strong>رائد شرف*مرّ أيّار على لبنان، وطبقته السياسية في تجانسٍ قلّ نظيره في الأعوام الخمسة الماضية. فالعنصرية الاقتصادوية التي تميّز هذا الوسط هي في أقصى درجات نشاطها. مشروع موازنة مبايعة رأس المال يشقّ طريقه نحو الإقرار، ومشروع تحرير عقود الإيجارات القديمة قيد الإعداد. تبدو الاقتصادوية في فترة احتفالات شبه دينية، إذ لا تخلو الساحة من الطقوس.
وفي الشهر نفسه، نتذكّر لحظة أخرى من لحظات تجانس الطبقة السياسيّة، وقد كانت مميّزة في توقيتها، إذ وقعت في مرحلة انقسام النظام إلى فريقين، قيل إنهما آخذان البلاد بنزاعهما إلى حربٍ أهلية. وإذا بالفريقين المتناحرين يتوحّدان، في أيار 2007، على تدمير بيوت الشعب الفلسطيني في لبنان في مخيم نهر البارد.
سنرى أن التجانس في التوقيتين، أي الآن وفي سنة 2007، يدخل في المنطق الاجتماعي نفسه، الكامن في معتقدات الطبقة السياسية. وهي معتقدات عنصرية «خبيثة» تتصرّف بالخطأ عن عمد ووعي وكذب. كما أن المنطق الاجتماعي هذا يدخل في علاقة الطبقة السياسية مع بعض جمهورها، المتجاوب ودعايتها، فاضحاً وجود بنية اجتماعية في المجتمع، مستورة سياسياً، مع أنها ربما الأكثر فعّالية في سير الأمور على ما هي عليه في السياسة والمجتمع والاقتصاد في لبنان، أي في صناعة القهر في المجتمع اللبناني ككل وإعادة إنتاجه وتعميمه. وهي تثبت أن قضية السكان الفلسطينيّين في لبنان هي قضية كل سكان الأرض اللبنانية ومن رحل عنها.
ما هي هذه الحرب التي لا يسمّى فيها الهدف تسميّة واضحة؟ الحرب التي سمّيت حرب «نهر البارد»، هل كانت ضد تنظيم «فتح الإسلام»؟ إن كانت كذلك، فما الذي يفسر إذاً العقاب المستمر حتى الآن لسكان المخيم؟ إذ ما زال الجيش يفرض على المنطقة نظاماً عنصرياً استثنائياً يمنع السكان من مواصلة حياتهم «الطبيعية»، وهم الذين فقدوا بيوتهم وأسس عيشهم. اجتماعياً، على الأرض اللبنانية الأوسع، كان لقصف «نهر البارد» مفاعيل اجتماعية أخرى، لا تُفهم «حرب البارد» من دون العودة إليها.
كانت الحرب قد بدأت نتيجة مذبحة بحقّ عسكريين شباب، وبعضهم ذُبح أثناء نومه، نفّذتها مجموعة مسلحة مسمّاة «فتح الإسلام». لم تُخفِ المجموعة المسلحة مسؤوليتها، وأصدرت تصاريح في السياسة اللبنانية لا تمتّ بصلة إلى تناحرات اللعبة السياسية العادية آنذاك. وقد تلى المذبحة التي نالت تغطية إعلامية واسعة، سيلٌ من المواقف لسياسيين لبنانيين يزايد بعضهم على بعض، ويُجمعون على ضرب مخيم نهر البارد ومحاصرته، بدل اعتماد أسلوب التوقيفات الاستخبارية مثلاً لحل المشكلة (وهي كانت ممكنة قبل حصول الحادثة، لكن كان لبعض أركان النظام خطة أخرى آنذاك). وكانت تبدو على الآراء آثار واضحة، إن لم تكن سببية، متعلّقة باللعبة السياسية العادية، المنقسمة ما بين ١٤ و٨ آذار وغيرها من الخصوصيات. لكنها خلت خلوّاً شبه تام من أيّ موقف مرتبط بمتابعة دقيقة لمسألة «فتح الإسلام» ووضع نهر البارد الإنساني المعنيّ بالمعركة، وبالتالي، خلت من أيّ جواب «سياسي» في هذا الخصوص. هنا، ينبغي الملاحظة أن أقسى المزايدين على البطش كان التيار الوطني الحر، إذ صرّح العماد عون أن على رئيس الوزراء الفاقد للشرعية أن «يسكت» ويدع الجيش يتصرف. وهو مثالٌ على مساهمة المسيطَر عليه (آنذاك) في دعم نظام السيطرة التي يعانيها. قيادة الجيش، بالرغم من تحفّظ بسيط في أول اجتماع أمني ـــــ وزاري، لم تجد مشكلة في الاتجاه بحماسة نحو المنحى الصدامي، وهي الحاصلة على جزء أساسي من موازنة الدولة لتلبية حاجةٍ ما (دون احتساب ما تخصّصه الموازنة للمصارف من خدمة الدين).
