تؤكد التجربة التاريخية أن لبنان كان دائماً صاحب مصلحة في إقامة علاقات اقتصادية مميزة بينه وبين سوريا. وفي الوقت الحاضر، لا يزال لبنان الأكثر إفادة من دفع عملية التعاون الاقتصادي مع سوريا نحو الأمام
نجيب عيسى *
في ظل السلطنة العثمانية، كانت الأراضي اللبنانية والسورية الحالية تمثّل جزءاً من مجال اقتصادي واحد، تتمتع حركة البضائع وعوامل الإنتاج فيه بحرية تامة. وتحت الانتداب الفرنسي، عاش البلدان في وحدة اقتصادية تحظى بموجبها حركة البضائع وعوامل الإنتاج أيضاً بحرية، تحميها تعرفة جمركية واحدة تجاه الخارج ويربطها مصرف مركزي واحد لإصدار النقد، بالإضافة إلى العديد من المؤسسات الإدارية ــــ الاقتصادية المشتركة، التي عرفت وقتها باسم «المصالح المشتركة»... والتي قارب عددها العشرين مصلحة. ومنذ أواخر القرن التاسع عشر، قام نوع من «تقسيم العمل» (التخصص) بين الجانبين (بادئ الأمر بين بيروت والداخل السوري. ثم، تحت الانتداب الفرنسي، بين لبنان وسوريا). فتركزت في بيروت ولبنان النشاطات المتعلقة بالعلاقات الاقتصادية مع الخارج (تجارة، ترانزيت، وكالات، مصارف، سياحة وخدمات بأنواعها...)، وفي سوريا بقي الإنتاج الزراعي مسيطراً على الاقتصاد، وبقي بالتالي مصدراً للإمداد بالمواد الزراعية عموماً والغذائية خصوصاً.

النمو الذي شهده لبنان منذ الخمسينيات كان بحاجة دائمة لليد العاملة السورية في قطاعي البناء والزراعة

بعد حصولهما على الاستقلال السياسي في الأربعينيات من القرن الماضي، أبقى البلدان على الاتحاد الجمركي بينهما، كما أبقيا على عدد من «المصالح المشتركة» كالجمارك والشركات ذات الامتياز تحت إدارة «مجلس أعلى للمصالح المشتركة». إلا أن هذا الوضع لم يدم طويلاً. فنتيجة لأخذ كل من البلدين بتوجه مختلف عن توجه الآخر على صعيد السياسة الاقتصادية (أخذت سوريا بسياسة حمائية لإنتاجها الزراعي والصناعي فيما أخذ لبنان بسياسة انفتاح واسع على الخارج وتركيز على النشاطات الخدمية)، دخلت العلاقات بين البلدين في أزمة متزايدة الحدة، انتهت بالانفصال الجمركي في عام 1950 وحدوث قطيعة استمرت ثلاث سنوات. وقد تبين خلال سنوات القطيعة أنه من غير الممكن ترك مجمل العلاقات الاقتصادية بين البلدين معلقة وأن هنالك بعض المسائل لا تحتمل معالجتها التأجيل. وهكذا سعى الجانبان إلى العمل على تنظيم ما يمكن تسميته بـ«علاقات الحد الأدنى». فكان الاتفاق التجاري الذي عقد بتاريخ 5/3/1953، والذي ظل حتى مطلع التسعينيات من القرن الماضي، يمثّل، مع بعض التعديلات التي أدخلت عليه، الإطار الرئيسي الحاكم للعلاقات الاقتصادية اللبنانية ــــ السورية. وقد تناول الاتفاق المذكور ثلاث مسائل رئيسية هي:
ــــ حرية تبادل الإنتاج الزراعي مع إمكانية فرض إجازات استيراد وتصدير.
ــــ السماح بتبادل عدد محدود من المنتجات الصناعية مع إعفاءات جمركية متفاوتة.
ــــ تسهيل الترانزيت.
