strong>بلال الحسن*ولدت المبادرة الفلسطينية الجديدة، التي أطلقت تحت اسم «الهيئة الوطنية الفلسطينية للدفاع عن الحقوق الثابتة»... فماذا تريد هذه الهيئة أن تقول؟
تريد أولاً: أن تسجل، وأن تروي، وأن تكرر، ذكر الحقوق الثابتة للشعب الفلسطيني، لكي تبقى هذه الحقوق ماثلة أمام الجميع دائماً، ولكي تكون ركناً أساسياً في ثقافة الجيل الفلسطيني الجديد، الجيل الفلسطيني الشاب، الذي نما وترعرع وهو يسمع مفردات منهج أوسلو: الإرهاب، المفاوضات، حدود 1967، تبادل الأراضي، المياه، المستوطنات، اقتسام القدس ورفض حق العودة.
وغابت عن الذكر تماماً أسس القضية الفلسطينية الأصل وثوابتها. هذه الثقافة عن الحقوق الثابتة يجب أن تبقى لأنها المنبع الحقيقي والوحيد لأي سياسة فلسطينية يرسمها أفراد هذا الجيل الشاب الذي لا بد، عاجلاً أو آجلاً، من أن يأخذ القضية بين يديه، ويتولى إدارتها وتسييرها بنفسه.
نريد ثانياً: أن يعرف الجميع، أنّ هناك رواية فلسطينية للتاريخ الفلسطيني هي التي تعبّر عن تلك الحقوق الثابتة، تقابلها رواية صهيونية مزوّرة تحاول طمس الجريمة التي ارتكبت بحق شعب فلسطين، كما تحاول تصوير روايتها على أنها هي الحقيقة، وليست الرواية الفلسطينية.
ونريد هنا أيضاً أن يعرف الجميع أن قادة الشعب الفلسطيني في كل المراحل، كانت تعرف تلك الرواية، وتتمسك بها، وتستخلص منها سياستها. وبقيت الرواية الفلسطينية حية وثابتة، يتداولها جيل بعد جيل، وترويها قيادة بعد قيادة، وجرى تثبيتها في «الميثاق القومي الفلسطيني 1964»، ثم في «الميثاق الوطني الفلسطيني 1968»، وتربى عليها جيل كامل من الفدائيين والمناضلين، حتى جاء اتفاق أوسلو، وطرح العدو الإسرائيلي شرطه الأساسي بضرورة تعديل الميثاق الوطني الفلسطيني وإلغائه، وتم ذلك في اللقاء الموسع (وليس في المجلس الوطني الفلسطيني) الذي انعقد في غزة عام 1998، وأعلنت فيه الموافقة على تعديل الميثاق وإلغائه، بحضور الرئيس الأميركي بيل كلينتون.
هنا حدث أمر خطير للغاية، إذ أقدم نفر من الشعب الفلسطيني ومن القيادات الفلسطينية، على الموافقة على إلغاء الرواية الفلسطينية للتاريخ الفلسطيني، إلغاء الرواية الفلسطينية للمأساة الفلسطينية. وحين شطبت الرواية الفلسطينية لم يبقَ حاضراً على طاولة التفاوض سوى الرواية الصهيونية للتاريخ الفلسطيني.
وكان هذا الاستسلام أخطر ما جرى في تاريخ القضية الفلسطينية، لأن نتيجته المنطقية الوحيدة، الاعتراف الفلسطيني بصواب الرواية الصهيونية لتاريخ الصراع. القول بأن الفلسطينيين كانوا على خطأ حين ناضلوا من أجل الحفاظ على وطنهم، وأن الصهيونيين كانوا على صواب حين بادروا إلى الاستيلاء على الوطن الفلسطيني. حين بادروا إلى «تحرير» الأرض التوراتية من «احتلال» الفلسطينيين لها، كما يقول الفكر الصهيوني.
وبسبب هذا، فإن الهيئة الوطنية الفلسطينية، ترفع إلى مستوى الحق الثابت، مطلب التمسك بالميثاق الوطني الفلسطيني، ورفض كل محاولة لتعديله أو إلغائه. لا لأن الميثاق لا يمكن أن يعدل في هذا البند أو ذاك، فهو أساساً من وضع البشر وليس نصاً مقدساً، بل لأنه يتضمن روايتنا ورؤيتنا لتاريخنا، وهي رؤية ورواية لا يمكن أن تتغير ولا يمكن أن تتبدل، وهي أساس شرعية نضالنا، وهي ما يجب أن نورثه لأجيالنا حتى تبقى قائمة ومتصلة.
نريد ثالثاً: أن نوضح أن السياسة عرضة للتبدّل والتغيّر في كل زمان ومكان، ولكن ما ليس عرضة للتبدل والتغير هو حق الشعب الذي تعرض للتهجير القسري، بالمقاومة، وبكل أشكال المقاومة، من أجل العودة إلى وطنه. وحق الشعب بأن يمارس حق تقرير المصير فوق أرض وطنه من أجل رسم مستقبله بنفسه.
