صدر في الغرب العديد من الكتب والأبحاث التي استشرفت حالة الإمبريالية ومستقبلها في القرن الحادي والعشرين. غير أن الكتاب بين أيدينا، وربما هنا تكمن فرادته، يتناول حالة الإمبريالية من خلال قراءة متجددة لكتاب لينين «الإمبريالية: أعلى مراحل الرأسمالية» (1916) في ضوء التطورات السياسية والتاريخية التي ألمّت بالعالم عبر القرن المنصرم. وفي تحليله لهذه التطورات يرى المؤلف أنها جاءت لتؤكد الطروحات النظرية الأساسية التي ذهب إليها لينين آنذك. وهو ما يفسر ما جال في ذهن المؤلف حين خصّ القسم الأول من الكتاب بعرض هذه التطورات، ليعود في القسم الثاني ويأخذ القارئ الى عام 1916 ومطالعة النص الأصلي لكتاب لينين.
صدر كتاب «الإمبريالية في القرن الحادي والعشرين: تحديث لنظرية لينين بعد قرن» بالإنكليزية في مدينة سان فرانسيسكو في فبراير من هذا العام عن حزب الاشتراكية والتحريرParty for Socialism and Liberation (PSL) الذي يناهض الإمبريالية وحروبها ويناصر كفاح الشعوب، خصوصاً في فلسطين وسورية وفنزويلا، ويؤمن بأن الحل الوحيد لأزمة الرأسمالية المتفاقمة هو التحول الاشتراكي للمجتمع.
يتميز الكتاب بأنه يخلو من الخطاب الأكاديمي البارد، بل هو يوثق الوقائع التاريخية ليضعها في خدمة نهج محاربة الإمبريالية والرأسمالية. ومن هنا فإن قرّاءه المستهدفين هم النشطاء والمناضلون الساعون إلى التغيير والفعل الثوري من خلال رؤية وبرنامج نضاليين مقاومين.

لا تبدو عودة المؤلف إلى ما كتبه لينين قبل قرن من الزمن ضرباً الرومانسية، بل إن ما قصده المؤلف هو الدلالة على أنّ نهج لينين في فهم الإمبريالية ما زال دليلاً ينير الفعل الثوري في كفاح الشعوب ومقاومتها للهيمنة الإمبريالية.

أطروحة لينين

كتب لينين عام 1916 كتابه «الإمبريالية: أعلى مراحل الرأسمالية» في سياق الحرب العالمية الأولى متوخياً تشخيص أوضاع العالم آنذاك، قبيل الحرب العالمية وإبّانها واستخلاص نقاط نظرية تفيد منها الحركة الاشتراكية العالمية التي كانت منقسمة على ذاتها ويسودها الكثير من الخلط والتشويش في ما يتعلق بالموقف من حكوماتها وتأييد بعض هذه الحركات لانخراط حكوماتها الرأسمالية في تلك الحرب المدمرة.
أولاً: تتلخص أطروحة لينين الأصلية في أن الإمبريالية هي النمو المنفلت للكولونيالية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر والعقود الأولى من القرن العشرين. وقد استند لينين إلى عدة ركائز أهمها:
1) تركز الإنتاج الرأسمالي وبلوغه مرحلة الاحتكارات التي أخذت تؤدي دوراً حاسماً في الحياة الاقتصادية والسياسية.
2) الاندماج بين رأس المال البنكي ورأس المال الصناعي، ما أدى إلى ولادة «رأس المال المالي».
3) تصاعد القوى الإمبريالية وتأسيس الاتحادات العالمية للرأسماليين الاحتكاريين التي تقاسمت العالم في ما بينها كمستعمرات ومناطق نفوذ.
ثانياً: أكّد لينين أن الاستيلاء على المستعمرات لم يعد مجرد سياسة بل أضحت المستعمرات ضرورة فرضتها المرحلة الاحتكارية في النظام الرأسمالي. هكذا بنى لينين نظريته المهمة في تحول الكولونيالية من «سياسة» إلى «نظام» system، مستنداً إلى وقائع تاريخية أهمها: توسع الولايات المتحدة نحو الغرب واغتصاب أراضي المكسيك وأراضي الهنود الأصلانيين الأميركيين، الحرب الإسبانية ـ الأميركية (1898) والسيطرة على كوبا؛ اقتسام القوى الإمبريالية الأوروبية للصين؛ الحرب بين روسيا واليابان (1905) ثم الحرب العالمية الأولى.