المهم في الأمر هنا هو أن بنود هذا الاتفاق ظلت عرضة لعدم التنفيذ والتجاوز. وبالتالي، بقيت حركة تبادل السلع والخدمات بين البلدين محدودة كمّاً ونوعاً. ذلك أنّ الاختلاف بين البلدين، لناحية طبيعة النظام الاقتصادي والارتباطات السياسية الخارجية، أخذ في تلك المرحلة منحى أكثر حدة. وفي هذا السياق كانت تُغلَّب الاعتبارات السياسية على الاعتبارات الاقتصادية.
في ما يتعلق بلبنان، بقي اقتصاده حتى أواخر الأربعينيات الأكثر اعتماداً على الاقتصاد السوري (الذي كان مموّنه الرئيسي بالمواد الغذائية والسوق الرئيسي لمنتجاته الخدمية)، وكان بالتالي الأكثر تضرراً من القطيعة في عام 1950. وفي الخمسينيات والستينيات، وتحت تأثير العوامل التي استجدت في المنطقة العربية (إنتاج النفط والاحتلال الصهيوني لفلسطين وقيام أنظمة اقتصادية مدارة من الدولة)، اتسعت سوق خدمات لبنان لتشمل المنطقة العربية المجاورة، بعدما كانت سوريا سوقها الرئيسي. لكن هذا الأمر لم يكن من شأنه أن يلغي أو حتى يخفف من حاجة لبنان الاقتصادية إلى سوريا. فدور الوساطة الذي تولى القيام به وموقعه الجغرافي، جعلاه بحاجة دائمة إليها كمعبر ضروري للأشخاص والبضائع منه وإليه. لذلك كنّا نلاحظ أن لبنان بقي يلحّ في مسألة تنظيم العلاقة بين البلدين على جانب الترانزيت. ومع نمو القطاع الصناعي اللبناني الملحوظ بعد منتصف الستينيات، أصبحت المنتجات الصناعية التي يسمح الاتفاق التجاري لسنة 1953 بتبادلها، لا تمثل سوى جزء يسير من مروحة المنتجات الصناعية اللبنانية. وقد دفع ذلك الجانب اللبناني إلى التركيز على ضرورة إعادة النظر بهذا الاتفاق، لجهة تضمينه بنداً يسمح بتبادل مروحة أوسع من المنتجات الصناعية. وعلينا أن نلاحظ من جهة ثانية أن النمو الاقتصادي الملحوظ الذي شهده لبنان في الخمسينيات، وخصوصاً في الستينيات ومطلع السبعينيات من القرن الماضي، كان بحاجة دائمة لليد العاملة السورية الرخيصة، في قطاعي البناء والزراعة بخاصة.
أما سوريا التي مضت قدماً في مجال تحكم الدولة بمفاصل الاقتصاد الوطني وتوسيع القطاع العام (التأميم) وتصنيع بدائل الاستيراد وتقييد حركة البضائع والرساميل مع الخارج، فانحصرت علاقاتها الاقتصادية الخارجية تقريباً في دائرة بلدان المعسكر الاشتراكي. ولم تكن بحاجة لا للوساطة الاقتصادية اللبنانية ولا للمنتجات اللبنانية. واقتصرت متطلباتها منه على الجانب السياسي والأمني.
