق السعادة». وهنا نلمس إحياءً جديداً للديموقراطية، التي نشأت منذ دولة المدينة في الحضارة اليونانية، عبر البرلمان البريطاني الذي حقّق السلطة العليا بعد الثورة البريطانية والكونغرس بعد الثورة الأميركية، ومجالس الثورة الفرنسية. ومن خلال هذه الثورات نشير إلى تكوّن البذور الأولى لمفهوم حقوق الإنسان (الذي توّج في ما بعد بإعلان الأمم المتحدة 1948).
هذه التطورات أدت إلى آثار اجتماعية واقتصادية أبرزها: حرية الاعتقاد وحرية الفرد والسوق المفتوح تحت عنوان عريض هو «الليبرالية»، أي حق أي إنسان في أن يحيا حراً وفق قناعاته تحت مظلة مسؤولية الاختيار، وحرية اختيارات الآخرين، مع التأكيد على أن الليبرالية في الأصل مفهوم اقتصادي مثّل النقيض، لاحقاً، في مواجهة الاشتراكية والشيوعية.
الخلاصة من هذا السرد التاريخي أن العلمانية ليست مفهوماً مغلقاً، بل متسلسل يرتبط بمفاهيم «الديموقراطية»، «الحداثة»، «الليبرالية»، «المواطنة»، و«حقوق الإنسان». وتكمن أهمية هذه الإشارة في وضع الصراع مع جماعات الإسلام السياسي في إطاره الدقيق، أي كتحد ثقافي واجتماعي لا مجرد الاختلاف على تفسير النصوص الدينية. وفي إطار آخر، توصيف الاختلاف بين الشعوب وبعض الأنظمة في سياقه السليم، أي المنطق الحقوقي والسياسي في المجمل، لا المباهاة بمحاربة جماعات الإسلام السياسي أو عدم تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية كما الحال في سوريا وتونس على سبيل المثال. وبالتالي، فإن الحديث عن اجتزاء مفهوم بعينه، دون غيره، من هذا التسلسل سيفضي إلى نموذج يعيد إنتاج التخلف بدلاً من معالجته.
إذاً، فالحديث عن الخيار العلماني يعني في محصلته النهائية: الاستقلال المتبادل بين المؤسستين السياسية والدينية وعدم الخلط بين المعايير الدينية والمعايير السياسية. الشعب هو مصدر المشروعية الوحيد للنظام السياسي وصاحب الحرية في تحديد موقفه من المؤسسة الدينية، والدين، دون إكراه، ويتألف هذا الشعب من أفراد، وكل فرد (مواطن) له حقوق وواجبات متساوية مع غيره دون تمييز ودون حاجة الانتماء إلى قبيلة أو إقليم أو حزب أو مؤسسة أو طائفة. ومن أهم هذه الحقوق: الحق في الحرية والحياة، المساواة أمام القانون، حرية التفكير والضمير والتعبير. وفي مقابل هذه الحقوق، على المواطن واجبات أهمها: موالاة النظام السياسي واحترام القانون وتفويض النظام باستخدام الإكراه المشروع. ومجموع هذه الحقوق والواجبات يعبر عنه من خلال عقد (دستور أو نظام أساسي للحكم) بين المواطن والمؤسسة السياسية التي يجب أن تتسم بالفصل بين السلطات الثلاث وتداول السلطة والخضوع للمراقبة والمحاسبة، على أن يكون المواطن هو صاحب الكلمة الأولى في التداول والمحاسبة عبر «المشاركة الشعبية» التي هي الأصل في العملية السياسية ومحورها.
لذلك، فالدولة الحديثة بطبيعتها لا يمكن إلا أن تكون علمانية، والحديث عن استكمال بناء الدولة ومؤسساتها أو إصلاحها، من وجهة نظري، يعني الاقتراب من مفهوم العلمانية. أما الابتعاد عن نوايا الإصلاح وبناء المؤسسات، فيعني، أيضاً، الابتعاد عن العلمانية.