لا يدع الكتاب مجالاً
للشك في أنه
يستحيل إنقاذ الإنسانية
إلّا بمحو الرأسمالية


ثالثاً: لعل من أهم مرتكزات أطروحة لينين تلك التي كشفت عن حتمية الحرب في ظل الرأسمالية وأن توسع رأس المال هو المسؤول عن الحروب التي نشبت بين القوى الرأسمالية المتنافسة وأنها حروب لم يكن من الممكن تفاديها. وحين يكتمل اقتسام العالم بين القوى الاستعمارية، فإنه لا يبقى أمام هذه الأخيرة سوى التوسع بالاعتداء على دول رأسمالية أخرى وانتهاك ممتلكاتها.

إعادة بناء الإمبريالية على قاعدة الهيمنة الأميركية

بعد ما يزيد على عقدين من صدور كتاب لينين، اندلعت الحرب العالمية الثانية لتؤكد ما وثقه حول النتائج الكارثية لإعادة اقتسام العالم. فقد غيّرت هذه الحرب خريطة العالم من عدة جوانب وكان من أهم نتائجها:
■ إعادة بناء الإمبريالية العالمية وتنظيمها من أجل التصدي للتحديات الجديدة وصعود الولايات المتحدة إلى زعامتها.
■ شهدت مرحلة ما بعد تلك الحرب صعود الاتحاد السوفياتي كقوة عالمية وولادة المعسكر الاشتراكي، إضافة إلى نهوض حركات التحرر الوطنية واليسارية في آسيا وأفريقيا والوطن العربي بعد انهيار فرنسا وبريطانيا. بعبارة أخرى، شهد العالم في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية «إعادة تنظيم» السياسة العالمية وتبلور اصطفاف المعسكرين الرأسمالي/الإمبريالي والاشتراكي.
■ اعتمدت الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية على السياسة الاستعمارية ذاتها، ولكن بغلاف جديد: فقد آثرت إزالة الكولونيالية الكلاسيكية من البلدان المستعمَرة ومنحها استقلالاً شكلياً، ما سمح للشركات الأميركية باختراق أسواق البلدان المستعمَرة سابقاً وأتاحت للقوى الإمبريالية إحكام قبضتها على الشؤون السياسية والاقتصادية في تلك البلدان.

المواجهة العالمية الجديدة

يكشف الكتاب باستفاضة عن الوقائع التاريخية التي تؤكد أن الحرب الإمبريالية التي تحدث عنها لينين عام 1916 لم تتوقف حتى يومنا هذا بل استمرت بأشكال واتجاهات أخرى. فبدل أن تتحارب القوى الإمبريالية في ما بينها، تحولت الإمبريالية الأميركية إلى استهداف القوى الثورية والشيوعية في العالم ومحاربتها. هكذا تمحورت الأوضاع الدولية بعد الحرب العاليمة الثانية، حول الصراع بين المعسكرين (الرأسمالي والاشتراكي):
¶ توجهت الإمبريالية الأميركية في حربها المسعورة ضد الشيوعية نحو تشكيل التحالفات العسكرية في جميع أنحاء العالم: حلف الناتو (1949)، منظمة SEATO في جنوب شرق آسيا (1954)، حلف بغداد (السنتو) في «الشرق الأوسط» (1955).
¶ الحروب الإمبريالية الأميركية في العديد من ساحات الصدام: الحرب الكورية عام 1953، ثم فيتنام ولاوس وكمبوديا، الدعم الإمبريالي لنظام الأبارتهايد العنصري في جنوب أفريقيا، دعم الكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة والأنظمة الرجعية العربية ودكتاتوريات أميركا الوسطى واللاتينية، وصولاً إلى التآمر والتخطيط لانقلابات في تشيلى والبرازيل والأرجنتين وأوروغواي وبوليفيا وغيرها.
الانهيار السوفياتي والنظام العالمي الجديد
أعاد انهيار الاتحاد السوفياتي و»نهاية الحرب الباردة» توجيه الإمبريالية العالمية ومجمل العلاقات الدولية في اتجاه مغاير. وقد قاد القصور في فهم وإغفال المنطق الإمبريالي الذي تحدث عنه لينين، قاد الكثيرين إلى التوهم وتصديق الكذبة التي تقول بأن السلام سيعمّ حقبة ما بعد الحرب الباردة بفضل الانهيار السوفياتي وزوال أسباب التوتر والحروب. والحقيقة أن الولايات المتحدة في ربع القرن الأخير تعيش حالة حربٍ مستمرة: سياسة الحرب الدائمة – الحرب اللانهائية، التي يتبناها الحزبان الحاكمان.
لقد نظّر الإمبرياليون الأميركيون، منذ تسعينيات القرن الماضي، لـ»القرن الأميركي الجديد»، وعملوا بلا كلل على تحقيق مشروع الهيمنة الأميركية المطلقة، وكان من أهم عناصر هذا المشروع:
- استفراد الولايات المتحدة بالتحكم بالعالم وإقامة نظامٍ عالميٍ جديد قوامه وحدانية القطبية الأميركية.
- منع قيام آية قوةٍ أو خصمٍ جديدٍ قادرٍ على السيطرة على أية منطقة تملك من الموارد ما يتيح لها أن تصبح قوة عالمية، ومنع آية دولة أو قوة من تحدي الزعامة الأميركية أو تغيير النظام العالمي القائم، ما يتطلب، وهو الأخطر، امتلاك الإمبريالية الأميركية للآليات اللازمة لردع آية قوة منافسة.
- بالطبع، يصبح من الضروري والحالة هذه، اختلاق ذريعة لهذه الحروب، ذريعة تبدو أكثر وطنية وإنسانية ونبلاً من مجرد الهيمنة على العالم أو ضمانة أرباح الشركات الكبرى، ذرائع مثل: «الأمن الأميركي القومي»، «السلام العالمي»، «التدخل الإنساني»، «إطاحة الدكتاتوريين الأشرار» أو «الحرب على الإرهاب» وغيرها.

