Strong>بشار القوتلي *في مقابلة مع صحيفة لاريبوبليكا الإيطالية نشرتها الصحافة العربية أواخر أيار، قال الرئيس بشار الأسد «إنّ منطقتنا تشهد ولادة تحالف تفرضه المصالح المشتركة وتتوافق ضمنه السياسات والمبادئ»، لافتاً إلى «أنّ فضاءً وحيداً بدأ يتبلور يجمع بين خمسة بحار، هي: البحر المتوسط وبحر قزوين والبحر الأسود والخليج العربي والبحر الأحمر، أي مركز العالم». لم يكن هذا هو تصريح الرئيس الأسد الوحيد بشأن الموضوع نفسه، حيث كان قد أشار لأول مرة للإقليم الجديد (البحار الأربعة) أثناء زيارة له العام الماضي إلى تركيا، حيث أكد أمام ملتقى رجال الأعمال «أننا عندما نربط هذه البحار الأربعة نصبح العقدة الإجبارية لكل هذا العالم في الاستثمار وفي النقل وفي غيره». كما عاد لتناول الموضوع خلال زيارته أرمينيا، زيارة قيل عن مساهمة سورية حقيقية خلالها في الانفراج التركي ــــ الأرمني الأخير.
وبالفعل، تزامن تراجع هيبة وهيمنة القطب الأحادي الأميركي على هذا الجزء من العالم مع بروز قوى إقليمية صاعدة، وبالتحديد قوة ناشئة لإقليم جديد يبدو في طور التشكل اليوم كرؤية تقوم على قاعدة 4 في 4، حيث تربط أربعة بلدان متجاورة، أربعة بحار تحوي مخزوناً استثنائياً من الطاقة والتبادل التجاري وفرص النمو. ومع أنها لم ترتق حتى الآن إلى مستوى المشروع الملموس (تحدث الرئيس الأسد حتى الآن عن تحالف)، لا يسع المراقب سوى متابعة إرهاصات نسج علاقات خاصة تجمع كلاً من أنقرة، دمشق، بغداد، وطهران عبر خطوات تعاون بين دول تمثّل ساحة التلاقي بين الطموحات السياسة والاقتصادية، والمتكئة على رصيد كبير في التراث الإنساني والبيئة الحضارية المدمجة.

الخصائص المادية العامة

يقع محور هذا الإقليم على الخط الواصل بين مضيقين حيويين وفضائه (وربما أمكننا أن نطلق عليه تسمية «بلاد ما بين المضيقين»). ففي بوابته الجنوبية الشرقية يقع مضيق هرمز أكثر المضائق أهمية استراتيجية على الإطلاق، حيث يمثّل الوصلة الحيوية لآبار نفط الخليج وبحر عمان مع المحيط الهندي، وتمر عبره يومياً حوالى خمس وسبعين سفينة شحن وستة عشر مليون برميل نفط. أما عند البوابة الشمالية الغربية، فيمثّل مضيق الدردنيل الصلة بين المتوسط والبحر الأسود، حيث تعبره مئة وخمسون سفينة يومياً تنقل في ما تنقل ثلاثة ملايين برميل نفط.
يضم الإقليم مجموعة سكانية يناهز عددها المئتي مليون نسمة ذات سمات فتية، على بقعة جغرافية تناهز مساحتها ثلاثة ملايين كيلومتر مربع، غنية بالموارد الطبيعية. وعلى خلفية متوسط النمو السكاني الذي يبلغ 1،5% سنوياً (مقارنة مع 0،4% لأوروبا)، يبلغ الناتج المحلي الإجمالي 1160 مليار دولار مع متوسط نمو يقارب 6،5% سنوياً، يتأهل الإقليم لمعدلات عالية من النمو، ستتسارع حتماً عند إنجاز الربط والتكامل الإقليميين.
هذا ويتميز الإقليم بكونه فسيفساء اثنو ــــ لغوية، تضم العائلة العربية إلى العائلة الفارسية والعائلة التركية، مع كل التنويعات الثقافية والمذهبية المرتبطة بها.