عندما تكلم السيد حسن نصر الله، منفرداً على الساحة السياسية ونكاد نقول الإعلامية، بوجوب حماية ممتلكات الناس في نهر البارد وعيشهم، فُتح الباب واسعاً أمام مزايدات تيار رأس المال هذه المرة، ضمن منطق قواعد اللعبة السياسية العادية، ليستفيد من الدكّ المدفعي على بيوت الناس في المخيم لإعادة إنتاج دعايته.
ثم كانت محطة الانتخابات الفرعية في المتن وبيروت، بضعة أشهر بعد اندلاع حرب البارد، وجاءت شعارات التعبئة السياسية للفريقين المتناحرين مستوحاة بطريقة شبه كاملة من الحرب على المخيم، غير آبهين بإفلاس هذه الحرب، التي كلّفت مئات الأرواح من العسكريين ومن التنظيم الإسلامي، إضافةً إلى تدمير بيوت أكثر من ثلاثين ألف إنسان، جلّهم ضحايا من الفقراء. إذ يندر أن يسمح النظام اللبناني بأن يتضرر الأغنياء بشيء. لقد مثّلت شعارات معركتَي المتن وبيروت الفرعية النموذج الأكثر اكتمالاً لموقع الشعب الفلسطيني في النظام اللبناني.
في المتن، كان محور التصادم الإعلامي بين أمين الجميّل وميشال عون هو تذكير الناس بمن أجاد قتل «الفلسطيني» أكثر، في «معركة مخيم تل الزعتر» عام ١٩٧٦. في بيروت، كان تيار المستقبل مشغولاً بتحوير كلام السيد نصر الله المطالب بالحفاظ على أرزاق الناس، «المخيم خطّ أحمر»، وبتحويله بوقاحة قلّ نظيرها في السياسة الطائفية اللبنانية، إلى شعار تهويل وتحريض اجتماعي، «بيروت خط أحمر»، يفتح الباب على كل احتمالات العنصرية والفرقة بين الناس. ما يدلّ عليه منطق الشعارات، هو أنه يمكن إضفاء المعاني المستعارة على أغراضٍ اجتماعية، مثل الانتخابات الفرعية، لا تمتّ إلى أشياء الاستعارة بأيّ صلة.
فما هو الرابط بين المتن أو بيروت ومخيم نهر البارد؟ لطالما كانت لغات الانتخابات تأخذ أساس منطقها ممّا يعرف بالمنظومة التقليدية، من «مصلحة العائلات»، «الزعامة»، «الخدمات»، أو من التاريخ السياسي المحلي، كما يذهب به معظم المتحدّثين بالمجتمع اللبناني من صحافيين وسياسيين وعلماء اجتماع، وكما تبرهنه المعركة الانتخابية البلدية الحاصلة الآن. وحدها ظروف الأزمات تسمح بتجلّي هذه المنظومة المستورة اجتماعياً في الأيام العادية، التي لا تمتّ إلى «عقل» الأيام العادية بشيء (وهو بدوره لا يمتّ إلى العقل بصلة). إذ كان معلوماً آنذاك، على لسان وزير الدفاع إلياس المر في برنامج تلفزيوني، أنّ «فتح الإسلام» ليس حتى بربعه «فلسطينياً»، كما أنّ قسماً كبيراً من الفلسطينيّين لا يعيش في المخيمات، لكن منطق التعبئة العنصرية لا يريد فهم كل ذلك.
هذه الديناميّة السياسية والاجتماعية هي ما يمكن أن نعدّه منظومة للأحاسيس والمشاعر. وهي فرع أساسي من منطق نظام السيطرة اللبناني، وتثبت في موضوع العنصرية الاجتماعية الكامنة في النظام أنّ القضية الفلسطينية في لبنان لا تعني فقط الأفراد الفلسطينيّين.