الحرب الدائمة

يولي الكتاب أهمية خاصة لمفهوم أو عقيدة «الحرب الدائمة» أو «الحروب اللانهائية» وهو مفهوم يختلف عن غيره من مفاهيم الحروب الأميركية السابقة، ويحظى بموافقة الحزبين الأميركييْن الحاكميْن (الديمقراطي والجمهوري)، بل لقد التزمته منذ عام 1990 كل الإدارات الأميركية. وأهم دعائم هذا المفهوم:
- ستكون هذه الحروب طويلة تستمر لسنواتٍ وربما لعقودٍ عديدة.
- لن تكون الحرب اللانهائية موجهة ضد دولة معينة فحسب، مع أنها استهدفت العديد من الحكومات، بل هي حرب تشنها الولايات المتحدة ضد أي كيان، سواء كان منظمة أو حركة أو حكومة، تعتبره الولايات المتحدة هدفاً لها في إطار ما سمّته «الحرب على الإرهاب».
- ستقوم هذه الحروب، كما تفيد التجربة عبر العقديْن الأخيريْن، من طرفٍ واحد وستستخدم القنابل والقصف الجوي ضد الشعوب الأخرى، ولن تكون ضحاياها من الأميركيين (ربما باستثناء «بعض الطيارين السيئي الحظ»).
ودون العودة إلى تاريخ هذه الحروب، نكتفي بالقول بأن الإمبريالية الأميركية خاضت منذ عام 1990، حروباً مستمرة ضد العراق (1991)، يوغسلافيا (1999)، ثم أفغانستان (2991) وصولاً إلى احتلال العراق وتدميره عام 2003، وما زالت ساحات الحروب واحتمالاتها ماثلة أمامنا في كافة أنحاء المعمورة.

الوطن العربي: في الأفق حروب جديدة

يحتل القضاء على الدولة القومية موقعاً مركزياً في الاستراتيجية الأميركية ومشروع هيمنتها. فالدولة القومية تسعى إلى الاستقلال والسيادة الوطنية والتنمية، وهو ما يهدد الهيمنة الأميركية واستقرار النظام العالمي القائم. ومن هنا تريد الإمبريالية الأميركية، من أجل خدمة مصالحها والحفاظ على هيمنتها العسكرية والاقتصادية، تريد أن تفرض على الدولة القومية شروط الاستقلال ومعناه ومحدوديات السيادة الوطنية وضرورة تكيّفها مع النظام العالمي القائم. أما إذا خرجت هذه الدولة عن الطاعة للولايات المتحدة أو تمردت، فسيكون مصيرها التفكيك والتدمير. وهو ما رأيناه في العراق وسوريا وغيرهما.

العالم اليوم وديمومة أطروحات لينين

بعد قرن من صدور كتاب لينين، ما زالت أطروحته حول الإمبريالية قائمة. فما زلنا نشهد النزوع نحو الاحتكار وتمركز رأس المال ونفوذ البنوك والشركات الكبرى. كذلك، إن توسع المؤسسات المالية والشركات الاحتكارية أدّى إلى «الحرب اللانهائية». ولعل الأهم أن التناقض بين الدول الإمبريالية من جهة، والشعوب المضطَهَدة من جهة أخرى، ما زال محتدماً ويشكل أحدى السمات الرئيسية لعالمنا الراهن.