وزن الجغرافيا السياسية

يمثّل هذا المربع المكوّن من دول تجمع إلى تأكيد هويتها السياسية والقومية، دينامية ملحوظة، مفتاح أوراسيا. أوراسيا منشأ الطامحين إلى مصاف القوة العظمى على مر التاريخ، التي يقول عنها برجينسكي إن من يسيطر عليها لا يؤثر فقط على اثنتين من أكثر القارات إنتاجية من الناحية الاقتصادية، بل يؤثر تأثيراً حاسماً على الهيمنة الأميركية والمشروعية التاريخية المنبثقة عنها. من هنا صيغ «مبدأ كارتر» الذي ما زال قيد الاستخدام بعد ثلاثين عاماً على وضعه، حيث تعتبر الولايات المتحدة أي محاولة للتحكم بالخليج العربي هجوماً مباشراً على المصالح الأميركية تقتضي مواجهته بكل الوسائل. تحت هذا المبدأ تندرج حربا أميركا في الخليج، وتحت المبدأ نفسه تدرس خيارات حربها الثالثة هناك. إن محور «قوس الأزمات» (المصطلح الغالي على قلب بريجينسكي) اليوم وأكثر عناصره خطورة، ليس سوى المنطقة الجغرافية التي تضم هذه الدول الأربع، أي تركيا، سوريا، العراق، وإيران، والتي تنشط على إيقاعات تفاعل العوامل الاقتصادية ــــ الاجتماعية الخاصة بها، بالعوامل القومية ــــ السياسية. لقد أصبحت هذه المنطقة من العالم في قلب ذاك المحور من خلال عمل الولايات المتحدة ذاتها على نقل مركز الثقل الاستراتيجي تدريجياً بعد نهاية الحرب الباردة من أوروبا إلى آسيا، وهي كانت قد تحررت من عبء الردع، وتبنت عقيدة هجومية مباشرة بدأتها على «محور الشر» في حرب الخليج الأولى عام 1991، من أجل احتواء تمدد محتمل للصين، مواجهة إيران، استثمار أسواق الهند الصاعدة، وفي الوقت عينه إحكام السيطرة على خطوط نقل الطاقة. إنه مركّب من الاعتبارات العسكرية والاقتصادية الاستراتيجية، وفي مقدم كل ذلك مدخل الولايات المتحدة إلى أوراسيا عبر خاصرتها الرخوة في الجنوب، التي وضعت دول الإقليم في وضعية دفاعية منذ أكثر من ثلاثة عقود.
يضم الإقليم مجموعة سكانية يناهز عددها المئتي مليون نسمة ذات سمات فتية
إن التوتر الاستراتيجي على هذا الفالق الجيوسياسي الذي سبّبته إسرائيل منذ منتصف القرن الماضي بداية، ثم الولايات المتحدة لاحقاً، مثّل مبرراً كافياً لهذه الأخيرة (كما لحلف الناتو) إذاً للتموضع والانتشار العسكري عليه. ليس صدفة إذاً أن تتلازم «منطقة المسؤولية» المركزية تبعاً لخريطة القيادة الوسطى الأميركية اليوم، مع نطاق حلف بغداد نفسه، أو حلف السنتو (المركزي) اللذين مضيا. هذا يسمى ثوابت في منطوق الجغرافيا السياسية. ثوابت كمثل مواجهة الاندفاع الروسي التقليدي المتجه نزولاً من الشمال نحو الجنوب عبر القوقاز، لكنه، وهنا الجديد، يتزامن مع حراك إيراني (جنوب ــــ شمال وشرق ــــ غرب) وآخر تركي (جنوب ــــ غرب وشمال ــــ شرق).
يقتضي هنا ملاحظة ثلاثة عوامل متفاعلة: أولاً، لقد أدى الغزو والوجود الأميركي إلى نشوء تحالفات جديدة في ما بين دول الإقليم، تحالفات الضرورة، تحالفات المصلحة، وتحالفات الخيار . ثانياً، ساهم الغزو في صعود التعبيرات القومية مجدداً، وهو ما نراه في إيران، سوريا، وتركيا. ثالثاً، بلور هذا الغزو لدى اللاعبين الإقليميين الوعي لفكرة وجودهم على الفالق الجيوسياسي، ما حفز التفاعل مع ديناميات القوى المختلفة واندفاعاتها المتعارضة. باختصار، لقد ساهمت هذه الأسباب مجتمعة في تأسيس دينامية جديدة عنوانها المقاومة واستثمار مفاعيلها باتجاه الانتقال من وضع الدفاع السلبي إلى وضع المبادرة. إنه تطور في الاتجاه الصحيح لمن يملك الرؤية والإرادة، من هنا تأتي تصريحات زعماء الإقليم في الفترة الأخيرة لتؤكد هذا المنحى.
واليوم، وقبيل مباشرة استراتيجية الخروج الأميركي من «المستنقع»، لم تعد بيئة الإقليم مستقرة أبداً للأميركان، وهي لم تكن مستقرة أساساً خلال عملية الغزو المباشر عينها قبل عقود من الزمن. وفي محيط غير مستقر يفترض الوضع الجيوستراتيجي للمنطقة مقاربة جديدة للنظام الإقليمي كما لتعبيرات القوة والمجال اللذين يعودان له، وهذا ما يحصل.