ومع انتهاء الحرب الأهلية في لبنان، طرحت مسألة إعادة تنظيم العلاقات بين سوريا ولبنان، بما فيها العلاقات الاقتصادية، فنصت وثيقة الوفاق الوطني (اتفاق الطائف) على وجوب إقامة «علاقات مميزة» بين البلدين. وفي هذا الإطار، وُقّعت بين الطرفين «معاهدة الأخوة والتعاون والتنسيق» بتاريخ 22/5/1991. ومثّلت مسألة التعاون والتنسيق على الصعيد الاقتصادي بين البلدين، أحد المحاور الرئيسية في المعاهدة المذكورة. فقد نصت المادة الثانية منها على أن «تعمل الدولتان على تحقيق التعاون والتنسيق بين البلدين في المجالات الاقتصادية والزراعية والصناعية والتجارية والنقل والمواصلات والجمارك وإقامة المشاريع المشتركة وتنسيق خطط التنمية». وكإطار إجرائي، نصت المادة السادسة من المعاهدة على تأليف «لجنة الشؤون الاقتصادية والاجتماعية» من الوزراء المعنيين، يكون من اختصاصها العمل على التنسيق الاقتصادي والاجتماعي للدولتين وإعداد التوصيات المؤدية إلى ذلك». وبالفعل جرى بعد ذلك، توقيع العشرات من اتفاقات وبروتوكولات التعاون في مختلف القطاعات الاقتصادية التي نصت عليها الوثيقة، بما في ذلك عدد من المشاريع المشتركة في قطاعات الصناعة والطاقة والري. لكن المهم في الأمر هو أن هذه الاتفاقات التي بقي معظمها حبراً على ورق، لم تؤدِّ عملياً، إلى أي تحول نوعي في العلاقات الاقتصادية بين البلدين. مع أن الوئام السياسي بينهما دام لمدة خمسة عشر عاماً تقريباً. والسؤال هو لماذا؟
من جهتنا، نرى أن السبب الرئيسي في عدم التقدم على طريق التعاون الاقتصادي بين لبنان وسوريا يكمن في عدم التجانس/ الانسجام، وأحياناً كثيرة، التناقض بين متطلبات الاتفاقات المعقودة من جهة والسياسات الاقتصادية المعتمدة من البلدين من جهة ثانية. والحالة اللبنانية السورية بهذا الخصوص هي تماماً الحالة العربية عامة. بمعنى أن السبب المذكور نفسه، هو الذي يفسر واقع العلاقات الاقتصادية المتردية بين البلدان العربية بالرغم من الكثير من اتفاقات التكامل الاقتصادي التي عقدت في ما بينها والتي تراوحت من اتفاقات لإقامة مناطق تجارة حرة إلى اتفاقات وحدة اقتصادية مروراً باتفاقات أسواق مشتركة...
إن اتفاقات التعاون الاقتصادي المعقودة بين لبنان وسوريا تضع البلدين على مسار تكامل اقتصادي. والتقدم على المسارات التكاملية الاقتصادية، يخضع عموماً لعدد من المتطلبات/ الشروط، أهمها:
أولاً: أن يكون هناك اتفاق بين الأطراف المعنية على الأهداف القريبة والمتوسطة والبعيدة المدى لمسيرة التكامل.
ثانياً: أن يكون هناك قبول بالتغييرات البنيوية الاقتصادية والاجتماعية التي تواكب هذه المسيرة داخل كل بلد. وأن يكون هناك بالتالي وعي للتكاليف الاقتصادية والاجتماعية التي تترتب على هذه التغييرات واستعداد لتحملها (المكاسب التي تنتج من كل شكل من أشكال التكامل تقابلها بالضرورة أضرار تلحق ببعض القطاعات الاقتصادية والفئات الاجتماعية).
ثالثاً: إن مسيرة التكامل (اتفاقات التعاون) لا يمكن أن تنطلق بنجاح من تلقاء نفسها أو من خلال السياسات الاقتصادية القطرية المعتمدة قبل عقد الاتفاقات، بل يتطلب الأمر وضع سياسات قطرية جديدة يكون في صلب اهتمامها توفير مستلزمات النجاح لمسيرة التعاون، من إزالة المعوقات التي تعترض تطبيق الاتفاقات إلى اتخاذ الإجراءات التي من شأنها جعل التحولات البنيوية تجري بسلاسة. مع ما يتطلب ذلك من تنسيق دائم بين هذه السياسات القطرية في مختلف المجالات الاقتصادية والمالية والنقدية والجمركية....الخ.
لقد عبر المسؤولون في سوريا ولبنان عند توقيعهم على اتفاقات التعاون عن رغبتهم في رؤية مسيرة التكامل الاقتصادي تصل إلى أبعد الحدود، بما في ذلك إقامة السوق المشتركة. وشاطرهم في هذه الرغبة ممثلو القطاع الخاص في البلدين. غير أنه لم يظهر بوضوح أن هناك وعياً/ قبولاً بما يترتب على مسيرة التكامل من تحولات لا بد منها في البنى الاقتصادية والاجتماعية. ومن ثم، لم يظهر أن هناك استعداداً لتحمل تكاليف التغيير. وجرت مقاربة التعاون الاقتصادي عملياً فقط من منظور المصالح الآنية للقوى/ الفئات المتحكمة بمفاصل الاقتصاد في البلدين. أي إن تطبيق اتفاقات التعاون بقي رهناً لمدى توافقه مع المصالح القائمة وعدم اصطدامه بالسياسات القطرية المعبرة أصلاً عن هذه المصالح. بهذا المعنى لم يمثّل التقدم على طريق التكامل الاقتصادي حاجة موضوعية لنجاح السياسات المعتمدة قطرياً.
