الهزيمة الحقيقية لـ «اليسار الغربي» لم تكن في صعود اليمين النيوليبرالي، متمثّلاً بتاتشر وسياساتها التي صارت نموذجاً، بل في ظهور «اليسار الجديد» ــــ طوني بلير في بريطانيا والكلينتونية في اميركا ــــ الذي أنتج «يساراً» قادراً على الفوز بالانتخابات والحكم، ولكن وفق أجندة اليمين. سياسات الخصخصة العميقة في بريطانيا نفّذها «العمال الجديد» الذي صنعه بلير وحلفاؤه، وليس المحافظون، وكلينتون كان من وقّع على معاهدة «نافتا» للتجارة الحرة وأشرف على تفكيك القطاع الصناعي في بلاده.
بين الحرب العالمية الثانية والثمانينيات، لم تكن للإنتخابات في بريطانيا صفة مواجهة ايديولوجية، بمعنى أن التوافق على «دولة الرعاية» كان قاسماً مشتركاً بين العمّال والمحافظين، يجري النقاش تحت سقفه، ولا خلافات بينهما على السياسات الرئيسية والنمط التنموي؛ بل كانت الانتخابات أشبه بمنافسة على اختيار الفريق الأجدر بإدارة هذا النظام.
من هنا كانت المرحلة التاتشرية فارقة، فمارغريت تاتشر أقامت حملتها على رؤية ايديولوجية واضحة، عبّرت عنها بقوة وجرأة، اعتبرت أن التوافق القديم قد انتهى وأن لا حلّ لبريطانيا الّا باعتماد سياسات الخصخصة والحرية الاقتصادية وتقليص الدولة. «العمال الجديد» عاد الى الحكم تحت سقف «التوافق النيوليبرالي» هذا، بنظريةٍ تقدّم الفوز في الانتخابات على أي اعتبار آخر. اذا كان المحافظون يدعون للرأسمالية، فالعمّال الجديد يدعو الى «رأسمالية بوجه انساني»، واذا كان المحافظون يقدّمون مرشحين نيوليبراليين شيباً ومملين ومن خلفية أرستقراطية، فالعمّال سيقدّم مرشحين شباباً وحيويين ــــ ونيوليبراليين ايضاً. بهذا المعنى، كان النجاح الانتخابي لبلير، الذي أعاد الحزب الى الحكم بعد أكثر من عقدٍ من الهزائم، الحجّة الأساسية لتيار «العمال الجديد»، وهو استمرّ في حكم الحزب حتى الأسبوع الماضي.
بعد انتخاب جيريمي كوربن رئيساً لحزب العمّال، بدأت التحذيرات من فوز «هذا المتطرّف» تتصاعد، من الصحافة اليمينية كما من دوائر «العمال الجديد». نشر طوني بلير مقالاً يحذّر من انتخاب كوربن ، وأنه سيعرض الحزب الى هزائم فادحة في الانتخابات العامة. كما كررت الصحافة المحافظة لازمة انه «غير قابل للانتخاب»، وأن أفكاره قديمة وخطيرة (وقف اجراءات التقشف، تأميم مؤسسات تمت خصخصتها في الماضي، واعادة الأولوية للانفاق على التعليم والصحة).
الغريب هو أن كوربن ، بالمقاييس التقليدية لحزب العمال، ليس متطرفاً أو شيوعياً، بل أن مواقفه في الثمانينيات كانت تعتبر «وسطية» وهو، ببساطة، قد حافظ عليها. يقول كوربن بوضوح أنه يريد انهاء موضة «حزب العمال الجديد»، والتركيز على السياسات وليس على تفريخ شخصيات تفوز بالانتخابات ولكنها لا تحمل فكراً يدعم العمال والطبقات الشعبية.
هذه ليست المرة الأولى التي تفوز فيها شخصية خلافية بشكلٍ مفاجىء في بريطانيا (لم يكن أحد يتوقع الفوز لكوربن قبل أشهر قليلة). تاتشر، أصلاً، لم تكن المرشح المقدّر له الفوز بانتخابات حزب المحافظين عام 1975، بل صعدت بشكلٍ مفاجىء، من مرشّح «شكلي» شاب (يمثل «تقدمية» الحزب وحداثته)، لتهزم رموز القيادة التقليدية. وفي الثمانينيات، كاد التروتسكيون أن يسيطروا على حزب العمال (بحسب لوائح الحزب يومها، كانت السيطرة على مكاتب محلية للحزب تتعلق مباشرة بقدرة الناشطين، ببساطة، على قضاء امسياتهم في اجتماعات مملة، وهو ما كانت الأقلية التروتسكية لا تمانعه، فكادوا أن يكتسحوا القرار في دوائر كثيرة للحزب). العماليون التقليديون اليوم يهاجمون كوربن لافتقاره الى «الجاذبية الانتخابية»، وهي مفارقة طريفة بالنظر الى انّه قد هزمهم جميعاً ــــ انتخابياً ـــــ وبفارق كبير.