إن تأكيد الثوابت، ونشر ثقافة الثوابت، وتوريث الثوابت من جيل إلى جيل، هي التي تضمن ولادة قيادات فلسطينية جديدة تواصل السير على الطريق نفسه. وفي المهمات الراهنة، فإن ثقافة الثوابت الفلسطينية هي التي تنشر مناخاً سياسياً وفكرياً ونضالياً، يمثّل المناخ المناسب لمد حركات المقاومة بمناضليها، المناضلين الذين يعرفون حقوقهم الثابتة ولا ينسونها.
نريد رابعاً: أن نوضح أن العدو الصهيوني الذي يمثل حالة عنصرية واستعمارية، ليس صالحاً وليس مؤهّلاً، ليكون طرفاً في مفاوضات مع الشعب الفلسطيني. إن مفاوضات مقبولة وناجحة، لا يمكن أن تجرى مع جهات عنصرية تصر على عنصريتها، أو مع جهات استعمارية تصر على مواصلة استعمارها. وبسبب هذا المضمون العميق لما تمثله إسرائيل وقياداتها الصهيونية، فشل اتفاق أوسلو، وفشلت من بعده كل أنواع التفاوض التي جرت. وهي تجربة يجب أن نتعلم دروسها، ويجب ألا تتكرر، ويجب ألا تحدث إلا بعد أن يعلن العدو تخليه عن مواقفه التي تتناقض مع أبسط بديهيات التفاوض.
نريد خامساً: أن نوضح أن ثوابت القضية الفلسطينية التي تعرضت للخطر، بدءاً من اتفاق سايكس بيكو، ثم وعد بلفور، ثم إعلان الانتداب البريطاني على فلسطين، ثم قرار التقسيم، لم تكن بداية حرب ضد الفلسطينيين فقط، إنما كانت في الجوهر والعمق، حرباً ضد العرب جميعاً، وحرباً ضد المنطقة العربية كلها. وكان من نتيجة ذلك أن النضال الفلسطيني حين بدأ ضد الحركة الصهيونية والانتداب البريطاني، إنما كان نضالاً فلسطينياً عربياً منذ اللحظة الأولى. واستمرت هذه القاعدة على امتداد التاريخ الفلسطيني الحديث. وكان النضال العربي يمثّل دائماً الحاضنة الأساسية للنضال الفلسطيني، بدءاً من ثورة 1936، وحرب 1948، وحرب 1967، وحرب 1973. ولم يحدث أن ابتعد النضال الفلسطيني عن النضال العربي إلا بعد الإعلان عن نتائج مفاوضات أوسلو السرية. وبالتالي لا يمكن إحياء القضية الفلسطينية من جديد، إلا بعد العودة إلى بناء علاقة تلاحم فلسطينية عربية جديدة، فالوضع العربي هو الأساس في النضال ضد إسرائيل، ودور الفلسطينيين هو إبقاء القضية حية إلى أن يحين أوان الحسم، بمساندة القوة العربية ومساعدتها. لقد غاب هذا المفهوم عن الحياة السياسية الفلسطينية، ولا بد من العمل بكل الوسائل لإعادة إحيائه، وهذا ما يمثّل هدفاً أساسياً من أهداف الهيئة الوطنية الفلسطينية.

الهيئة الوطنية الفلسطينية ترفع إلى مستوى الحق الثابت مطلب التمسك بالميثاق الوطني الفلسطيني
نريد سادساً: القول إن الهيئة الوطنية الفلسطينية ليست فصيلاً جديداً، وليست حزباً، وهي لا تعادي الفصائل والأحزاب، بل تتعاطف مع كل فصيل يناضل ضد الاحتلال، ومع كل حزب يعمل من أجل حياة سياسية عربية تحافظ على الحقوق العربية. وهي حراك شعبي فلسطيني مستقل، يسعى إلى مخاطبة القوى الاجتماعية الفلسطينية، ودفعها إلى التحرك السياسي على قاعدة «الثوابت الفلسطينية». وهي تسعى من ناحية عملية إلى إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية، وبهدف أن تعود لتصبح مرة ثانية القيادة السياسية الجامعة للشعب الفلسطيني، على قاعدة الميثاق الوطني، وعلى قاعدة الثوابت الفلسطينية.
إن هذا الهدف الكبير يتطلب تجاوب الذين يسيطرون على منظمة التحرير الفلسطينية الآن، وهم الذين تآمروا عليها، ودمروا أجهزتها، وأفرغوها من مضمونها النضالي، وحولوها إلى أداة في خدمة السلطة الفلسطينية القائمة في رام الله، وهم الذين رفضوا منذ اتفاق 2005 في القاهرة (اتفاق إعادة بناء منظمة التحرير) حتى الآن، إدارة أي حوار لإعادة بناء المنظمة وانضواء الجميع تحت لوائها. فإذا واصلوا نهجهم هذا، فإن حراك الشعب الفلسطيني سيتخطاهم حتماً، وسيأخذ على عاتقه إعادة بناء المنظمة، لتكون من جديد، القيادة السياسية الموحدة للشعب الفلسطيني.
(جزء من نص أكبر أعدّ بالتعاون مع «الجزيرة – نت»)
* كاتب فلسطيني