في لبنان، كان الشغل الشاغل للمسؤولين هو معالجة المشاكل التي نتجت مباشرة من الحرب الأهلية (إعادة بناء البنى التحتية المادية وتحديثها، وتحقيق الاستقرار المالي والنقدي)، وذلك بهدف إعادة إطلاق عملية النمو الاقتصادي واستعادة دور الوساطة الخدمية في المنطقة العربية، في إطار من الليبرالية المفرطة. وبعد فترة تحول الاهتمام إلى معالجة التدهور المالي الذي تفاقم من جراء هذا التوجه. وقد أصبح من الواضح أن السياسات الاقتصادية والمالية والنقدية التي اعتمدت منذ توقف الحرب الأهلية لم تؤدّ إلى تحقيق النتائج المرجوة منها (التوازن المالي والنمو المستدام واسترجاع دور الوساطة...) وأنها بالمقابل زادت في حدة الأزمة البنيوية للقطاعات السلعية (الزراعة والصناعة) فرفعت كثيراً تكاليف الإنتاج فيها (التمويل، والمدخلات الأخرى من طاقة ونقل وأراض...الخ) وتركتها في وضع تنافسي يرثى له في الأسواق المحلية والخارجية. وهكذا تحوّل الاقتصاد اللبناني من اقتصاد يقوم على تصدير الخدمات إلى الخارج إلى اقتصاد ريعي استهلاكي يقوم على التحويلات المالية من الخارج (التي يأتي جزء رئيسي منها من جراء تصدير خبرة أبنائه إلى هذا الخارج والباقي من المساعدات الخارجية والسياحية...) مع ارتفاع معدلات البطالة واتساع دائرة الفقر.
أما في سوريا، فقد انشغل المسؤولون بمحاولة التوفيق بين الحفاظ على البنى الاقتصادية القائمة والمتناقصة الفعالية والضغوط المتزايدة للعولمة ومؤسساتها، باتجاه «تحرير» الاقتصاد وانفتاحه على الخارج (تنشيط القطاع الخاص وإزالة القيود والحواجز أمام حركة البضائع والرساميل مع الخارج). وكان السير في هذا الاتجاه بطيئاً خلال التسعينيات من القرن الماضي (كاد يقتصر على إصدار القانون الرقم 10 الذي لم يحقق النتائج المرجوة منه) وتسارع نسبياً بعد ذلك، وخصوصاً لناحية الانفتاح على استقبال الرساميل الأجنبية وتحرير المعاملات المصرفية. والنتيجة هي الآن نوع من التعايش بين قطاع عام واسع لكنْ مترهل وقطاع خاص حديث (محلي وأجنبي) يجذب الاقتصاد السوري نحو اكتساب المزيد من الصفات الريعية. فمعظم الاستثمارات الخاصة تتوجه في الوقت الحاضر نحو العقارات والمرافق السياحية، فيما العائدات من تصدير النفط الخام وتحويلات المهاجرين السوريين تمثّل جزءاً رئيسياً من موارد الاقتصاد السوري. أضف إلى ذلك، أن المسؤولين السوريين لا يخفون رهانهم على تعظيم دور الوساطة السوري في اقتصاد المنطقة، وخصوصاً لجهة جعل بلادهم عقدة المواصلات والترانزيت (على الأخص أنابيب نقل النفط الخام) بين العراق والخليج العربي من جهة وتركيا والغرب من جهة ثانية. وما تجب الإشارة إليه هنا خاصة هو أن التوجهات الجديدة هذه لم تستطع الحؤول دون أن تشهد سوريا بدورها، ارتفاعاً في معدلات البطالة واتساعاً في دائرة الفقر.
