سعد الله مزرعاني *كاللص الذي ضُبط بالجرم المشهود. هذه هي حال كلّ من إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية هذه الأيام: إسرائيل من خلال ارتكاب جريمة قتل المتضامنين العزّل في المياه الدولية، والولايات المتحدة الأميركية من خلال تغطية جريمة حصار غزة بجريمة جديدة هي حصار إيران.
وتتداخل هنا مجموعة من الملفات والتناقضات التي تفضح اختلالات خطيرة قائمة في المؤسسات الدولية التي يُراد لها أن تكون مرجعية وأن تنفّذ قراراتها فقط عندما تتناول هذه القرارات الدول التي لا تنصاع للإملاءات الأميركية خصوصًا، والغربية والاستعمارية عمومًا.
تقدّم لنا الوقائع المتعاقبة الراهنة مشهدًا جديدًا من تلك المشاهد التي اقترن ظهورها بأشكال مكرّرة من الانحياز، والكيل بمكيالين، وتسخير المؤسسات الدولية حينًا أو تعطيل دورها حينًا آخر... وفي كلّ ذلك، اللاعبون والمتفرّجون هم أنفسهم: من جهة، الولايات المتحدة تحمي الاعتداءات والانتهاكات والارتكابات الصهيونية، ومن جهة ثانية، تقف المؤسسات الدولية متواطئة أو عاجزة، ومن جهة ثالثة، يواصل معظم الحكام العرب سياسة الجلوس في مقاعد المتفرّجين على أمل حسم المباراة كاملاً لمصلحة «رامبو» الأميركي ــــ الصهيوني.
لم يؤدّ الغضب الساطع الذي عمّ العالم على الجريمة الصهيونية، بما في ذلك في الولايات المتحدة نفسها، إلى جعل الإدارة الأميركية تغيّر جوهريًا من موقفها إزاء حالات عدوان وإجرام وقتل صهيونية مشابهة. أكثر من ذلك، اندفعت الإدارة الأميركية إلى أقصى الدرجات، في تغطية الموقف الإسرائيلي وفي محاولة صرف الأنظار عن جرائمه، وذلك عبر تسريع التصويت على الملف النووي الإيراني.
لكنّ الإدارة الأميركية لم تستطع هذه المرة «تغطية السموات بالقبوات»، كما كانت تفعل سابقًا. ويعود سبب عجزها، إلى جملة عوامل تقف في مقدّمها إخفاقات هذه الإدارة في منطقتنا وفي العالم وفي الولايات المتحدة الأميركية نفسها. هذا السبب الأساسي يُضاف إلى أسباب أخرى، بينها إخفاقات إسرائيل هي الأخرى في لبنان عام 2006 وفي غزة أواخر عام 2008. ومن بين هذه الأسباب أيضًا، تصاعد المقاومة ضدّ مشاريع العدوان والغزو والهيمنة الأميركية ــــ الصهيونية في المنطقة. ومن بين الأسباب أيضًا وأيضًا، انفلات السياسات الإسرائيلية المتطرّفة دون حدود وقيود، واتخاذها كما في الهجوم على «قافلة الحرية» صيغة دموية بربرية استفزّت الرأي العام الدولي، كما لم يحصل من قبل.
أما تحوّلات المواقف في المنطقة، فهي تدخل في باب النتائج التي تحوّلت بدورها إلى أسباب، كما هي الحال بالنسبة للموقف التركي، وبدرجة أقل بالنسبة للموقف الإيراني. إنّ التحوّلات التركية على صلة وثيقة بما تقدّم ذكره من تراكم الإخفاقات الأميركية والإسرائيلية، ومن صمود المقاومة وتصاعدها ضدّ المشاريع الأميركية والصهيونية... لكنّ هذه التحوّلات تراكمت وتبلورت حتى باتت عاملاً أساسيًا في الاعتراض على السياسات الصهيونية، وفي دفع قادة التحالف المتطرّف الراهن في إسرائيل إلى أقصى درجات الرعونة والتهوّر والخطأ والجريمة.
الاستراتيجيا الأميركية الجديدة تحتفظ بالكثير من عناصر «استراتيجيا الأمن القومي الأميركية» التي أعلنت عام 2002
لقد كرّست الاستراتيجيا الأميركية الجديدة التي أقرّتها أخيراً إدارة الرئيس باراك أوباما بعض نتائج تحوّلات العالم، في مقدّمها إخفاقات مشاريع الهيمنة الأميركية، كما اختُبرت في «الشرق الأوسط الكبير» تمهيدًا لتعميمها على العالم بمجمله. في الاستراتيجيا الجديدة، تمّ التراجع عن مبدأ «الحروب الوقائية»، وثمّ التعهّد بعدم استخدام السلاح النووي إلا في حالات الدفاع وفي مواجهة دول محدّدة ومحدودة دون سواها... كما تمّ التعهّد بحل النزاعات كعامل أساسي في تجفيف «منابع الإرهاب» بدل استخدام القوة أداةً وحيدة في مواجهة التيارات المتهمة بممارسة «الإرهاب» (الذي لا يميّز بالمناسبة، بين القتال العبثي والمقاومة المشروعة لمواجهة العدوان والاحتلال والانتهاكات والاغتصاب...).