والدولة كمفهوم، ليست وليد الثقافة الإسلامية أو العربية. وحتى الإصلاحات التي أدخلها الخلفاء على دولة المسلمين، أتت اقتباساً أو تقليداً لنموذجي الفرس والروم، وبالتالي لا يعيب الحاكم المسلم في هذا العصر اقتباس منظومة الحكم الغربية وإجراءاتها، وخصوصاً أن الدين الإسلامي لا يحمل في مصادره الأصلية نظرية سياسية تحدد مواصفات الحاكم وشروط تعيينه وعزله أو تقدم منهجية واضحة لصنع القرار السياسي.
ويعزز هذا الاتجاه أن العلمانية ليست ديناً، وليست في مواجهة الدين، لأنها ولدت علاجاً للحروب الدينية في أوروبا في القرن السادس عشر انتصاراً لحرية الاعتقاد وإنقاذاً لكيان الدولة. ويشرح هذه النقطة د. رقيق عبد السلام: «العلمانية السياسية، بما هي فصل الكنيسة عن الدولة، لم تكن خياراً أيديولوجياً بقدر ما كانت حلاً إجرائياً فرضته الصراعات الدينية في حالة تاريخية كانت مطبوعة بالتصدع والأزمات الخانقة، بما جعل من غير الممكن تأسيس الاجتماع السياسي والثقافة العامة على أساس وحدة الدين، وقد اقتضى ذلك إعادة بناء التفكير الديني على ضوء الموازنات الجديدة التي أفرزتها هذه الحروب الدينية». ونستنتج من السياق التاريخي للعلمانية أنها حاجة للدول ذات الدين الواحد، بسبب تعدد تفسيرات الدين، وللدول ذات الأديان المتعددة على السواء.
العلمانية أقرب إلى الصدام مع بعض رجال الدين، وتحديداً أولئك الذين يحتكرون تفسير الدين ولا يرون للآخرين، وإن كانوا رجال الدين أيضاً، حقاً في أن يحملوا تفسيرهم الخاص. وتتصادم الدولة العلمانية كذلك مع كل رجل دين يعتقد بتميّزه عبر سلطة سياسية أو وصاية ثقافية واجتماعية أو قوة إكراه على المواطنين لمجرّد دوره الوظيفي دون قبول المواطن أو رضاه، وخصوصاً أنّ قوّة الإكراه المشروعة محتكرة في يد الدولة وحدها.
حين تتصور أغلب جماعات الإسلام السياسي أن الدولة العلمانية موجّهة ضد الإسلام تحديداً، لا يلاحظون قيادة حزب إسلامي (العدالة والتنمية) لتركيا، أعتى الدول علمانية في العالم الإسلامي، ولا يدركون أن حضارة المسلمين مكوّن أساسي في الفكر العلماني. وهنا نستشهد بمحمد جابر الأنصاري الذي كتب في صحيفة «الحياة» بتاريخ 21 نيسان/ أبريل 2010: «ولكن بحكم نشوء قوى (مدنسة) أو (دنيوية)، بالنسبة للكنيسة، في الفكر والمصالح والحياة، وهي قوى (للمفارقة العجيبة) تنامت مع تأثر أوروبا بالمعطيات العلمية للحضارة الإسلامية، فقد أسهم هذا التأثير العلمي للمسلمين في رفد تلك القوى الأوروبية الصاعدة وتحرير عقولها من السطوة الكنسية لترفع في وجهها مطلب (العلمانية)». ومن قبله نلاحظ في نتاج محمد عابد الجابري حرصه، في أكثر من مؤلف، على التأكيد على المرجعية الإسلامية لأفكار علمانية مثل العقد الاجتماعي وتأثر فلاسفة التنوير والإصلاح الديني في أوروبا بالحضارة الإسلامية والقرآن الكريم.