إرهاصات نظام جديد؟

يطرح الكتاب السؤال المهم ويحاول الإجابة عنه: هل تمرّ الإمبريالية الآن في مرحلة انتقالية جديدة؟ وهل تلوح في الأفق هزّات جديدة؟
تغيرات عدة حدثت خلال القرن الماضي، كان من أهمها أن جزءً كبيراً من العالم الذي كان في عهد لينين مستعمَراً من قبل القوى الكولونيالية أصبح اليوم مستقلاً. أما في مجال الاقتصاد العالمي، فقد ظهرت قوى رأسمالية جديدة، دول البريكس (برازيل، روسيا، الهند، الصين، جنوب أفريقيا)، كلاعبين رئيسيين في الساحة الدولية. وهنا يؤكد المؤلف أن هذه الدول مندمجة إلى حدٍّ كبير في النظام الرأسمالي العالمي، وهي لا تشكل معسكراً (كما كان المعسكر الاشتراكي، على سبيل المثال) أو وحدة سياسية واحدة، ولا تقف على أرضية اقتصادية أو سياسية أو إيديولوجية واحدة أو مشتركة، غير أنها، بالرغم من هذا، تستطيع أن تشكّل «عوامل رئيسية مستقلة» القرار في السياسة الدولية، وذلك بفضل مساحتها الجغرافية الشاسعة وثقلها الديمغرافي ووفرة مواردها الطبيعية وتطورها الصناعي والاقتصادي.

ملاحظات ختامية

تعود بنا التطورات السياسية والتاريخية التي يعرضها الكتاب إلى أطروحة لينين الرئيسية، وهي أن الحرب سمة جوهرية للمرحلة الإمبريالية وجزء من طبيعتها، وأن النزوع نحو الحروب متأصل في النظام الإمبريالي. ويظل هذا الاستنتاج دقيقاً وسليماً حتى يومنا هذا بالرغم من التغيرات الكبيرة التي مرّ بها العالم منذ حقبة الاستعمار الكلاسيكي، ثم الحرب الباردة والمرحلة التي تلت نهايتها، وما نشهده في الحاضر الراهن.
غير أن وقائع التاريخ تؤكد أن التحدي الرئيسي الذي يواجه الإمبريالية اليوم يتمثل في التناقض المتأصل بين أطماعها في الهيمنة التي تتوخاها من جهة، ومحدوديات قدراتها من جهة أخرى، كما حصل ويحصل في أفغانستان والعراق وسورية وغيرها.
صحيح أن الجبروت العسكري للولايات المتحدة وسيطرتها على النظام المالي العالمي، تمكنا من كبح النزاع بين الدول الإمبريالية وحالا دون نشوب العدوان المسلح بينها، غير أنه لا يخفى أن هذا النظام يعاني من خروقات وتشققات عديدة. وليس من المستبعد أن الوهن الاقتصادي للولايات المتحدة وعجزها عن أن تظل «بوليس» العالم، قد يسببان إطلاق العنان للخلافات والنزاعات بين الدول الإمبريالية ذاتها.
يظل الكتاب أميناً لنهجه في محاربة الإمبريالية حتى يصل إلى خاتمته مستشرفاً بأنه بالرغم من كل هذه التغيرات الجذرية والعميقة، غير أن أمراً واحداً لم يتغير منذ زمن لينين، هو أن مهمة الثوريين تتمثل اليوم، كما كانت، في تغيير الواقع، وهو ما لا يمكن إنجازه دون فهم واضح للعالم والنظام الرأسمالي العالمي، ودون التأسيس لاستراتيجية مكافحة هذا النظام. وهو ما يؤكد المؤلف أنه الغاية من الكتاب.
لا يدع الكتاب مجالاً للشك في أنه يستحيل إنقاذ الإنسانية من براثن هذا النظام المجرم والمدمر، إلاّ بمحو الرأسمالية من جذورها ومحاربة الإمبريالية دون هوادة وأينما كانت بكفاح الطبقات الشعبية والشعوب المضطَهَدة وكافة القوى الشيوعية والاشتراكية والتقدمية في البلدان الرأسمالية.
* كاتب وطبيب عربي مقيم في الولايات المتحدة