حرب البارد مثلاً، ستعزّز في الرمزية السياسية صورة قدسية الجيش التي سيستخدمها لاحقاً البعض في إدانتهم لتظاهرة مواطنين لبنانيين، نزلوا إلى الشارع في الشياح مطالبين بوقف انقطاع الكهرباء. وكانت الفضيحة قد انطلقت جرّاء قتل الجيش بعض الشباب المتظاهرين رمياً بالرصاص، وهو المتمرّس بالعنصرية الطبقية (بما فيها بالفلسطينيين) ولم يكن بالضرورة متآمراً كما أوحى البعض. وتوجب بالتالي على أركان الطبقة السياسية المعبّئين بأزمتهم في ما بينهم أن يسجّلوا مواقف ونقاطاً. في خطاب المزايدين على أحداث الشياح، كما في سابقة نهر البارد، كان على المتظاهرين الركوع أمام هيبة الجيش. كان شعار ١٤ آذار يدعو إلى العودة إلى «النظام». هذا «النظام» الفضفاض المعالم، لكنه الملموس، والفعّال. يستنجد به السياسيون، وتتبعهم فئة من الشعب. هذا «النظام»، المرتبط مباشرةً بمنظومة المشاعر والأحاسيس، لا دخل له بسياسات ١٤ آذار الظرفية. فـ«النظام» كان قضية مركزية في القرن التاسع عشر مثلاً، عند كل برجوازية تشعر بأنّ تغيّرات العالم الاجتماعي ذاهبة بغير وجهة مصلحتها ومصلحة بسط هيمنتها الاقتصادية والثقافية. هو شغل البرجوازيات الصغيرة أيضاً، بالرغم من مرتبتها الدونية في القرار الاقتصادي، وبدرجة أقل في القرار الثقافي. لأن «هاجس النظام»، المحسوس، ولكن القليل التفصيل في الكلام، هو شرط ثبات عالم اجتماعي غير عادلٍ (تعود مصلحته إلى الطبقة البرجوازية أساساً في عالمنا المعاصر) في ظروف نظام سياسي «ديموقراطي»، تنادي أدواته الرمزية باستمرار بمزيدٍ من العدالة الاجتماعية.
في هذا المنطق، في منطق قرأة النظام القائم من حيث تعبئته للأحاسيس، تنجلي القضية الفلسطينية في حقيقتها الثلاثية الأبعاد في لبنانيّتها، كقضية للشعب اللبناني ولكل إنسانٍ يقطن ويمر بأرض لبنان. قضية سياسية بقدر مشروعيتها الإنسانية.
إذا أردنا أن نرسم خطوط هذا النظام الاجتماعي العريضة، باستنادنا إلى التوجّهات المذكورة أعلاه فقط، نحصل على الوقائع الآتية:
١ـــــ أنّ ظروف بؤس الفلسطينيّين وقهرهم هي إحدى دعائم العنصرية الطبقية في لبنان، وبشكلٍ عام العنصرية، المعبّأة مؤخراً في انتخابات ٢٠٠٩ النيابية ضد «شيعة» الهوية من المواطنين، وبشكلٍ أقل منهجية، ضد «سنّتهم».
٢ـــــ أنّ ظروف بؤس الفلسطينيين وقهرهم، وبمستوى أكثر خطورةً، هي إحدى الدعائم الأساسية في تربية الناس في لبنان على العيش مع القهر كأنه عاديّ. القهر في الهندسة، في طبيعة العمل، في مشروعية الذاكرة والتمثيل، في كل أشكال البؤس الفلسطيني، وهي نفسها أشكال البؤس اللبناني. وهي بالتالي إحدى دعائم تخدير الشعب عامةً من أمور السياسة (بمعناها الواسع).