هكذا يصبح باستطاعتنا أن نفهم لماذا لم تكن هناك حاجة موضوعية في البلدين للتقدم على طريق التعاون الاقتصادي، وأن نفهم بالتالي لماذا اصطدم تنفيذ الاتفاقات المعقودة بسلسلة طويلة من الحواجز: من غياب النصوص التطبيقية إلى التباين بين البلدين في مجال التشريعات والأطر المؤسسية الناظمة لحركة البضائع وعوامل الإنتاج عبر الحدود، إلى التباين أيضاً على صعيد بنية الأسعار ومستويات الأجور، إلى المعوقات التقليدية التي كانت تعترض الاتفاقات السابقة من قبيل التعقيدات الإدارية والاستنساب وأحياناً التجاوز، في تطبيق الأطر المرجعية للمعاملات والإجراءات اللازمة....الخ. فكل من البلدين، لم يعمل على تحديث بنى الإنتاج السلعي (الزراعة وبخاصة الصناعة) لجعلها محركة للنمو الاقتصادي وقادرة على المنافسة في السوقين المحلي والخارجي، بل سعى إلى الحفاظ على ما هو قائم ومترهل منها (الحالة السورية) أو تركه يتخبط في بحر مشاكله (الحالة اللبنانية). وفي هذا السياق، كان من الطبيعي ألا يعبّر الاقتصاد اللبناني عن حاجته إلى سوريا إلا في ما يتعلق رئيسياً بالمجالين التقليديين نفسيهما: اليد العاملة الرخيصة الموسمية بمعظمها وتسهيل عبور البضائع نحو الداخل العربي. علماً بأن نشاط الترانزيت لم يعد له تلك الأهمية التي كانت له سابقاً في الاقتصاد اللبناني. بالمقابل، لم تجد سوريا في هذا الأخير (الاقتصاد اللبناني) سوى مخفف لعبء مخزونها من العاطلين من العمل ومقدم بعض الخدمات المصرفية لقطاعها الخاص.

ماذا عن المستقبل؟

في لبنان، يجري في الوقت الحاضر ربط مستقبل التعاون الاقتصادي مع سوريا بإعادة النظر بالاتفاقات المعقودة في التسعينيات من القرن الماضي (زمن الوصاية)، باعتبار أن بعضها مجحف بحق لبنان وبعضها الآخر تجاوزته الأحداث. من جهتنا، نرى أن بعض هذه الاتفاقات أصبح فعلاً بحاجة إلى إعادة نظر. لكن هذا لا يعني أن مسيرة التعاون الاقتصادي بين البلدين ستنطلق بمجرد إعادة النظر هذه. فالأمر يتوقف توقفاً رئيسياً على مدى توافر ثلاثة شروط سبق ذكرها ويمكن تفصيلها، في الحالة اللبنانية السورية تحديداً، على الشكل الآتي:
الأول: إعادة النظر باستراتيجيات التنمية (الاقتصادية ــــ الاجتماعية) المعتمدة حالياً في البلدين بحيث يوضع حد للاتجاهات الريعية الحالية وبحيث يصبح هدفها الرئيسي، تكوين قاعدة إنتاجية صناعية ــــ زراعية ــــ خدماتية متينة ومتكاملة تستطيع المنافسة في الأسواق العالمية وتطلق في الوقت نفسه حركة نمو سريع ومستدام، خالق لفرص عمل وفيرة. وهذا يتطلب عدم الانصياع الأعمى للوصفات الليبرالية المتطرفة وبالتركيز على الدور المحوري للدولة في عملية التنمية وتقويم توجهات القطاع الخاص والتعامل مع العولمة انطلاقاً من المصلحة الوطنية أولاً وأخيراً. ويمكن بهذا الخصوص الإفادة من تجارب البلدان الناشئة في شرق آسيا.
والثاني: أن تأخذ الاستراتيجيات الاقتصادية بعين الاعتبار المزايا النسبية لكلا البلدين. أي التأسيس على أن سوريا تتمتع بوفرة من الموارد الطبيعية (أراض زراعية، نفط وغاز، معادن مختلفة...) ولديها كذلك وفرة في اليد العاملة الرخيصة، فيما لبنان لديه وفرة من الموارد البشرية المؤهلة والخبرات في مختلف القطاعات الخدمية (صيرفة، تأمين، تسويق، إعلام، تعليم، اتصالات، صحة...) وفي العديد من الصناعات المتطلبة لتقنيات متقدمة. مما يقتضي العمل على إجراء تحولات بنيوية في كل من الاقتصادين تؤدي تدريجياً إلى تكاملهما.