قد تستشهد تيارات الإسلام السياسي بممارسات في دول علمانية لتكريس التصور الشائع والخاطئ بالعداوة بين العلمانية والدين أو بين العلمانية والإسلام. وهنا من الضروري رفض هذه الاستشهادات، أو وضعها في سياقها الاجتماعي والثقافي، إلا إذا أرادت تلك التيارات اعتبار طالبان نموذجاً لمشروع الإسلام السياسي!
في الدول التي ترفع لواء الإسلام السياسي، تعاني الأقليات المسلمة، التي تنتمي إلى مذهب يختلف عن مذهب الأغلبية، قبل غيرها من اضطهاد وتمييز. ولكن كل هذه الطوائف والمذاهب تحيا في أغلب الدول العلمانية دون شكوى أو تذمر، وبالتالي نجزم بأن الدولة العلمانية لا تعادي الإسلام، ولكنها تتصدى لتسييس الإسلام أو ولاية الفقيه أو احتكار تفسير الدين لتتمتع الأديان والمذاهب، في مجملها، بحرية كبيرة. ويحقق الفقيه استقلالاً صادقاً، فإذا كان الفقيه يرى تحليل التدخين أو الاختلاط أو تحريمهما، على سبيل المثال، فإنه يستطيع أن يعبر عن رأيه، مهما كان، بغض النظر عن مرونة الظرف السياسي أو تصلبه. وفي مقابل هذه الحرية، يتاح للمواطن، على الصعيد الشخصي، تطبيق هذه الفتوى أو رفضها. أما إذا أراد الفقيه، من زاوية أخرى، أن يبيح قتل دعاة الاختلاط أو ملاك الفضائيات أو تعقيم طائفة معينة، فهنا من الواجب أن تتصدى له الدولة وتنزل به أشد العقوبات، كونه حرض على عمل إجرامي واعتدى على السلم الأهلي والوئام الاجتماعي.
العلمانية، على كل حال، ليست مطلباً أقلوياً بالدرجة الأولى، لأن هدفها الأسمى تحرير النظام الاجتماعي من القيود، لا القيم، وكفالة العدل والمساواة لجميع المواطنين.
حين ينتقل الحديث عن العلمانية إلى السعودية التي قام نظامها السياسي على تطبيق الكتاب والسنّة، فإنّ هذا يعني تخصيص قيم مستمدة من الكتاب والسنة أو لا تتعارض معها، أي إقامة العدل وضمان حرية المواطن وحقوقه المدنية وأمنه، أما أساس شرعية النظام فهو رضى المواطن وقبوله بقيام النظام بهذا الدور. وبالتالي، فإنّ علمنة النظام الأساسي للحكم تعني الإيمان به عقداً اجتماعياً حقيقياً بين النظام السياسي والمواطنين.
والحديث عن أرض الحرمين في المملكة، من الواجب أن ينتقل من الزاوية السياسية إلى الزاوية الفقهية، بمعنى أن السعودية ليست أرض الحرمين، بل فيها أرض الحرمين التي لها أحكام خاصة لا يجوز أن تطبق على غيرها مثل أحكام الصيد على سبيل المثال. وهي خصوصية يجب أن تحترم في كل الأحوال دون تمدد أو تعميم. وإذا كانت هناك مسؤولية معنوية على السعوديين لوجود الحرمين الشريفين في نطاق حدودها، فلا شك بأنها التأكيد على سماحة الإسلام وحضارته وتفاعله مع روح العصر واندماجه مع حقوق الإنسان وحقوق المرأة وتصالحه مع الديموقراطية والمواطنة. ولكننا، للأسف، نشاهد المؤسسة الدينية في السعودية تقوم بالدور المعاكس، والأمثلة لا حصر لها، مما ينعكس سلباً على صورة الإسلام في العالم، ويعيق مسيرة التحديث والتطوير في السعودية.