صعود الجيوستراتيجيا

تتميز المقاربة الجيوستراتيجية عن الجيوسياسية بأن الأولى تأخذ بعين الاعتبار العوامل القومية الطاغية من نوع أهمية الموارد الدولتية المتاحة، طموحات الدول المعنية وأهدافها، استثمار الجغرافيا السياسية في اللحظة التاريخية، كما لتأثير امتلاك التكنولوجيا على المجالات الاقتصادية والعسكرية، ثم تعيد الاستراتيجية الكلية تشكيل فضاءات التبادل وتنظم علاقات القوة في الإقليم، حيث تتركز ديناميات الحركة والنفوذ حول قطاع ما (الطاقة مثالاً)، لتخلق منها تعبيرات القوة العابرة للحدود الوطنية.
لذلك ما زال كثير من المحللين ينحو للنظر إلى الحراك حول الإقليم الجديد من زاوية تمحوره حول السياسات النفطية الإقليمية، حيث يتنافس اللاعبون ليس للسيطرة على مناطق جغرافية بعينها بل على خطوط الأنابيب وممرات الناقلات والعقود النفطية، كجوائز لهذه اللعبة الكبرى. وتبرز بالفعل أهمية الإقليم «كجسر للطاقة» يربط موارد الخليج مع آسيا الوسطى مع قزوين، إضافة إلى أن افتتاح خطوط نقل النفط والغاز يجعل من هذه البلاد من دون شك مهمة للطاقة العابرة، ما يعزز موقعها على الرقعة الدولية.
لكن «سياسات الطاقة» لا تكفي وحدها لفهم الديناميات الإقليمية التقليدية منها والمستجدة، لأنه في أساس هذا الحراك، تملك هذه الدول (إن استثنينا العراق اليوم) نفوذاً ومصالح قومية في محيطها المباشر: إيران في آسيا الوسطى، سوريا في بلاد الشام، وتركيا في البلقان وقزوين، تعمل على تأكيده وتعزيزه حضوراً فاعلاً وسياسات. إن عملية «الإشعاع» هذه خارج الحدود الدولتية لمكونات الإقليم ستمنحه دينامية وعمقاً كانا لفترة قريبة حكراً على الدول الكبرى.
في جميع الأحوال، من المفيد هنا رصد مسار الاندماج الإقليمي من أجل التحقق من امتلاك هذا الإقليم خصائص المجموعة المندمجة في الزمن الراهن، وذلك من خلال زوايا أربع: أولاً، التعاون العام الثنائي والرباعي، وقد بدأنا نشاهد تطبيقاته من خلال معاهدات استراتيجية، بروتوكولات تعاون وتيسير، إضافة للمباشرة بمشاريع تختص بالربط وبالبنية التحتية الإقليمية تميزت سوريا بالريادة فيها حتى الآن، حيث بدأ تطوير الربط الحديدي مع تركيا عبر ثلاثة خطوط شمالية، ووضعت الدراسات لخط طرطوس ــــ إيران مروراً بالعراق، دون إغفال أنه بدأ استدراج العروض من أجل المباشرة بالطريقين السريعين اللذين يصلان حدود الأردن بحدود تركيا من جهة، والثاني الذي يصل حدود العراق بطرطوس. ثانياً، التعاون العسكري، وقد بدأ بالاتفاقيات العسكرية بين سوريا وإيران، وبين سوريا وتركيا وعلى صعيد المناورات المشتركة. ثالثاً، التعاون الاقتصادي مثل التخفيف من الحواجز والرسوم الجمركية المباشرة. أخيراً، التنسيق على صعيد السياسات الخارجية، ويبرز هنا التفاهم التركي الإيراني في الملف النووي مثالاً، عدا مواقف منسقة في نشاط منظمة المؤتمر الإسلامي، لكن في صميم ذلك الدفاع الحاد عن فلسطين كلها بأهلها وأقصاها في جميع المناسبات.

