محمد بنعزيز *البرلمانيون اليتامى حائرون، يتساءلون: نريد أن نراه، أين يكون؟
جواب الظرفاء «ذهب السيد فؤاد عالي الهمة لمشاهدة مقابلات كأس العالم».
جواب الأمين العام لحزب الأصالة والمعاصرة: «خير إن شاء الله سأبلغ طلبكم إلى السي فؤاد».
جواب المختفي: أردت تأسيس حزب مؤسسات وتنظيم، لا حزب أفراد، من يُرد أحزاب الأشخاص فليذهب إليها.
جواب وسائل الإعلام: إنه مختف عن الأنظار عمداً.
لماذا وإلى متى؟
هذه هي فوازير السياسة المغربية قبيل رمضان 2010.
وهي أسئلة مسلية أفضل مما تعرضه التلفزة، مسلية وجدية تماماً، جدية بمأساوية، لكن علم السياسة قادر على تفكيكها وتجليتها.
تذكير سوريالي: أعلن السيد فؤاد نيّته تأسيس جمعية بداية 2008، فأدرك الأعيان أن فرصة لاحت لهم، فصار للجمعية فريق برلماني ثم حزب ثم مؤتمر.
في الترتيب خلل ما. تفكرون هكذا: من سبق البيضة أم الدجاجة؟ الجواب: الديك.
هذه فوازير غير مسبوقة.
بعد ذلك صار للحزب أكبر فريق برلماني. نجاح مذهل. مبروك.
مم يتكوّن الفريق؟
من لاعبين قدامى، محترفي انتخابات، أعيان مناطق لديهم شبكات نفوذ في الإدارة ووسائل اقتصادية ضخمة. هم الآن تحت قبة المجلس يمثلون الأمة. كراسيهم محفوظة ومصالحهم معززة.
لمَ هم قلقون؟ لمَ يتساءلون؟
هذا القلق كشف طبعهم: هم غير معنيّين بالأصالة ولا بالمعاصرة، غير معنيين بالديموقراطية ولا بتحديث المجتمع. همّهم أن يكونوا في ظل السلطة، يرضعون ثدي الدولة. من الأفضل أن يكونوا في ظل شخص صديق الملك، أي إنهم في ظل الملك. هكذا يضمنون المستقبل.
وهم يقرأون المستقبل في الماضي، فقد كان وزير الداخلية الأسبق، ظل الملك في البلد، أو الرجل القوي صاحب أم الوزارات، يدير البلد بالاعتماد على أعيان المناطق كوُكلاء، منحهم الريع الاقتصادي ومنحوه الولاء السياسي غير المشروط. تبادل مصالح زبونية. وقد كان الأعيان وكلاء لأحزاب وهمية توالي السلطة ووسيلة في يدها، تتحرك في كل موسم انتخابي لمنع تكوّن نخبة انتخابية معارضة محلياً.
لقد مكنت هذه الوصفة وزير الداخلية السابق من هزم معارضيه في الميدان، بفضل مسلسل ديموقراطي شكلي، على النمط المصري الآن، مسلسل يضم كل عناصر الديموقراطية باستثناء التغيير. أي إن الانتخابات تجري لتثبت أنه لا يوجد أفضل مما هو موجود.
حين أعلن صديق الملك الجديد تأسيس جمعية، حجّ إليه الأعيان جماعات وفرادى يباركونه. صحيح أنه كان يقول إنه لا ينوي أن يكرر تجربة الرجل القوي، إنه حداثي، لكنهم كانوا واثقين من أن «السلطة تديرُ الرأس»، كما قال تروتسكي. من يكون تروتسكي؟ قد يجيبك أحد الاعيان بأنه لاعب في تشيلسي.
بعد عامين، شمّ الأعيان المدربون رائحة انتخابات 2012، فاشتاقوا إلى الصديق الحبيب، يريدون أن يتملوا بطلعته البهية، ليكشفوا أنهم يحبونه حباً جمّاً فوراً.
كان وزير الداخلية الأسبق يدير البلد بالاعتماد على أعيان المناطق كوُكلاء، منحهم الريع الاقتصادي ومنحوه الولاء السياسي
ذكر ابن المقفع في كليلة ودمنة أن اللئيم غير صادق، وأضاف حرفياً والعهدة عليه «اللئيم لا يصل أحداً إلا عن رغبة أو رهبة». وأنا أجد أن هذا الكتاب مرجع في شرح سياسة الفوازير التي يُدار بها العالم العربي. وإنْ زعم نابوليون بونابارت أن «أمير» ميكيافيلي هو الكتاب السياسي الوحيد الذي يستحق أن يُقرأ، فإن هذا الكتاب، الذي يشرح السياسة كشطرنج، مبني على درجة هائلة من العقلنة، لا وجود لها في المجتمعات العربية. «كليلة ودمنة» للفارسي ابن المقفع أفضل لتوصيف آليات اشتغال السلطة في العالم العربي.