ويستتبع هذان الشرطان شرطاً ثالثاً هو ضرورة التنسيق الدائم بين البلدين على صعيد السياسات والإجراءات (بما في ذلك التشريعات والأنظمة) الاقتصادية والمالية والنقدية والجمركية والاجتماعية، وصولاً إلى تحقيق درجة متقدمة من التجانس في ما بينها.
متى توافرت هذه الشروط، فإن مسيرة التعاون بين لبنان وسوريا يمكن أن تنطلق فعلاً ويمكن معها أن تنطلق بسرعة وزخم مسيرة النمو الاقتصادي المطرد والمصاحب للقضاء على البطالة والفقر في البلدين. ذلك أن التعاون بينهما يمكن أن يبدأ في مجالات كثيرة وحيوية لعملية التنمية. ومن هذه المجالات ما تناولته الاتفاقات المعقودة في التسعينيات (وما يجب العمل على تيويمه). ومنها ما يجب أن يكون موضوعاً لاتفاقات جديدة. وفي الحالين يجب أن تتصاحب الاتفاقات الموضوعة مع آليات مفصلة وبرامج زمنية لتنفيذها. وهذه هي على سبيل المثال لا الحصر بعض المجالات التي يمكن أن يبدأ منها التعاون:
1ــــ في مجال التبادل التجاري:
سبقت الإشارة إلى أن لبنان بقي لفترة طويلة يطالب باتفاق تجاري مع سوريا (بديل لاتفاق 1953)، يوسع مروحة البضائع التي يمكن تبادلها. وقد جرى في أواخر التسعينيات التوقيع على اتفاقات عدة تتعلق بهذا الخصوص، لا سيما منها الاتفاق المتعلق بتبادل المنتجات الصناعية الذي يستجيب للمطلب اللبناني. لقد أصبح بإمكان لبنان، بموجب هذا الاتفاق، أن يصدّر إلى سوريا منتجات كثيرة لم يكن بمقدوره تصديرها من قبل، وستحظى هذه المنتجات في السوق السورية بأفضلية كبيرة على المنتجات الصناعية غير السورية الشبيهة بالمنتجات اللبنانية. لكن بالمقابل، يجب على لبنان أن يقبل بأن تكون بعض منتجاته التي تعتمد بكثافة على اليد العاملة و/ أو الطاقة غير قادرة على منافسة المنتجات السورية الشبيهة في السوق اللبنانية، ويترتب عليه بالتالي أن يضع الآليات التعويضية المناسبة. وعموماً، نرى أن الخوف الذي أبداه البعض، على الصناعة اللبنانية من اتفاق تبادل المنتجات الصناعية، هو خوف غير مبرر، وخصوصاً أن لبنان، منخرط أو مقبل على الانخراط في أطر أخرى تتطلب منه، وإن بصورة تدريجية أبطأ، تحرير تجارته الخارجية بالكامل (منطقة التجارة العربية الحرة، الشراكة الأوروبية المتوسطية، منظمة التجارة العالمية). ولما كان نطاق هذه الأطر أوسع، فإن مخاطرها على الصناعة اللبنانية أكبر.
2ــــ في مجال الترانزيت:
يبقى لبنان في هذا المجال، بحاجة إلى سوريا أكثر مما هي بحاجة إليه، والاستعاضة عن النقل البري بالنقل البحري أو الجوي، كما تردد في أذهان البعض في وقت من الأوقات، إما أن تزيد في المدة الزمنية لتسليم البضائع وإما أن تزيد في التكلفة. ويجب على لبنان هنا أن يأخذ بعين الاعتبار أن سوريا أصبحت طامحة للعب دور مشابه للدور الذي كان يلعبه لبنان كمرفأ رئيسي للداخل العربي على البحر المتوسط. وهذا من الدوافع الإضافية للإسراع بالتعاون والتنسيق بين البلدين في هذا المجال والتخطيط مثلاً لإنشاء منطقة/مناطق حرة مشتركة.