علمنة القضاء السعودي تظهر في إزالة الحساسية من مفهوم القانون وتقديمه على مفهوم الفتوى. وإذا استبعدنا الحدود والأحكام التي نص عليها القرآن الكريم، فسنلاحظ أن أغلب الأنظمة التي تطبق في المملكة هي أنظمة وضعية أو لم ينص عليها قرآن أو حديث، كنظام الخدمة المدنية أو نظام مجلس الوزراء أو نظام المناطق أو حتى نظام مجلس الشورى. فهذه الأنظمة وغيرها لم ترد في آية كريمة أو حديث شريف، وهنا يحتال البعض بحجة أن هذا النظام أو ذاك مستوحى من الكتاب والسنّة أو لا يتعارض معها. ولا يدرك هؤلاء أن القانون في قيمه العليا من إعلاء مبادئ الحق والعدل لا يتعارض أبداً مع الكتاب والسنّة، ولا يمكن أن تقوم الدولة فقط على تطبيق الحدود وأحكام المواريث وأداء الزكاة، والالتجاء إلى تقنين الفقه الإسلامي، الدليل الأبلغ على هذا التصور. ويمكن قراءة هذه المحاولة كاحتيال آخر على حتمية الالتفات إلى القانون الوضعي، لأن الاجتهادات الفقهية في النهاية نتاج بشري يخضع للصواب والخطأ والتغير. فتشابك مؤسسات الدولة وتعقيد دورها يقتضي الالتجاء، بالضرورة والقطع، إلى القانون الوضعي الذي يجب أن يصوغه المختصون وينال رضى المواطن مع احترام أحكام الإسلام في قوانين الأحوال الشخصية والحدود وفق ضوابط التخيير والتطوير لمراعاة غير المسلمين أو مختلف تفسيرات الدين الإسلامي وتأويلاته ومتطلبات الواقع ومستجداته.
علمنة التعليم السعودي، تعني حرية المواطن وحقه في تحديد التعليم الديني الذي يتلقاه أبناؤه كماً ونوعاً، وهنا يتحرر النظام من التصادم مع الأقليات (الإسماعيلية والشيعة) والتصادم مع المذاهب الفقهية السنية التي لا تدين بالمذهب الرسمي (الحنبلي) كالمالكية في المنطقة الشرقية والشوافع في المنطقة الغربية. وهذا ينطبق على المذاهب العقدية بين الأشعرية والماتريدية والسلفية. ويتوازى مع هذا المنهج إعلاء مكانة العلوم العقلية والدنيوية إلى المقام الذي تستحق، في سبيل النهضة والتحضر.
للأسف الشديد، فإن النخبة السعودية انساقت وراء النزعة الشعبوية في ذم العلمانية والتبرؤ منها. لذلك، فإن هذه النخبة مطالبة بتصحيح تلك الصورة المغلوطة، وخصوصاً أنّ العلمانية لم تغب عن الحياة العامة في السعودية عبر التيارات القومية واليسارية في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، وتتضح اليوم عبر بعض إسهامات ما يسمّى بالتيار الليبرالي.
ومن نتائج التبرؤ من العلمانية، الحرب (الإعلامية ــــ الثقافية) المشتعلة بين التيارات الفكرية في المملكة. ومن تجلياتها أخيراً الهجوم المتبادل بين الليبراليين والإسلامويين على خلفية الدعوة إلى الاختلاط، وإعلان د. محمد العريفي نيته زيارة القدس، وتصريحات متعددة للداعية يوسف الأحمد، وإلصاق تهمة الإساءة للرسول الأعظم بالكاتب يحيى الأمير. وقد سادت في هذه الحروب لغة متردية وعدائية من كل الأطراف بسبب خشية كل طرف من تبني المؤسسة السياسية دعوات الطرف الآخر!
