عندما يهبط في يخته الخاص في «مونت كارلو»، إنما يفعل ذلك من أجل التباحث في قضيّة فلسطين ومسألة تحرير شبعا مع أهل الربط والحلّ هناك. وعندما يهبط في السعوديّة، لا يفعل ذلك إلا لزيارة الأهل هناك، وإن تضمّن البرنامج تقبيل أكتاف وأيادي أمراء آل سعود، وذلك مفيد أيما إفادة لسيادة لبنان وعزّته ووحدة بنيه. وعندما يلتقي مع الأمير مُقرن، الحاكم الفعلي للبنان ـــ من دون أن يلاحظ حزب الله ذلك ـــ فهو يلتقي به في إطار عائلي. وعندما يقضي سعد الحريري عطلة نهاية الأسبوع في باريس، إنما يفعل ذلك من أجل المصلحة القوميّة العربيّة العليا. وعندما حلّ به الترحال أثناء حرب تموز في قبرص، قال إنه أتى مع باسم السبع لطلب تدخّل رئيس قبرص من أجل وقف سريع للنار. أي أن الشيخ سعد يحمل وطنه في طائرته الخاصّة، فلتنهمِر الدموع
أسعد أبو خليل*
هذا هو رئيس حكومة لبنان الأوحد والواحد. صوره تملأ مناطق وجود طائفته المنصورة، وهو دائم الابتسام وبادي الاغتباط بالنعمة السياسيّة التي هبطت عليه. هناك من «الزعماء» من يُنوّعون في صورهم: تراهم، مثل صدّام حسين ورفيق الحريري وبشّار الأسد وأنور السادات، في أوضاع مختلفة: هو يتأمّل، ويفكّر بعمق، ويحيّي الجماهير: بقبضة واحدة أو بقبضتيْن. صدّام حسين كان يرتدي أزياء مختلفة في مناسبات مختلفة. هو الفلاح يوماً والبورجوازي المُعتمِر قبعات رجال الشرطة الغربيّين في الأربعينيات والخمسينيات يوماً آخر، ولا ضير لو ظهرت صوره باللباس الكردي التقليدي فيما كانت قنابله الكيميائيّة تحرق آمنين في حلبجة. لكنّ صور سعد الحريري مختلفة نوعاً ما. فهو الباسم المُبتسم أبداً. لا ترى علائم أي أزمة على محيّاه لأنك تتيقّن أنه يفتقر إلى المعلومات الأوليّة والحسّ البدائي والمعرفة السياسيّة لتقدير عواقب الأمور... لكنه حجم المسؤوليّة التي من المفروض أن تكون نظريّاً ملقاة على كتفيه. وهو لا يستطيع أن يظهر أنه يحكم لأن سيطرة الحكم السعودي على عائلته بادية للعيان.
احتفل العالم بوصول سعد الحريري إلى سدة رئاسة الحكومة قبل أن يبوّأ المنصب رسميّاً. إذ ان مئات الآلاف من المشاهدين (والمشاهدات) في موقع «يو تيوب» تنعّموا برؤية سعد الحريري وهو يتلعثم ويتأتئ في قراءة بيان وزاري يفترض أن يكون هو كاتبه. مَن يظنّ أنّ سعد الحريري أسهم بفكرة أو في جملة في بيانه الوزاري؟ مَن يظنّ أن سعد الحريري قرأ بيانه الوزاري، وفهمه، مرّة واحدة، قبل ان يتلوه ضاحكاً في المجلس النيابي؟ من يظنّ ان سعد الحريري عقد اجتماعاً واحداً مع مستشاريه لإسداء النصح حول بيانه الوزاري؟ من يظنّ أن سعد الحريري يستطيع ان يجيب عن سؤال من دون إذن من هاني حمّود؟ قال لي نائب من كتلة الحريري: صحيح ان سعد الحريري لا يقرأ، لكن هاني حمّود يقرأ. قلت له: لماذا لا يكون هاني حمّود رئيس حكومة إذاً؟