التحديات

صحيح أن عوامل الجغرافيا والديموغرافيا والاقتصاد، تبدو في مصلحة تشكل الإقليم، ولكنه قد يفقد ميزاته سريعاً إن لم ينكب بداية على مواجهة مجموعة من التحديات القاسية، وفي أساسها حسم معركة العراق لمصلحة الإقليم. ثانياً، التفاهم ما بين جميع مكونات الإقليم على مصالح موحدة بالنظر لتوترات العلاقات البينية الناتجة من تعارض حالي للمصالح (إيران/العراق أو إيران تركيا حول العراق نموذجاً). ثالثاً، من المفيد للإقليم الجديد أن يتمكن من تعريف طبيعة اندماجه (تموضعه) في النظام العالمي، أي الوظيفة التي سيتبناها بهدف واحد أمام المجتمع الدولي. رابعاً، إن للنهضة هنا طبيعة مفاهيمية خاصة، وبمعنى أدق هي مركب من العوامل الذاتية التاريخية ــــ الاجتماعية والموضوعية التنموية. المطلوب إذاً التدقيق بمسار التطور الداخلي عينه ووضعه في الإطار الإقليمي الأوسع. خامساً، إيجاد آليات تنسيق برامج الاندماج الإقليمي من بنى تحتية وتعاون اقتصادي فاعل في وقت قصير. سابعاً، التقدم على هذا الطريق بالتوازي مع تطوير بيئة مكوّناته المعرفية والتكنولوجية على المديين القصير والمتوسط.

خلاصة

إذا كان غزو العراق قد مثّل خاتمة العولمة كما عرفها العالم منذ تسعينيات القرن الماضي، فقد مثّلت المقاومة لهذا الغزو فاتحة تاريخ جديد للمنطقة. إن تشكل إقليم جديد وصعوده بعد تطورات حقيقية تشهدها المنطقة سوف يرسي نمطاً مختلفاً في التعامل معها ضمن تصور جديد زماناً ومكاناً، خارج المقاييس الدولية في التعامل معها حتى الآن.
كلمة أخيرة عن لبنان. قد لن يبقى لبنان عينه كما كان في العقود الماضية، إن لجهة الدور أو الوظيفة البنيوية، وسيكون عرضة لديناميات إما جاذبة وإما طاردة في أقصى الحالات، وهذا منطق الفيزياء الذي لا تنفع معه كل «الشطارات» اللبنانية. على قوى المجتمع هنا مهمة قراءة المتغيرات بعين الدراسة والتحليل لصياغة استراتيجيات تفاعلية لمصلحة البلد وأهله. وعلى الطبقة السياسية أن تسعى ما أمكن لتفعيل المجلس الأعلى اللبناني ــــ السوري كآلية وحيدة متاحة حتى الآن لمواكبة هذه المتغيرات الإقليمية.

* ناشط لبناني