محمد صادق الحسينيلكنّ هذا الغرب المادي النزعة حتى النخاع، لا سيما الأميركي منه، لا يعرف ولا يريد أن يعرف أنّ إيران ما كانت يوماً تثور على حاكمها أو تغير طبيعتها أو هويتها أو دينها إلا على قاعدة التحدي الثقافي والمعنوي!
كان هذا ديدن إيران على امتداد القرون الماضية. فهي دخلت الإسلام طوعاً وباختيارها، رغم قوة المدنية التي كانت تمثلها إدارة فارس ما قبل الإسلام، فقط لأنّ دولة الإسلام التي ظهرت في الجزيرة العربية آنذاك مثّلت بالنسبة لهم درجة رقيّ أعلى، بل الأرقى والأعلى، بالمقارنة مع دول عظمى كانت تحكم المعادلة الدولية آنذاك، ومن بينها دولتهم ودولة الروم.
إيران لم تثر يوماً على حاكمها أو تغيّر طبيعتها إلا على قاعدة التحدي الثقافي والمعنوي
لم يكن العرب من أمّة الدعوة، الذين حملوا الإسلام إلى العالم يومها، يملكون أية مقومات مادية توحي أو تشير لقوة مادية جبارة وعظيمة تقف وراءهم لترهب دولة الأكاسرة أو رعاياها. ولم يكن الجوع أو الفقر أو التخلف أو الفاقة والحرمان هي ما دفع رعايا دولة كسرى لفتح الأبواب أمام الفاتح الجديد لإسقاط القلعة من الداخل. المعاني والقيم والمثل العليا التي حملها «بسطاء» أمة الدعوة يومها هي التي فتحت القلوب قبل فتح البلدان.
والأميركيون والغربيون اليوم لا يفتقدون مثل هذه المنظومة القيمية وحسب، بل يكادون يصلون إلى أدنى سلّم التراجع المادي أيضاً. في الوقت الذي تعيش فيه إيران الإسلام «بعجرها وبجرها»، ورغم كل تصاريف الدهر المحيطة بها من كل جانب، أكثر أيامها تجلياً، إن من الناحية المعنوية والقيمية، أو من الناحية المادية بالمقارنة مع كل ما ومن يحيط بها.
قد يكون هناك ألم ووجع ومعاناة مادية أو معنوية هنا أو هناك نتيجة أخطاء الداخل وما أكثرها، أو نتيجة ضغط الخارج وما أثقله، لكنك إذا ما دققت في إيران الحالية وما يجتاح غالبية جمهور مواطنيها بالإجمال من شعور بالاعتزاز والفخر والسؤدد القومي الممتد من طهران الإسلام وصولاً إلى ضواحي «تهران جيلوس»، أي تجمع الإيرانيين المقيمين في لوس أنجلوس، وهم المقدّرون بمئات الآلاف، فإنّك سرعان ما ستكتشف نوعاً من الشعور الوطني والقومي المتأجّج الذي يشبه مشهد قيام أمة بأكملها.
وإذا ما دققت في ما يحصل حقيقة على أرض الوطن من الداخل من فوران لثورة دينية متأججة يقودها الجيلان الثالث والرابع للثورة وهم يستحضرون كل تراث الرعيل الأول من إسلام محمد بن عبد الله وآل بيته وأصحابه والتابعين، فسترى مشهد قيامة دينية عارماً يكاد يصل فورانه إلى عنان السماء.
قل لي بالله عليك، كيف ولماذا يراهن هذا الرجل الأبيض على معادلة الضغط من تحت والتفاوض من فوق، أو الضغط من الداخل والتفاوض من الخارج، والحال هذه في إيران؟
إنها ليست معضلة الغرب وحده، بل هي معضلة أشباه المثقفين من أبناء جلدتنا المنبهرين بالحداثة وما بعد الحداثة، والذين بعدما ألغوا عامل الدين من حسابات حركة الشعوب، ها هم يلغون حركة العقل أيضاً ويصرّون على التجربة العينية الملموسة. فليلمسوها إذاً خسارة مدوّية على مستوى الواقع بعد مستوى النظرية. فبعد سقوط كل من هنتنغتون وفوكوياما، ها هو دور أوباما يأتي ليجرّب حظّه العاثر مع إيران.
* الأمين العام لمنتدى الحوار العربي ـــــ الإيراني