طوى رئيس تيار المستقبل سعد الحريري باستلامه مهماته رئيساً لوزراء لبنان في حزيران من عام 2009 صفحة من الحقبة التي تلت مرحلة اغتيال والده، ليبدأ مرحلة جديدة تفرض مجموعة من التحديات المستجدة، إن في علاقاته داخل الطائفة السنية أو في علاقاته مع الأطراف الفاعلين الآخرين، اللبنانيين منهم والإقليميين. خلاصات توصل إليها تقرير صادر عن مجموعة الأزمات الدولية بعنوان «سياسات لبنان: الطائفة السنّية وتيار المستقبل»، نستعرض في ما يلي أبرز ما تضمنه
إعداد: جمانة فرحات
مثّل تولي سعد الحريري رئاسة مجلس الوزراء نقطة تحول في مسيرته السياسية التي بدأت اضطرارياً بعد اغتيال والده رفيق الحريري. ومثّل تاريخ تأليفه حكومة الوحدة الوطنية نهاية لمرحلة من الاضطرابات السياسية غير العادية والتوترات الدولية من دون أن تأذن بنهاية مرحلة اللااستقرار التي عاشتها البلاد.
وإذا ما أراد الحريري النجاح في مهمّته بعدما تمكّن من الوصول إلى زعامة الطائفة السنّية التي لطالما عانت انقسامات عميقة، يجب أن يتخلى عن الكثير من العوامل التي مكّنته من الوصول إلى السلطة، لا سيما أن لبنان ما زال في مرحلة انتقالية.
تحديات عديدة يواجهها الحريري، بعضها مرتبط بعلاقته مع الأطراف المحليين. إذ عليه أن يبتعد عن الطائفية التي باتت العملة الرائجة في لبنان، والتي استفاد منها في السنوات الأخيرة خلال مرحلة الاستقطاب، وبلغت ذروتها في فوزه الحاسم في انتخابات 7 حزيران 2009. ولكنها اليوم لم يعد ممكناً أن تمثّل رصيداً سياسياً رئيسياً له.
أما التحدّي الثاني، فيتمثّل في إعادة تموضع الحريري داخلياً وخارجياً. وعلى الحريري أن يستمر في سلوك الدرب الصعب المتمثل في تطبيع العلاقات مع سوريا، وأن يتغلب على انعدام الثقة بين قاعدته الشعبية في لبنان من جهة، ودمشق من جهة أخرى.

التحالفات الخارجيّة

استحضر تيار المستقبل حجتين لتبرير إعادة تحالفاته، وتحديداً الخارجية منها. فالغرب، وتحديداً الولايات المتحدة، بات ينظر إليهم «كشريك في معركة حياة أو موت ضد سوريا وحزب الله وإيران». وبدا أن الولايات المتحدة في وضع يمكنها من «تحقيق الانسحاب العسكري السوري، وإنهاء الهيمنة السورية على لبنان ومحاكمة قتلة الحريري، ناهيك عن التصور أن بإمكانها قلب النظام في دمشق».
كذلك رأى تيار المستقبل في صراعه مع سوريا «صراعاً وجودياً بين رؤيتين متناقضتين للبلاد».
وفي ظل هذه النظرة، رُبط بين النظام السوري و«السياسات المعادية لاستقرار لبنان ورفاهه». واعتُبر أن النظام السوري «سيواصل حتماً استخدام لبنان كساحة لحربه بالوكالة ضد إسرائيل، ونهب الاقتصاد، وإخضاع شعب لبنان».