الأعيان معجبون بصديق الملك من فرط الطمع، فماذا يقول عنه خصومه؟
يعطف ابن المقفع توصيفه السابق بالقول: «وأحسن الثناء ما كان على أفواه الأحرار». وفي هذا الباب نستمع إلى محمد الساسي، عضو المكتب السياسي لحزب اليسار الاشتراكي الموحد، اليساري الذي لا يفوز في الانتخابات، والذي يطالب بدمقرطة حقيقية للنظام السياسي، بفصل السلط وبالانتقال من ملكية تنفيذية إلى ملكية دستورية، وبأن يكون الوزير الأول مسؤولاً أمام الشعب لا أمام الملك. يقول الساسي بعد لقاء رسمي مع السيد فؤاد:
«لم أتصور أن مخاطبنا سيكون على تلك الدرجة من الخبرة التواصلية والقدرة على الشرح والتفسير بأسلوب منهجي ودقيق... وقد خرجت من ذلك بثلاثة استنتاجات:
أوّلاً: محيط الملك يتوافر على قدر مهم من الوضوح في الرؤية ولا يمارس تجريباً عشوائياً.
ثانياً: إنّ مخاطبنا كان يتحدث بشمولية، ولم يحصر كلامه في قطاع محدد هو قطاعه (وزارة الداخلية)، بل عرض فعل الدولة بمختلف مرافقها واهتماماتها.
ثالثاً: إن الخطاب المدلى به يربط ربطاً وثيقاً بين شخص الملك وحركية الدولة بمختلف مستوياتها.
تبين هذه الشهادة، من ملاحظ عميق لا يرحم، أن صديق الملك يخطط، وبناءً عليه فإن اختفاءه عن الأنظار ليس تجريباً عشوائياً، بقدر ما هو امتحان سياسي للمنخرطين في حزبه.
سؤال الامتحان:
هل يتعلق الأمر بانخراط سببه تبنّي مبادئ الحزب المعلنة أم مجرد بحث عن موقع قريب من السلطة؟
الجواب: بالنظر لحالة الهلع، فالاحتمال الثاني هو الوارد. فالمبادئ مقررة في وثائق الحزب، فما الذي ينقص؟
ينقص الشخص الذي انضم الأعيان الانتخابيون بفضله إلى حزب الأصالة والمعاصرة.
واضح إذاً أن صديق الملك وصل إلى خلاصة مفجعة تكسر أحلامه.
الخاتمة: وماذا بعد؟
لنعد إلى سؤال البداية: لمَ أسس صديق الملك الحزب أصلاً؟
بعد الانتخابات التشريعية في 2007، احتل حزب العدالة والتنمية الإسلامي المرتبة الأولى في عدد الأصوات، ولم يحصل على المرتبة الأولى في عدد المقاعد بالبرلمان بفضل مهارة وزارة الداخلية في تقطيع الدوائر الانتخابية. وقد اتضح لمحيط الملك حجم الفراغ في التأطير السياسي، ترتب عنه ضعف في المشاركة فحل المال محل البرامج الانتخابية...
هذا الوضع ما زال قائماً، بينما انتخابات 2012 تقترب، فهل يستطيع السيد فؤاد عالي الهمة أن يبقى مختفياً؟
لا، لأن المشكلة التي جاء لمواجهتها ما زالت قائمة، هذا إن لم تكن قد تفاقمت:
المشهد العمومي يتأسلم أكثر فأكثر. الإسلاميون يسيطرون على النقاش العمومي ويديرونه لمصلحتهم. حزب العدالة والتنمية المغربي لا يشبه نظيره التركي إلا بالاسم. الطبقة الوسطى منصرفة إلى تحسين وضعها والاستمتاع بالشمس والبحر. جزء متنامٍ منها يتأسلم، النخب العليا المثقفة لا توافق على قواعد اللعبة السياسية، لذا تقاطعها. لاتسيُّس الشبيبة يهدد الفعل السياسي بالموت.
في هذا الوضع، من بقي في الساحة؟
الأعيان بشبكاتهم الزبونية، القوية اقتصادياً والمدربة انتخابياً. فإلى أي مدى يستطيع محيط الملك اختبار تحالف الأعيان؟
هل يمكنه أن يغامر بخلق فراغ حول السلطة؟
للدولة ضرورات تتجاوز رغبات الأشخاص.
إذاً، لن يغامر الصديق لأن ليس لديه بديل. ليس هناك حركة اجتماعية سياسية يتكئ عليها، لذا فإن السيد فؤاد سيضطر في النهاية إلى الخروج إلى زبنائه السياسيين، الذين يخشون أن يفطموا من ضرع الدولة. ليقروا عيناً، وليدرّبوا أنجالهم البررة على أساليبهم ليرثوا نفوذهم، فلن يقول لهم أحد «كفاية»، والتغيير في المغرب ليس غداً.
عزائي، هو أني حين أشاهد البرلمانيين اليتامى يرجون لقاء صديق الملك، أقول على الأقل في المغرب يوجد صلب الدولة في عاصمتها، سواء ظهر أو اختفى. أما بالنسبة إلى لبنان العظيم الذي يخشى أعيانه الفطام من عواصم أخرى، فإني أشعر بصدمة حين أرى درجة تبعية أعيان الطوائف للخارج، يدشنون جماعياً فندقاً للمقاول بن طلال، يحتقرون من لم يحظَ في دمشق باستقبال مهيب... فإن استقبل بحرارة في دمشق أو الرياض أو باريس، صار زعيماً شرعياً في بيروت.
إلى متى سيمثلنا اليتامى السياسيون؟ هذا سؤال لن تطرحه فوازير رمضان المقبل.

* صحافي مغربي