3ــــ في مجال السياحة:
قد يكون هذا المجال في مقدمة المجالات التي يقتضي الشروع فيها بالتنسيق بين سياسات البلدين وخططهما. فقطاع السياحة يأتي على رأس القطاعات التي يراهن لبنان عليها في الوقت الحاضر لإطلاق عملية النمو الاقتصادي. وهذا القطاع يمثّل أيضاً موضوع رهان كبير للاقتصاد السوري في توجهاته الجديدة. هذا فيما يُعدّ البلدان «مجالاً» أو «منطقة» سياحية واحدة بالنسبة لمعظم القادمين إليهما من الخارج. فساحل أحدهما هو امتداد للآخر، والأماكن السياحية في البلدين قريبة بعضها من بعض، وعلى هذا الأساس تلتقي مصلحة البلدين على وضع خطط مشتركة لاجتذاب السياح وإقامة مشاريع سياحية مشتركة.
4ــــ في مجال النقل والمواصلات والاتصالات:
لا يمكن تصور درجة معينة من التعاون والتنسيق في المجالات التي سبق ذكرها (التبادل التجاري، الترانزيت، السياحة) دون وجود درجة تناسبها من التعاون والتنسيق في مجال النقل والمواصلات والاتصالات. لأن هذا المجال يتناول الوسائل التي ينتقل بواسطتها الأشخاص والسلع والمعلومات. إذاً فمصلحة الطرفين واضحة في وضع الاتفاقات في هذا المجال موضع التطبيق. وبالإضافة إلى ذلك، فإن هذه المصلحة تقتضي أيضاً العمل على قيام شركات نقل برية مشتركة وتعاون البلدين من أجل توسيع شبكة الطرق التي تربط بينهما. وعلى مدى أبعد تكون الفائدة أكبر وأعم بإقامة شبكة حديثة للسكك الحديدية تربط بينهما.
5ــــ في مجال الطاقة:
من الواضح أن جزءاً مهماً من معالجة الأزمة التي يمر بها لبنان على صعيد الكهرباء يتوقف على مدى التعاون مع سوريا بخصوص الربط الكهربائي معها وعبرها مع بلدان المنطقة المجاورة، وكذلك بخصوص إمداد لبنان بالغاز الطبيعي الضروري لتسيير معامل الإنتاج بكلفة أقل. ومن ناحية ثانية، فإن النفط هو من المجالات التي تتيح إمكانات واسعة للتعاون بين البلدين، وبخاصة إعطاء دفع قوي للاقتصاد اللبناني. وفي مقدمة ما يجب العمل عليه في هذا المجال هو وضع الاتفاق الذي عقد بخصوص إنشاء مصفاة مشتركة في طرابلس موضع التنفيذ. أما المجال الآخر، وقد يكون الأهم على صعيد التعاون النفطي، فهو العمل المشترك بين البلدين على إعادة ضخ النفط من الداخل العربي عبر أراضيهما وجعل الساحل السوري ــــ اللبناني منطقة صناعية مزروعة بمجمعات التكرير والصناعات البتروكيماوية الأخرى.