إن الدعوة إلى التفكير في الخيار العلماني في السعودية لا تعني الرغبة في قهر التيار المحافظ أو الإسلاموي أكثر منها حلاً يمنع المحافظين من فرض أجندتهم على الغير. فالدولة العلمانية هي الدولة الحَكَم التي لا تنحاز إلى تيار ضد آخر، وفي الوقت نفسه، تمنع أي تيار من فرض أجندته على الآخرين. وهذا يستدعي ركيزتين، الأولى: حرية الفرد في اختيار قناعاته وممارسة حقوقه

الدولة العلمانية هي الدولة الحَكَم التي لا تنحاز لتيار ضد آخر، وتمنع أي تيار من فرض أجندته على الآخرين

دون أي مثبطات، والثانية، المساواة بين الأفراد أمام القانون وفي الحقوق والواجبات. ومعنى الحياد لا يقترب من سياسة جبر الخواطر (إقالة مسؤول يقترب من الإسلامويين مقابل إقالة مسؤول يقترب من الليبراليين أو إصدار قرار يرضي الليبراليين مقابل قرار يرضي الإسلامويين). إن معنى الحياد يتجسد في التزام الدولة بتأمين حقوق مواطنيها في الحياة والاعتقاد والتعبير، والتفريق بين مفهوم الحق ومفهوم الخير قبل التفريق بين مفهوم الخير ومفهوم الشر. فالحقوق متفق عليها، ويفترض أن ينص عليها «الدستور أو النظام الأساسي للحكم» و«القانون» والمواثيق والمعاهدات الدولية. أما «الخير»، وإن كان يستظل بالحق، فيبقى مفتوحاً لتفسيرات متباينة وتطبيقات عدة تختلف من زمن وآخر، ووجهة نظر وأخرى، بمعنى أن الحقوق تقترب من الثبات وتضمن العدل بينما يقترب الخير من التغير والتقلبات ويضمن التنوع.
وكما أنه ليس هناك أي تعارض بين العلمانية والإسلام، لا أجد تناقضاً بين العلمانية والنظام الملكي. فالنظام الملكي في مصر، قبل الثورة، كان نظاماً علمانياً، والنظام الشاهنشاهي السابق في إيران هو الآخر علماني، وكلها ملكيات فاعلة، وليست صورية. ونضيف إليها الحكم الملكي في الأردن والحكم الملكي في المغرب (نص دستورا الأردن والمغرب على أن الأمة هي مصدر الشرعية والسلطة، وسيادة القانون، والفصل بين السلطات)، وهذه الإشارات تستلزم التنويه إلى خطأ شائع يتمثل في اصطلاح دين الدولة أو الفرد العلماني، فالعلمانية صفة تطلق على الدولة وحدها، وهذا رأي د. عبد الوهاب أبو سليمان عضو هيئة كبار العلماء في السعودية، وفي المقابل لا دين إلا للأفراد، فالدولة جهاز مثلها مثل أي جهاز آخر، لا يصلي ولا يصوم ولا ينطق بالشهادتين، ولم أسمع يوماً عاقلاً يصف المصعد أو الوعاء بأنه ينتمي إلى دين معين!
إن شيوع صورة نمطية (سلبية) عن العلمانية في السعودية واضح ومبرر لظروف نشأة الدولة وموقع رجال الدين اجتماعياً وثقافياً وسياسياً. لذلك، المطلوب معالجة هذه الصورة من منظار البحث قبل منطق التبشير، والوصول إلى السياق المأمول يتحقق باستكمال مشروع إصلاح الخطاب الديني الإسلامي وتجديده باتجاه تصالح حقيقي مع المدنية والمواطنة وسيادة القانون والحرية وحقوق الإنسان وحقوق المرأة وإعلاء قيمة العقل والمنهج العلمي. ولعل الخطوة الأولى تكمن في تأمل أصول الإسلام التي أوردها الإمام محمد عبده في كتابه «الإسلام دين العلم والمدنية»: النظرة العقلية في تحصيل الإيمان، وتقديم العقل على ظاهر الشرع عند التعارض، والبعد عن التكفير، ومودة المخالفين في العقيدة، وقلب المؤسسة الدينية والإتيان عليها من أساسها، والجمع بين مصالح الدنيا والآخرة، وحماية الدعوة، والاعتبار بسنن الله في خلقه وتجارب الأمم الأخرى.
* صحافي سعودي