سجلت نتائج اشتباكات 7 أيّار نهاية لعبث تيار المستقبل لفترة وجيزة مع المنطق العسكري
في المقابل، كان يُنظر للقوى الغربية على أنها تدعم سيادة لبنان وتعارض وضع حزب الله المسلح، وتتبنى «نموذجاً اجتماعياً أكثر ازدهاراً وسلميّة» يتعارض مع «ثقاقة مقاومة» حزب الله.
هذه التحالفات، وعلى الرغم من «ضرورتها»، أثارت ردود فعل متباينة وسط قاعدة تيار المستقبل. وبينما كان «العديد من أتباع تيار المستقبل ممتنّين لدعم واشنطن، فإنهم اتهموا الولايات المتحدة بانتهاج سياسة خارجية معادية للمصالح العربية والإسلامية». ولخص أحد أعضاء تيار المستقبل الوضع على النحو الآتي «نحن بحاجة إلى الأميركيين ضد سوريا وحزب الله، ولكن عندما يتعلق الأمر بالعراق أو فلسطين، فإننا لا نزال مناهضين للولايات المتحدة بعمق».
وعلى الرغم من محاولة منافسي تيار المستقبل استغلال تحالفاته الجديدة وانتقاده «لخيانة القضية الفلسطينية والعروبة أو القيم الإسلامية»، إلا أنه لم يكن لهذه الانتقادات أي صدى يذكر، سوى أنها «جعلت من السنة يرصّون الصفوف وراء تيار المستقبل وقادته».
أما على الصعيد العربي، فكان من نتائج تفجر العلاقة مع سوريا، انضمام السنّة إلى ما يعرف بـ«محور الاعتدال» الذي يضم حلفاء واشنطن العرب، وتحديداً السعودية ومصر والسلطة الفلسطينية والأردن، في مواجهة «جبهة المقاومة» المتمثلة بسوريا وإيران وحزب الله وحماس.
من جهته، بدأ تيار المستقبل في تعديل موقفه التقليدي تجاه الصراع المسلح ضد إسرائيل. وسلط التيار الضوء على نحو متزايد على عدم استدامة الوضع الذي يتحمل فيه لبنان العبء الأكبر لتلك الحرب فيما يقف العرب الآخرون على الهامش.
والتفسير الرئيسي لهذا التحول مرتبط بالخلاف المتزايد مع حزب الله الذي «احتكر المقاومة المسلحة ضد إسرائيل»، واعتُبر أنه يستخدم القتال «لأغراض لديها القليل من العلاقة مع الأهداف العربية الأوسع».
كذلك كان التحول مدفوعاً بشعور البعض من السنّة بأن «سوريا وإيران فعلتا ما بوسعهما لتصفية أي مقاومة سنية واستبدالها بمقاومة شيعية محضة. في البدء دعمناها لأن الصراع ضد إسرائيل كان أولويتنا. ولكن اتضح أن هدفهم إضعاف السنّة».