اعترف الحريري أنه كان «تلميذاً متوّسطاً»، لكنه أضاف في لفتة غرور: لكن انظروا إليّ اليوم

ورئيس حكومة لبنان زار أميركا أخيراً بعدما زار دمشق في زيارة تقديم طاعة للمصالح السعوديّة في المنطقة، والمصالح هي التي ترتئي متى يخاصم سعد ومتى يصالح. وتيّار الحريري تذاكى لأشهر: سعد الحريري يقدّم واجبات الطاعة في دمشق، فيما يستمرّ إعلامه (الذي يتخفّى بعضه في مواقع متعدّدة على الإنترنت من «ناو حريري» إلى «ناو مقرن» إلى «ناو كوانتوم» و«ناو هاني حمّود») في حملاته ضد النظام في سوريا ظنّاً منه ان الإنترنت لم تصل إلى سوريا بعد. وقد عنونت جريدة «السفير» يوم وصولي إلى بيروت قبل ثلاثة أسابيع أنّ سعد الحريري «أبلغ أوباما»، وذكرت خبراً عن صواريخ «سكود». هذا الخبر يستحقّ التوقّف عنده. سعد الحريري، رئيس حكومة مسخ وطن «أبلغ أوباما». هكذا يتصوّر بعض لبنان شأو مسخ وطنهم الصغير. هذا الخبر يأتي على طريقة الأخبار الدوريّة في جريدة «النهار» ومحطة «إل بي سي» عن اكتشاف و«اختراع» مزعوميْن من قبل لبنانيّين لدواء لداء السرطان. وهناك جامعة لبنانيّة أسبغت شهادة فخريّة على لبناني لأنه حسب ظنّها سيطلع بدواء للسرطان بعد أسبوع، وعلى المريض ان يتناوله مع أعشاب «أمانا كير». يعني رئيس الجمهوريّة الأميركيّة «يتبلّغ» قرارات ومشورات من قبل رئيس حكومة لبنان الذي يكيل المديح عليه كما كال المديح على سلفه، فيما كُتب له من بسيط الكلام بالعربيّة والإنكليزيّة.
وقد استمرّ اجتماع الحريري مع أوباما لنحو خمس وعشرين دقيقة بالتمام والكمال، لكن جريدة «النهار» دائماً تضيف أن الرئيس الأميركي (بوش ثم أوباما من بعده) مدّد مدّة الاجتماع مع السنيورة والحريري من بعده لعذوبة كلام الأول وشاعريّة الثاني. يعني السياسي اللبناني ما إن يحطّ رحاله في بلاد الرجل الأبيض حتّى يسحر الرجل الأبيض. إيه، والله. ما للرجل الأبيض يسحره اللبناني؟ والعجيب في قصّة سعد الحريري أن سنوات التجربة الخمس لم تترك أثراً فيه: لا وقع لتجارب سنوات عجاف. يبدو حائراً من دون هاني حمّود كما بدا عند اغتيال والده. يستعمل الحريري في العربيّة والإنكليزيّة عدداً محدوداً من المفردات، ويتكلّم كصبي في مدرسة إعداديّة عندما لا يقرأ من نصّ مكتوب وضعه واحد من مستشاريه الكثر.