6ــــ في مجال الري والزراعة:
قد تقتضي مصلحة لبنان إعادة النظر بالاتفاقات التي عقدت بشأن تقاسم مياه نهر العاصي والنهر الكبير. لكن مصلحته الأكيدة هي البت السريع في هذه المسألة واستخدام حصته في إنعاش اقتصاد منطقتين (بعلبك ــــ الهرمل وعكار) هما من أكثر المناطق اللبنانية فقراً وحرماناً. كذلك من الأهمية بمكان للبنان في الوقت الحاضر الإسراع بإعادة النظر بالروزنامة الزراعية الخاصة بتبادل المنتجات الزراعية بين البلدين والتشدد في منع التهريب من سوريا إلى السوق اللبنانية نظراً للضرر الكبير الذي يتكبده المزارعون اللبنانيون من جراء إغراق السوق اللبنانية بعدد من المنتجات الزراعية السورية. لكن على لبنان أن يعمل في المديين المتوسط والبعيد، على إعادة هيكلة إنتاجه الزراعي والتخصص في منتجات له فيها مزايا نسبية واضحة (أشجار مثمرة، خضار، أعشاب طبية...). وفي جميع الأحوال هناك أيضاً في الوقت الحاضر مجالات عديدة للتعاون وتبادل الخبرات على الصعيد الزراعي بين البلدين: فعلى سبيل المثال أصبح لدى لبنان خبرة واسعة في مجال توضيب المنتجات الزراعية وتسويقها، وأصبح لدى سوريا خبرة واسعة في مجال ترشيد استخدام الموارد المائية في الزراعة. ونظراً لقرب البلدين وتشابه التربة والمناخ في بعض مناطقهما، فإنه بالإمكان إقامة مشاريع مشتركة في مجال الإرشاد الزراعي والمختبرات والمزارع النموذجية بالتعاون مع الهيئات الدولية أو بدونها.
7ــــ في مجال الصناعة:
مهما كانت أهمية القطاعات التي سبق ذكرها لاقتصاد البلدين، فإن مستقبل التنمية في كل من لبنان وسوريا يتوقف إلى حد بعيد على تطورهما الصناعي. وبقدر ما يذهب البلدان بعيداً في تعاونهما في هذا المجال، بقدر ما يكون النجاح حليفهما في توجهاتهما لمحاربة البطالة والفقر والسير قدماً على طريق التنمية البشرية المستدامة.

على لبنان الإسراع بإعادة النظر بالروزنامة الخاصة بتبادل المنتجات الزراعية والتشدد في منع التهريب من سوريا
لقد سبق الكلام على الإمكانات الواسعة لتعاون البلدين في مجال الصناعات البتروكيماوية. وهذه الإمكانات متاحة أيضاً في فروع صناعية أخرى كثيرة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار ما يمكن سوريا أن تقدمه من يد عاملة وفيرة ورخيصة ومن حاجات ومواد أولية عديدة غير النفط (فوسفات وقطن وحبوب وماشية...) وما يمكن لبنان من جانبه أن يقدمه من مروحة واسعة من المنتجات الزراعية (خضار، فاكهة، زيتون، أعشاب طبية...) ومن خبرات فنية وتجارية، بالإضافة إلى الرساميل. فعلى أساس الاستغلال المشترك لهذه الموارد يمكن إقامة مروحة واسعة من الصناعات الغذائية والدوائية المنافسة عالمياً. وعلى أساس اليد العاملة الرخيصة والمواد الأولية السورية من قطن وأصواف من ناحية والخبرة العالمية التي اكتسبها اللبنانيون في صناعة الملبوسات وتصميم الأزياء والتسوق يصبح بالإمكان غزو الأسواق العالمية بمنتجات البلدين المشتركة من المنسوجات والملابس.
وفي جميع الأحوال، فإن الاستغلال المشترك لهذه الإمكانات في ظل انفتاح السوقين بعضهما على بعض من شأنه أن يعطي دفعاً قوياً لسائر القطاعات الصناعية القائمة أساساً على تلبية الطلب المحلي، ويصبح بالإمكان تصنيع المزيد من بدائل الاستيراد. وعموماً يمكن أن نتوقع أن ينتج من التعاون بين البلدين في المجال الصناعي، تقاسم بين الصناعة اللبنانية والصناعة السورية لكل من سوقيهما. فتلبّي الصناعة اللبنانية الطلب في البلدين على المنتجات الصناعية الاستهلاكية الأكثر جودة والأكثر اعتماداً على الخبرة الفنية الأجنبية، أي التي تستجيب استجابةً رئيسية لحاجات الفئات الاجتماعية، في البلدين، ذات الدخل المتوسط وما فوق. فيما تلبّي الصناعة السورية الطلب، في البلدين أيضاً، على المنتجات الصناعية الاستهلاكية الأقل كلفة والأكثر اعتماداً على الخبرات المحلية والتي تستجيب عموماً لحاجات الفئات الاجتماعية ذات الدخول المتدنية.
* أستاذ جامعي وباحث اقتصادي