لكنّ الاستراتيجيا الأميركية الجديدة تحتفظ بالكثير من العناصر التي كانت تشملها «استراتيجيا الأمن القومي الأميركية» التي أعلنها البيت الأبيض في أيلول عام 2002. ومن العناصر تلك، استمرار نزعة التدخل في الشؤون الداخلية لكلّ دول العالم. وتستخدم السفارات الأميركية أدوات فظة في هذا الصدد مخوَّلة صلاحيات تنال من سيادة الدول المعتمدة فيها. وتتناول هذه الصلاحيات حقوق استخدام العمليات الأمنية من نوع الخطف وتشجيع الاغتيالات وتجنيد العملاء... ومن تلك العناصر أيضًا، استمرار تقديم الدعم للعدو الصهيوني وحماية تفوّقه وأمنه ومغامراته وعدوانه وانتهاكاته المتنوّعة...
لكنّ الأمور لم تعد تجري كما كان يحصل في السابق. فالقدرات الأميركية العسكرية والاقتصادية والأخلاقية إلى تراجع. بالمقابل يزداد الرفض والاعتراض وتتوسّع المقاومة والمواجهة. ويضع كلّ ذلك العالم أمام وقائع جديدة وحقائق جديدة ونتائج جديدة.
ويشمل جديد المتغيّرات المنطقة العربية خصوصًا، ومنطقة الشرق الأوسط عمومًا. وفي هذا الصدد يجب ملاحظة أنّه فيما تتوسّع وتشتدّ المواجهة الشعبية مع المشاريع الأميركية والصهيونية، يواصل الموقف الرسمي العربي في معظمه الانزواء والانطواء والانكفاء والتواطؤ والانتظار. ويأتي التحوّل في الموقف الرسمي من خارج النطاق العربي، من تركيا بالدرجة الأولى التي تبدو قيادتها اليوم، أقرب إلى التعبير عن المصلحة العربية وعن نبض الشارع الشعبي العربي من كلّ الحكام العرب. هذه فجوة خطيرة يجب ألا تستمرّ. وهي بالتأكيد، تعكس في جانب أساسي من وجودها واستمرارها، خللاً في دور قوى التغيير والتحرّر العربية ونشاطها وما عليه. فمعظم هذه القوى ضعيف وعاجز ومستقيل أو مستهلك، فيما القوى الأكثر تأثيرًا وفاعلية لا تملك البرامج والتوجّهات والمنطلقات التي تؤهّلها للعب دور تحرّري ذي بعد قومي شامل، لا بل إنّ بعض ثغرات عملها ومنطلقاتها، يُستخدم في إضعاف مشروعها نفسه وفي محاولة إغراقها في انقسامات إثنية أو طائفية أو مذهبية حسب الشروط والمكان وطبيعة الصراع والمشاركين فيه.
تنطوي التطوّرات المتلاحقة التي أشرنا إليها على خطر تصعيد النزاعات والصراعات ومعها كلّ أشكال العدوان، لا بل أخطر هذه الأشكال سواء على المدى القريب، وهذا مستبعد هنا، أو على المدى الأبعد، وهو أمر مرجّح إلى حدّ كبير. لقد طالب أحد النواب الإسرائيليين بإغراق رئيس الوزراء التركي رجب طيّب أردوغان مع بواخره الحربية التي تحميه في البحر، إن هو حاول كسر الحصار على غزة. وكتب المعلّق السياسي الإسرائيلي «عكيفا إلدار» في هآرتس «أنّ تقدير المخاطر كان مختلاً لدى نتنياهو وإيهود باراك» عندما قرّرا إرسال الجنود للسيطرة على «أسطول» الحرية. ما بين مطالبة النائب الإسرائيلي وسوء التقدير من القيادة يمكن أن تشتعل المنطقة على أعنف ما يكون الاشتعال. لكن بالمقابل ثمّة في أميركا من يطالب بوضع حدّ للبربرية الإسرائيلية المغامرة. هيلين توماس كبيرة المراسلين في البيت الأبيض وواحدة من أكثر عشر نساء نفوذًا في بلادها، وصل بها السخط إلى حدّ مطالبة الإسرائيليين بالعودة من حيث جاؤوا! وثمّة في المنطقة العربية وحتى في العالم أيضًا، من هم على استعداد كامل من أجل بذل الدماء سخية لدحر الغزو والاحتلال ومشاريع الهيمنة...
بين هذين، يبقى الدور الرسمي العربي، وحتى الفلسطيني، كلمة ضائعة بين السطور إن لم يكن من السطور بالكامل!
* كاتب وسياسي لبناني