٣ـــــ ولكن أيضاً، يمكن قراءة ظروف بؤس الفلسطينيين في لبنان وقهرهم كأحد المظاهر والأدلة الأكثر بروزاً للمنحى «العنصري الاقتصادوي» للحكم في لبنان، الذي يتخلّص من البشر كما يتخلّص من النفايات الصناعية بهدف تغذية منظومة النهب الاقتصادي. في هذه القراءة، يمكن فهم لماذا يُمنع الفلسطينيّون من ممارسة مهن متعددة، ومن النشاطات النقابية والحزبية، أي لماذا يُمنعون من امتلاك عملهم كما يُمنعون من التملّك العقاري. هنا يُفهم قمعهم وإفقارهم كبنية أساسية لنظامٍ محوره وملتقى إجماع طبقته السياسية هو سلب ما في البلاد من ثروات نقدية وعقارية لمصلحة رأس المال، وذلك عبر اجتذابه رساميل من الخارج، واللعب على أسعار الأرض والعقار، وإخراجه سكان الأرض من غير الرأسماليين لمنعهم من تقاسم خيرات السوق عبر إفقارهم وجرّهم إلى الهجرة، أو عبر إلغائهم من «الوجود الاقتصادي».
هذه البنية المتخصصة في صناعة القهر تنجلي بطريقة موازية الجدية في نوعٍ آخر من العنصرية المنظمة من جانب الدولة اللبنانية ومن جانب الطبقة الحاكمة، وهي العنصرية تجاه اليد العاملة الأجنبية. والحديث في هذا الموضوع يطول، كما الحديث في باقي أشكال القهر للفلسطينيّين.
تبقى علاقة النظام اللبناني بالسكان الفلسطينيّين مسيّسة نسبياً. تجد هذه العلاقة بين الحين والآخر، على الساحة السياسية، توصيفات لمطالب سياسية، مع أن هذه التوصيفات على انحدار بسبب مرتبتها الدونية في أولويات السياسيين اللبنانيين من جهة، وبسبب المنحى «الساعي وراء الشرعية» (و«الاعتذار») لقيادة منظمة التحرير من جهة أخرى، كما هي حال قيادة منظمة

يمكن قراءة ظروف بؤس الفلسطينيين كأحد مظاهر «العنصرية الاقتصادوية» التي تتخلّص من البشر كما تتخلّص من النفايات

التحرير المتماهية مع رأس المال في فلسطين المحتلة. ومن غير المستغرب في هذه الظروف أن يحتضن البعض في المخيمات كما في غيرها من مناطق البؤس في لبنان جماعات مسلحة، راديكالية الخطاب، تطرح قطيعة مع المجتمع اللبناني العريض، أقلّه في خطابها، كما بدا في خطاب فتح الإسلام مثلاً (مع أنه لا دليل على احتضان تلك الجماعة، اللبنانية العناصر، من جانب الفلسطينيّين). فبعد البؤس، والقمع، والإلغاء، والتستير الرمزي والمعنوي، تصبح سياسة اللياقات و«الاعتذار» من الجلّاد مستعصية على أيّ جهاز إدراك. لكنّ للشعب الفلسطيني «متحدثين» باسمه، وهذا ما لم يعطَ للعمال الأجانب في لبنان، بمن فيهم العمّال العرب السوريّون. إلّا أن رمزية المعركة في فلسطين لا تعني شيئاً على الصعيد الداخلي اللبناني، ولا تدعم أيّ موقف، إن لم تتبنَّه جهة لبنانية مهيمنة وشرعية في نظر النظام، أي جهة «مؤدّبة»، تقول بوجوب إبقاء الفلسطينيين على ما هم عليه من بؤس «لأن النصر آتٍ»، كما يفعل «حزب الله» وترضى به الحريرية وحلفاؤها. عند الحريرية، الفقير موجود طالما يصلح وقوداً لدعم رأس المال في معاركه وفي اقتصاده. هكذا يُفهم موقفها من «الإسلاميّين» من فقراء الأطراف، ترفع لواء مطالبهم الإنسانية ثم تتخلّى عنهم عند انتهاء وظيفتهم. وهكذا هي مع الفلسطينيّين. والمرجّح أنه في حال إقامة دولة فلسطينية بسوق داخلية استهلاكية، سوف تقام مآدب تكريم للّاجئين الفلسطينيين في بكفيا وسرسق وقريطم وعين التينة، والألعاب النارية ستضيء سماء الوسط التجاري. فالحريرية ورأس المال كفيلان بصنع مهزلة مِن أكبر انتصار، كما يصنعان انتصاراً من أكبر مهزلة. وهناك من لا يزال يريد أن يعتبرهم «شركاء في التحرير».
* باحث لبناني