عصام العريان *في حوار ليليّ أثناء اعتصام احتجاجي رمزي ضد تزوير انتخابات الشورى بحزب «الجبهة الديموقراطية»، احتدم النقاش حول: أيّهما أجدى للإصلاح السياسي والتغيير في مصر: المقاطعة للانتخابات أم المشاركة بقوة لفرض إرادة الشعب؟
بدأ هذا الحوار منذ انطلاق انتخابات التجديد النصفي لمجلس الشورى، وامتدّ بقوّة بعد النتائج المزوّرة الكارثية التي يتوقّع المراقبون استمرارها في الانتخابات المقبلة لمجلس الشعب بعد شهور، وما زال الحوار صاخباً وشديداً.
الجميع يبحث عن «الجدوى» من القرار السياسي المطلوب اتخاذه بشأن المشاركة في الانتخابات البرلمانية المقبلة، والسؤال المطروح: هل يمكن تحقيق إجماع سياسي أوّلاً على تنفيذ فكرة المقاطعة التي يشترط المنادون بها أن تكون إجماعيّة، أو على الأقل يتفق عليها القوى السياسية الرئيسية؟
المشهد الحالي يظهر أن حزب الوفد، أكبر الأحزاب الرسمية وصاحب التاريخ العريق، مصمّم في ظل قيادته الجديدة على استمرار مشاركته في الانتخابات، وقد ساهمت أمور عدّة في تكريس ذلك التوجّه:
أوّلاً: انتخاب رئيس جديد في إجراء ديموقراطي يعد بإعادة الوفد إلى صدارة المشهد السياسي، ولا يحتمل أن يكون أول قرار في استحقاق برلماني له أن ينسحب أو يقاطع الانتخابات.
ثانياً: استمرار الوفد في ما يُسمّى «الائتلاف الرباعي»، وقد اتّضح للعيان توجُّه حزبين من الثلاثة الأخرى نحو المشاركة بعد قبول الحزبين التزوير الفاضح وحصول كل حزب منهما على مقعد بالتزوير ثم على مقعد آخر بالتعيين.
ثالثاً: تعيين أحد أعضاء الهيئة العليا للوفد في حصة المعينين بمجلس الشورى.
يغفل الداعون لمقاطعة الانتخابات الحراك الشعبي المتصاعد وعدم استجابة السلطة للضغوط
رابعاً: إحساس الوفد وتقديره أن المشاركة هي الأصل للأحزاب والقوى السياسية وأن الاستثناء هو المقاطعة بشروط صعبة ولأهداف محددة يمكن تحقيقها. وقد جرب الوفد ذلك وقاد المعارضة إليه عام 1990، وكانت نتيجتها مخيبة للآمال. فقد خرق حزب التجمّع إجماع المعارضة آنذاك وشارك في انتخابات 1990 مقابل الحصول على تمثيل برلماني هزيل (6 مقاعد) تقلّص بعد ذلك حتى وصل إلى مقعد واحد في البرلمان الحالي، بينما خسر الوفد مقاعده التي وصلت إلى 37 عام 1978 ووصلت إلى 6 مقاعد حالياً. ثم هناك أحزاب القصر أو «بير السلم» التي ستشارك بإشارة من الحزب الحاكم أو من «أمن الدولة»، وستُوزّع، وفق السيناريو المعدّ، مقاعد على بعض منها إذا أمكن ذلك في ضوء مدى حدة التنافس في انتخابات مجلس الشعب المقبلة.
أضف إلى ذلك أن حزب الغد «أيمن نور» أعلن مشاركته ليكرس شرعيته مقابل تلك الزائفة التي يريد النظام إضفاءها على الجناح المنشق الذي تم تزوير مقعد له في مجلس الشورى.
ولا يمكن إغفال حقيقة أن انتخابات مجلس الشعب في ظل النظام الانتخابي الفردي المعمول به حالياً، لا تدور بين أحزاب وقوى سياسية، بل نسبة تزيد على 70% من المتنافسين هم مستقلون يعتمدون على عصبياتهم الجهوية أو العائلية أو القبلية.
وهؤلاء لا يخضعون لقرارات سياسية تبحث عن الجدوى السياسية للمقاطعة، بل يريدون الوصول إلى مقاعد البرلمان بغية تقديم الخدمات لدوائرهم أو تحصين مكاسبهم ومصالحهم الشخصية أو الحصانة للوجاهة الاجتماعية.
إذاً ستكون الصورة النهائية، وفق تلك التوقعات، هي منافسة سياسية ساخنة في انتخابات برلمانية تشهد إقبالاً متوسطاً، بمشاركة أحزاب لها أسماء واحترام لدى المواطن يغيب عنها بعض الأحزاب، مما يضفي عليها الصورة المطلوبة للنظام الذي ستخرج أبواقه الإعلامية لتروج أن المنسحبين من الانتخابات انسحبوا لضعفهم أو لإحساسهم بانصراف الناس عنهم. وسيجري إقناع المراقبين من الخارج أن هناك انتخابات قد جرت، وشارك فيها معظم الأحزاب. ويجري إخراج أرقام ونسب عن التصويت وحدة التنافس، بل قد يسقط في الانتخابات عدد أكبر من الضحايا (في عام 2005 سقط 14 قتيلاً ولم يُوجَّه حتى الآن أي اتهام للشرطة التي قتلتهم)، ممّا يتخذه النظام حجة على سخونة الانتخابات وحدّة المنافسة.