وخطاب الحريري في جامعة «جورجتاون» كان طريفاً. سألني البعض في لبنان والمهجر عن كيفيّة قبول الحريري في جامعة «جورجتاون». أردّ بأن الواسطة تفعل فعلها، وخصوصاً في الجامعات الخاصّة والعامّة في الغرب، كما تفعل فعلها في الحياة السياسيّة اللبنانيّة. جامعة «أوكسفورد» تطارد أمراء النفط لاجتذابهم مع أولادهم وأحفادهم لمقاعدها، ولإسباغ شهادات عليا عليهم. وواحد من أبناء الشيخ زايد جاء إلى جامعة «أوكسفورد» قبل بضع سنوات في مبادرة من الجامعة لكسب بعض أموال التبرّعات النفطيّة. واحدة من أساتذة الشيخ المذكور أخبرتني أنه لم يكن يتمتّع بحدّ أدنى من الاستعداد الأكاديمي والجامعة أفردت له عدداً من الأساتذة لتلقينه في حلقات ودروس خاصّة. جامعة «أكستر» البريطانيّة لم تترك نافذا خليجيّاً إلا أسبغت عليه شهادة لم يستحقّها. وجامعة «جورجتاون» ليست استثناءً من حيث سعيها للتبرّعات الماليّة العربيّة على أن تحظى بموافقة صهيونيّة (ردّت جامعة «جورجتاون» في الثمانينيات تبرّعاً سخيّاً من الحكومة الليبيّة لأن القذّافي يومها لم يكن مرضيّاً عنه، فيما قبلت في الحقبة نفسها تبرّعاً من وزير الدفاع الكويتي، كما قبلت أخيراً ملايين من الأمير الوليد بن طلال الذي أصرّ على أن يُسمّى مركز «التفاهم المسيحي ـــــ الإسلامي» على اسمه بعد رفض «مركز الدراسات العربيّة المعاصرة» في الجامعة نفسها طلب الأمير تغيير اسم المركز). وتبرّعات آل الحريري أو غيرهم تضمن قبولاً لا يُستحقّ لأبناء وبنات العائلة الثريّة. المواهب ليست شرطاً للنجاح والتقدّم والترفيع لمن وُلد مُذهّباً.
وقد قال الحريري كلاماً أمام طلاب الجامعة ظنّ أنه بليغ. اعترف لهم بأنه كان «تلميذاً متوسطاً» لكنه أضاف في لفتة غرور: لكن انظروا إليّ اليوم. أي انه استطاع ان يحقّق نجاحاً وتفوّقاً بالرغم من توسّطه الأكاديمي. طبعاً، إن وصف سنوات الحريري في «جورجتاون» بأنه كان تلميذاً متوسّطاً هو بمثابة وصف الأداء العسكري العربي في حرب 1967 بأنه كان «عاديّاً». لم يكن لابن العائلة الثريّة أن يُقبل وأن يترفّّع في صفوفه لولا تبرّعات والده. وماذا عنى الحريري في كلامه؟ هل يعني أنه حقّق نجاحاً بعرق جبينه وسهره الليالي في قراءة الملفات والكتب والدراسات؟ وهل وصل الحريري إلى منصب رئاسة الحكومة الذي زها به أمام الطلّاب بكفاءته وشطارته وحدّة ذكائه؟ ولماذا لم يتحدّث الحريري عن ظاهرة الخلافة السياسيّة في مجتمع لبنان المتخلّف وعن ظاهرة الثروة وعلاقتها بالسلطة؟ ولو لم يكن الحريري ابن والده، هل كان سيُقبل في جامعة «جورجتاون: وهل كان سيصبح رئيساً لوزراء لبنان؟ أي لبناني فوق سن الخامسة يستطيع أن يقدّم أجوبة عن هذه الأسئلة البديهيّة.
لكن رئيس حكومة لبنان المُعيّن والمُستمرّ بإرادة آل سعود وآل أميركا، ينطق بكلام جديد وفظيع عن قضيّة فلسطين. وحده جان عزيز لاحظ جدّة كلامه. فيما كُتب له من كلام، قال الحريري الذي يزيد من كلامه عن الصراع العربي ـــــ الإسرائيلي، ان لإسرائيل اعتراضات وشكاوى وإن للعرب اعتراضات وشكاوى. أي أن الحريري، في ما قرأ من بسيط الكلام المُحرّك، قبل تساوياً وتوازياً أخلاقياً بين الموقف الصهيوني والموقف العربي. والحريري في كلامه في الغرب يربط بين معركة بوش (ومعركة بوش هي معركة أوباما نفسها بالرغم من تغيّر المسميّات والتعابير) ضد ما تسمّيه أميركا «الإرهاب» وبين حل القضيّة الفلسطينيّة. أي ان الحريري، معبّراً عن إرادة آل الحريري الذي يعبّر عن إرادة آل سعود، يعتبر أن حلّ القضيّة الفلسطينيّة واجب من أجل: 1) دعم موقف «المعتدلين» العرب و2) من أجل تقويض موقف أعداء أميركا الذين «يستغلّون» استمرار القضيّة الفلسطينيّة.