الانقسام المذهبي

كان التحول الأكثر بروزاً في المواقف السنية منذ عام 2005 هو تفاقم المشاعر المذهبية والعدائية المتزايدة تجاه الشيعة. هكذا طفت توترات الماضي التي ظلت، في معظم الأحيان، كامنة تحت السطح. وحتى عندما كان يُعبَّر عن هذه العدائية، كانت تُحتوى بسرعة. فالاحتكاكات «الدورية بين رفيق الحريري والثنائي الشيعي المتمثل في حركة أمل وحزب الله في الفترة الممتدة من 1990 إلى عام 2005، لم تأخذ منحى الصراع المذهبي».
إلا أن تدهور المناخ الإقليمي الذي اتسم بالصراع المذهبي في العراق، وتزايد حالة الخوف من إيران وشبح «الخطر الشيعي»، امتد من دون شك إلى لبنان. ولكن تزايد الهوة بين السنّة والشيعة في لبنان بين عامي 2005 و2008، كان مرتبطاً أيضاً بتطورات داخلية تصاعدت تدريجياً على خمس مراحل.
أول نقطة تحوّل في العلاقة بين الطائفتين تمثلت في اغتيال الحريري، الذي كشف إلى أي مدى قد جنحت مصالح الطائفتين. وبالنسبة للسنة كان «إضعاف سوريا يمهّد لمستقبل مستقل يتناسب مع رؤية رفيق الحريري الأصلية». في المقابل، أبدى الشيعة خشيتهم من أن يؤدي الانسحاب السوري مع إزالة غطائها العسكري وتسهيل تطبيق القرار 1559، إلى «تسريع نهاية الوضع المسلح لحزب الله».
بدورها، كانت أمل «قلقة من فقدان موقعها المميز في النظام السياسي»، مع ما يمكن أن تؤدي هذه التحولات معاً إلى«إمكانية تغيير التوازن الطائفي». وتجلت مخاوف الشيعة من خلال تظاهرة 8 آذار الضخمة التي كان يفترض أن تكون كـ«بادرة شكر وولاء تجاه سوريا». إلا أنه في ظل «الوضع العاطفي للغاية»، ساعدت التظاهرة في التجييش لأكبر تظاهرة مضادة في 14 آذار جمعت بين السنّة وآخرين للاحتفال بذكرى مرور شهر على اغتيال الحريري، لتكون مشاركة السنّة في 14 آذار «بالدرجة الأولى اعتراضاً ضد الشيعة وضد كل أولئك الذين بدوا شاكرين لمقتل قائدهم»، بعدما «وضعت تظاهرة 8 آذار الشيعة ضد الطوائف الأخرى وتحديداً السنة».
أما نقطة التحول الثانية، فكانت مع اتخاذ حزب الله القرار بالمشاركة في الحكومة «للتعويض عن الرحيل السوري». وتفاقمت الأوضاع مع اتخاذ الوزراء الشيعة في الحكومة قراراً بـ«مقاطعة اجتماعات الحكومة اعتراضاً على موافقة مجلس الوزراء على إنشاء محكمة دولية للتحقيق في اغتيال رفيق الحريري وتوسيع نطاق ولايتها للنظر في غيرها من الهجمات على لبنانيين». وهو ما وضع الشيعة «في صراع مباشر مع قوى 14 آذار حول قضايا تعتبرها الطائفة السنية مهمة خاصة».
بعد ذلك، جاءت حرب تموز مع إسرائيل لتمثّل نقطة جديدة في التصعيد. والحرب التي أدّت إلى «وحدة وطنية مؤقتة من نوع ما، بدافع العداء لإسرائيل والتضامن تجاه الضحايا المدنيين»، لم تدم طويلاً في ظل الانتقادات اللاذعة لسلوك حزب الله. وتفجر الخلاف مع استخلاص نتائج الحرب التي حمّل العديد من السنة مسؤوليتها لحزب الله. وأدى اتهام حزب الله لقادة في تيار المستقبل بأنهم «خونة» إلى المزيد من التطرف في القاعدة السنية. كما أبرزت حرب تموز تطور القوة العسكرية المثيرة للقلق التي يتمتع بها الحزب الشيعي منذ الانسحاب الإسرائيلي من لبنان في عام 2000. وشعر السنّة على وجه الخصوص بالقلق من أن يكون النشاط السياسي الفعال للشيعة إلى جانب التسليح الأفضل «يهدف لفرض حكمهم».
وانتقل الخلاف إلى مرحلة جديدة مع انتقال الصراع بوضوح من «حقل النخبة السياسية إلى الشارع السياسي». في كانون الأول 2006، نظم حزب الله الذي كان يقود المعارضة مدفوعاً بتجاهل الحكومة لمقاطعة الوزراء الشيعة من الحكومة، اعتصاماً في وسط بيروت التي «يعتبرها السنّة ملكاً لهم».
عند هذه المرحلة الجديدة في المواجهة المذهبية، طالبت الطائفة السنية قياداتها بقدرات عسكرية «للدفاع عن النفس». وقد تعززت تلك القضية بسبب «عجز قوات الأمن النسبي عن الوقوف بين الأطراف المتنازعة».
وجاء رد تيار المستقبل الذي كان يدرك أن أي مسعى من جانبه لإنشاء ميليشيا عسكرية خاصة به على غرار حزب الله غير مجدٍ وغير مثمر، عبر «إنشاء شركة أمن خاصة تتولى حماية قادته رداً على الاغتيالات التي طاولت أعضاء في 14 آذار بين 2005 و2007». ووظف «شباناً متشددين للانضمام إلى المؤسسة وأدار المجموعات للدفاع عن الأحياء السنية».
المرحلة الأخيرة والخامسة تمثلت في سيطرة حزب الله السريعة على العاصمة في أيار، والذي شعر السنة بأنها كانت بمثابة «هزيمة مذلة سريعة وواضحة».
«دروس عديدة وقاسية» استقاها تيار المستقبل من أحداث أيار. فقد وجد نفسه «مهزوماً تماماً بتماسك معارضيه وتصميمهم والتخطيط المسبق». وتعرض التيار لانتقادات من دائرة الحريري، بشأن خيارات التيار الاستراتيجية بأنها كانت «مريرة وهوجاء». ولام المسلحون السنّة الذين شاركوا في القتال قيادتهم لـ«تخلّيها عنهم».
وعلى القدر نفسه من الأهمية، شهدت الأحداث «على عجز الحلفاء الخارجيين لتيار المستقبل». ووقفت الولايات المتحدة وفرنسا والسعودية تشاهد من بعيد «استعراض حزب الله لعضلاته». كذلك، وأثناء مفاوضات الدوحة، لم يكن أمام قوى 14 آذار التي «شعرت بالخيانة»، خيار سوى قبول معظم مطالب المعارضة التي عززها تأييد المجتمع الدولي لها.
وبطريقة ما، سجلت نتائج الاشتباكات «نهاية لعبث تيار المستقبل لفترة وجيزة مع المنطق العسكري». ومنذ البداية، كانت «الجهود المبذولة لتطوير قوة أمنية موازية تخالف أجندة التيار المعلنة لجهة تعزيز الدولة واحتكارها لاستخدام القوة، وتوطيد سيادة البلاد وتعزيز الوحدة الوطنية». ووصل تيار المستقبل إلى «محاكاة الممارسات التي كان ينتقد حزب الله على أساسها، من دون أبعد فرصة لمطابقة القوة العسكرية الساحقة للحزب».
في المقابل، وعلى الرغم من النكسات التي تعرض لها تيار المستقبل، تعززت شعبيته في أعقاب الأحداث. واحتشدت الطائفة السنية بقوة خلف الحريري. في حزيران 2009، ونظراً للإقبال السني الكبير على الانتخابات، فاز التيار. فوزٌ بدا انعكاساً للتضامن المذهبي، معلناً سعد الحريري «زعيماً سنياً دون منازع تقريباً».
غير أن الانتصار الواضح لتيار المستقبل أسهم أيضاً في إحداث تغيرات محلية وإقليمية مهمة. متكيفاً مع الحقائق الجديدة ومنصبه الجديد، سارع الحريري إلى مد يده للمعارضة، ما مهّد لإنشاء حكومة وحدة وطنية تبدو قدرتها على العمل مرهونة بالإجماع.
وأزال «قبول سوريا بنتائج الانتخابات واختيار الحريري رئيساً للوزراء العقبات من طريق المصالحة السعودية ــــ السورية». ومنذ ذلك الحين «انتهجت الرياض مقاربة أكثر توازناً»، وشجعت الرياض تطبيع العلاقات بين سوريا ولبنان، عبر ضغطها على الحريري لزيارة دمشق.