ويغفل المخلصون الذين ينادون بالمقاطعة، رغم تلك المحاذير، عاملين آخرين هامين:
أولهما: حالة الحراك الشعبي المتصاعد، الذي زادت من سخونته أمور عدّة، منها ظهور شخص الدكتور محمد البرادعي برمزيته على الساحة، وتحركه المستمر وتطور أدائه السياسي، وتحسن خطابه العام الذي أصبح حديث الناس، رغم أن البرادعي نفسه يدعو إلى مقاطعة الانتخابات إذا لم تكن هناك ضمانات لنزاهتها.
أضف إلى ذلك استمرار «الجمعية الوطنية للتغيير» في أداء رسالتها وتفعيل نشاطها خلال الأسابيع الماضية في طنطا ودمنهور والإسكندرية والقاهرة، كوعاء وطني يشمل كل القوى الحية الراغبة في التغيير.
وهناك أيضاً الأزمات المتتالية التي دفعت جموعاً عديدة من المواطنين العاديين للتفاعل مع الأحداث رغم ابتعادهم عن السياسة والأحزاب، وإحساس هؤلاء جميعاً بأن هناك سبباً جوهرياً لتفاقم أزماتهم المهنية والشخصية والجهوية والعمالية، ألا وهو غياب الحريات العامة والديموقراطية وعدم وجود ممثلين حقيقيين لهم في مجلس الشعب أو النقابات العمالية والمهنية التي تجمدت بسبب القانون المعطِّل للانتخابات فيها، وتحكم الأمن والحكومة في الحياة السياسية والنقابية والاجتماعية: كأزمة المحامين والقضاة، وأزمة المسيحيين المطالبين بتصاريح الزواج الثاني التي وضعت الكنيسة في مواجهة القضاء الإداري، وأزمة استمرار حالة الطوارئ التي أعطت صلاحيات هائلة لأفراد الشرطة سبّبت شيوع ظاهرة التعذيب الذي وصل إلى حدّ القتل خارج القانون، وليس آخر الضحايا الشاب خالد سعيد شهيد الطوارئ... إلخ.
هؤلاء جميعاً يبحثون عن مخرج لأنفسهم وللوطن، وإذا طالبتهم بالمقاطعة فسيقولون إن المقاطعة هروب من المواجهة والاشتباك مع الوضع الحالي. وقد يطرح بعضهم نفسه للترشيح خارج القوى السياسية الحالية ويبحث عن دعم وتأييد شعبي. وإذا كانت جموع غفيرة تتحرك الآن لمصالح اقتصادية أو مهنية أو اجتماعية، فلماذا لا نساعدها على توجيه دفّتها نحو الإصلاح السياسي والتغيير من خلال النضال الدستوري والمطالبة بإطلاق الحريات العامة وفي مقدمتها حرية الانتخابات، ونخوض معها تجربة الانتخابات في مناخ ساخن يحقق أهدافاً عديدة.
ثانياً: ما ينساه المطالبون بالمقاطعة هو الإجابة عن سؤالين هامين:
1. هل هناك توقع جاد لاستجابة النخبة الحاكمة لضغوط المقاطعة بالتنازل طواعية، دون اشتباك شعبي معها، وتقديم ضمانات حقيقية لانتخابات نزيهة؟ ومتى يكون ذلك؟ وهل تقدر هذه النخبة الحاكمة على إعادة انتخابات مزورة تعلم هي علم اليقين أنها مزورة؟ أم أنها تدرك في عميق إحساسها أن أي استجابة للضغوط تعني بداية النهاية لها ولذلك تتمسك بالعناد التام إلى نهاية الشوط؟
2. إذا لم تكن هناك استجابة، رغم نجاح المقاطعة، فما هو السبيل لتحقيق مطالبنا في الإصلاح والتغيير؟
وكيف يُحشد الجميع في طريق يُتّفَق عليه لتصعيد المواجهة مع الاستبداد والفساد، مع العلم التام بحال النخبة المصرية السياسية والثقافية والفكرية والحزبية، والإدراك الواعي لطبيعة الشعب المصري الذي ندرت ثوراته الشعبية في تاريخه ولم تكن إلا في الغالب الأعم ضد الاحتلال الأجنبي مثل ثورات القاهرة ضد حملة نابليون أو ثورة عام 1919 ضد الاحتلال الإنكليزي.
إن أخطر ما تصاب به النخبة السياسية المعارضة أن تستسلم لنداء العاطفة أو للصرخات الغاصبة أو الهتافات الحماسية دون تفكير هادئ في جدوى أي قرار تتخذه، وخاصة إذا كان هناك أفراد مستعدون للتضحية ويبذلونها دون تأخر، وشباب يتحرك من أجل التغيير بحثاً عن مستقبل أفضل، وشعب يبحث عن ضوء للأمل في نهاية النفق.
* قيادي في جماعة «الإخوان المسلمين» في مصر