وكلام الحريري يرتبط بسعي محموم لإطفاء جذوة المقاومة الفلسطينيّة والعربيّة ضد إسرائيل واحتلالاتها. لكن حزب الله المشغول بالهمّ البلدي لم يلاحظ كل ذلك. الحريري لا يتحدّث عن قضيّة شعب فلسطين بنفس الخطاب اللبناني. هو يتحدّث عن الموضوع بخطاب أسوأ من خطاب القوات اللبنانيّة وحزب الكتائب. هو يعتقد أن السلام مع إسرائيل حاصل، وأن ما على إسرائيل أن تقرّر حتى يقوم النظام العربي الرسمي بمكافأتها. لكنّ الحريري كسب بعضاً من النقاط الإيجابيّة مع اللوبي الإسرائيلي في واشنطن قبل ان يغادر بيروت. فهو نفى بإباء وشمم ان يكون قد قال ما نقلت عنه جريدة «السفير» من كلام. فرئيس حكومة لبنان سجّل موقفاً رسميّاً نفى فيه ان يكون قد قال بأن للبنان الحق في اقتناء ما يريد وما يحتاج من سلاح. كاد الحريري يقول في ما يُكتب له من كلام إن لإسرائيل وحدها الحق في الحصول على ما تريد من سلاح. كاد الحريري يقول إنه يقبل بالمنطق الأميركي الذي يحصر تسلّح لبنان فقط في إطار القمع الداخلي وفي إطار تدمير المخيّمات الفلسطينيّة فوق رؤوس أصحابها. احتاج الحريري أن يقول هذا الكلام حتى لا يواجه استخفافاً أو غضباً أميركياً من مواقفه بعدما ذهب بعيداً في معيار «العزيز جيف» في موالاة دمشق بأمر سعودي.
وسعد الحريري أضاف كلاماً عن فلسطين في جلسة تأجيل الحقوق «المدنيّة» للشعب الفلسطيني ـــــ واللورد بلفور كان حريصاً في وعده المشؤوم على نفس الحقوق. كلام سعد الحريري النافر على فلسطين يمرّ دوماً مرور الكرام. ماذا قال الحريري في مجلس النوّاب عند الحديث عن حقوق الفلسطينيّين في لبنان لا فضّ فوه؟ قال بالحرف: «يعني نساعدهم لاستثمار يمكن أن يصبح إرهابيّاً في المستقبل. ورأينا ما حدث في نهر البارد... ونحن أكثر شعب متمدّن». هنا يعتنق الحريري ـــــ من دون إرادة على الغالب لأن عنصر الإرادة معدوم عند رئيس حكومة لبنان ـــــ نظريّة نتنياهو لـ«حلّ» القضيّة الفلسطينيّة. والحل عنده يكمن في نشر الرأسماليّة وفرص العمل في أوساط الشعب الفلسطيني كي ينسى قضيّته الأم. ويقترب سعد الحريري من النظرة الصهيونيّة الغربيّة في قوله إن الحقوق الإنسانيّة البدائيّة للشعب الفلسطيني تستحقّ أن تُعطى لكن ليس من أجل الشعب الفلسطيني وإنما من أجل الشعب الذي أرفع منه مرتبة، أي الشعب اللبناني. يقول سعد الحريري لحلفائه من حلفاء إسرائيل «السبّاقين» إن إعطاء الحقوق مهمّ لحمايتهم من إرهاب الشعب الفلسطيني. ولا ينسى أن يضيف الكلام المُنمّق الذي نألفه في جريدة «النهار» عن رقيّ وحضارة شعب لبنان الذي أكّد الجنرال عون في أكثر من مناسبة أنه «عظيم» ـــــ باستثناء تلك الأحايين التي يخذله فيها في الانتخابات.
الصحافة الإسرائيليّة نشرت هذا الأسبوع معلومات عن أن الحكومة الأميركيّة ضغطت على الحكومة اللبنانيّة من أجل ان تختلق الأخيرة أعذاراً وأسباباً «تقنيّة» لتأخير رحلات السفن نحو غزة وإلغائها. ووجدت الحكومة اللبنانيّّة فجأة أسباباً تقنيّة لمنع السفن اللبنانيّة من الرحيل. وتطابق موقف الحكومة اللبنانيّة مع موقف الحكومة الأميركيّة الحامي لإسرائيل بدا أكثر ما بدا في تصريح للناطق شبه الرسمي باسم الشيخ سعد، عمّار الحوري ـــــ وهو دائم الابتسام مثل المعلّم. قال حوري: «يجب أن نتكلّم بشيء من العقل والحكمة كي لا نورّط بلدنا في أمر جديد ونسبّب معركة جديدة أو حرباً جديدة... المطلوب بعد الانتصار الكبير الذي حقّقناه... أن لا نعطي إسرائيل ذريعة فتحقق هي انتصاراً علينا في السياسة». هنا، تتفتّق الحريريّة عن بواطن أساسيّة في موقفها من القضيّة الفلسطينيّة. أي أن نظريّة الذريعة لا تنطبق فقط على الكفاح المُسلّح فتنبذه وتمنعه بحجّة أنه يشكّل ذريعة لإسرائيل (وفي هذه النظريّة تبرئة لإسرائيل في حروبها واجتياحاتها كما أنها تسوّغ لإسرائيل أعمالها العدوانيّة وتجعل من الغرب حكَماً مُنصفاً قادراً على معاقبة إسرائيل لو قامت هي بالعدوان) بل هي تنطبق حتى على العمل السلمي. وهذه نقطة تحوّل هامّة يجب ان لا تمرّ عرضاً، ويجب ان توضع في سياق الموقف الجديد لفريق الحريري من القضيّة الفلسطينيّة.



أي ان فريق الحريري، بلسان حوري هذا، يقول إن العمل السلمي ضد إسرائيل يجب أن يُنبذ أيضاً ويحذّر من خطورة أن «نورّط بلدنا... ونسبّب معركة جديدة أو حرباً جديدة». وهنا يتضح الموقف الحقيقي لتيّار الحريري ولجنته الخماسيّة: اي انه يعفي إسرائيل من مسؤوليّة عدوان تمّوز ويضع اللوم على نون الجماعة. هنا، يكاد عمّار الحوري يعتذر من إسرائيل لما لحِقها في لبنان من عدوان وضرر من جرّاء عدوان تمّوز. لكن يبقى السؤال مشروعاً: إذا كان الكفاح المُسلّح بوجه إسرائيل ممنوعاً لأنه يعطي الذريعة لإسرائيل لشن حرب، وإذا كان العمل السلمي ضد إسرائيل ممنوعاً لأنه يعطي الذريعة لإسرائيل لشن حرب، فماذا يبقى من وسائل النضال ضد إسرائيل؟ الجواب واضح في ارتهانه للتوافق الأميركي ـــــ الإسرائيلي حول رضوخ المنطقة العربيّة برمّتها للمشروع الإسرائيلي من دون أي سؤال أو مساءلة أو مقاومة، وإن كانت سلميّة. هذا ما كان رفيق الحريري يعنيه عندما صدح الآذان بوعود الربيع.
وعهد الحريري يتسم بالقدرة على مراضاة الأضداد، أو بالقدرة على خداع فريق من اللبنانيّين بالإضافة إلى محاولة مبكّرة لخداع النظام في سوريا، لكن المحاولة باءت بالفشل. العلاقة بين الحريري وبين فريق كبير من اللبنانيّين الذين ينضوون في إطار حزب الله وحركة أمل والتيّار العوني لم تتحسّن البتّة رغم أنّ الحريري غيّر موقعه، من رئيس لتيّار طائفي إلى رئيس لحكومة عموم لبنان. والفريق المُعارض الذي ينضوي في تحالف تحت قيادة حزب الله، اكتشف فجأة مواهب لسعد الحريري كانت خافية عنه. من وئام وهّاب إلى سليمان فرنجيّة، الكلّ من حلفاء سوريا اكتشفوا للتوّ مواهب خفيّة وسحر شخصيّة لسعد الحريري بمجرّد أن وطئت قدماه أرض دمشق. النائب في حزب الله علي فيّاض اكتشف ما هو أهم: اكتشف أن الحريري مؤيّد للمقاومة، مع أنّ أوّل كلامه السياسي بعد اغتيال والده كان التأكيد في الـ«واشنطن بوست» أن مهمته تكمن في «نزع سلاح» حزب الله. أي أن لعلي فيّاض معلومات عن التوجّه المقاوِم للحريري لا يدري بها إلا الراسخون في العلم والسياسة والكياسة.

قبل الحريري تساوياً أخلاقياً بين الموقفين الصهيوني والعربي
إن وصول سعد الحريري إلى رئاسة الحكومة دليل على مظاهر باتت ثابتة في السياسة اللبنانيّة: أن مظاهر الزعامة التقليديّة في الريف اللبناني انتقلت الى المدينة وإلى الزعامة الحديثة من حيث تولّي الابن الزعامة عن والده بصرف النظر عن الأهليّة والكفاءة. كما أن العامة تسير وراء هذا الاختيار بلا كيف. لم يكن حلّ التنافس بين سعد الحريري وبين بهاء الحريري، الذي نقل خلافه مع أخيه إلى صفحات الجرائد، بيد الناس. الحلّ كان بيد الأمير سلمان الذي تولّى شأن العائلة بالنيابة عن آل سعود. كما أن وصول سعد الحريري دليل آخر على عمق التدخّل الخارجي في الشؤون السياسيّة اللبنانيّة. رفيق الحريري وصل إلى سدّة رئاسة الحكومة بقرار سوري ـــــ سعودي، وسعد الحريري وصل إلى رئاسة الحكومة بقرار سعودي (الحكومة الأميركيّة كانت تفضّل استمرار فؤاد السنيورة في المنصب، فهو مثل سلام فيّاض بالنسبة إلى المصالح الأميركيّة). رئاسة الحكومة في العالم الثالث باتت وظيفة إداريّة لا سياسيّة على نسق تولّي سلام فيّاض رئاسة الحكومة، مع أنه لم ينل من أصوات شعبه في آخر انتخابات تشريعيّة ـــــ بالتحالف مع حنان عشراوي ـــــ إلا 2%. الحريري مقبول أميركيّاً وأوروبيّاً، شرط أن يحكم السنيورة وشطح وباقي الفريق من خلال الحريري.
لكن عائلة الحريري نجحت أكثر من غيرها من عائلات الزعامة الجديدة، وذلك بفضل التزاوج الفذ بين الفساد المالي الهائل والتحريض المذهبي الفج. وحظوظ رئيس الحكومة في الاستمرار في موقعه لا تعود إلى نجاحه أو فشله أو حتى أدائه. الأمر ليس له، ولم يكن له مرّة واحدة منذ أن برز زعيماً. لكن حكم التاريخ يختلف. إن أداء سعد الحريري يمكن أن يخضع لحكم الناس العاديّين. قد تجد عائلة الحريري في المستقبل مؤرخاً صديقاً، كما وجد آل الصلح في باتريك سيل مؤرخاً صديقاً، ليسبغ صفات العبقريّة والفذاذة على الشيخ سعد مهما كان أداؤه. لكن التاريخ لا يُكتب بالأجرة.
* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا
(موقعه على الإنترنت:
angryarab.blogspot.com)