التحوّلات وأثرها على تيار المستقبل

أعرب العديد من نشطاء تيار المستقبل عن إحباطهم وتشككهم في التحولات التي بدأت تطرأ على سياسة تيار المستقبل. «في نظرهم التشكيلة الحكومية والبيان الوزاري وزيارة الحريري إلى دمشق تحتوي على كمية من التنازلات الكبرى التي لا يزال يتعين الرد عليها بالمثل». و«الناس يتساءلون ما إذا كانت هذه التنازلات هي إشارة إلى ضعفنا أو نتيجة الضغوط الخارجية (من السعودية)». «فهم لا يفهمون إلى أين نتجه. علينا أن نثبت لهم أننا لم تخلَّ عن رؤيتنا».
وفي السياق، «يمكن الموقف الوسطي المكتشف حديثاً لتيار المستقبل أن يؤدي إلى منافسة شخصيات سنية لزعامة الحريري»، وخاصة «القلة من الشخصيات التي حافظت على علاقات وثيقة مع سوريا، ويمكنها الادعاء بأن تغيير رئيس الوزراء سياسته يبرر موقفها».
ورغم هذه المشاكل المحتملة، يبدو تيار المستقبل «الآن قادراً على الحفاظ على مركزه المهيمن في أوساط السنة»، لا سيما مع استمرار «الغموض في الساحتين المحلية والإقليمية».
وعلى نقيض أي منافس محتمل، يتمتع تيار المستقبل بانتشار على نطاق وطني، ويتمتع بشبكة واسعة من الخدمات الاجتماعية والخيرية.

الضعف السياسي والمؤسّسي لتيار المستقبل

تيار المستقبل مركزي للغاية. أسِّس حول شخصية رفيق الحريري، ولاحقاً وإن بدرجة أقل ابنه سعد، الذي يسند أدواراً هامة لأعضاء عائلة الحريري، ويعمل إلى حد ما على طريقة «البلاط الملكي».
وفي الوقت نفسه، لم ينشأ تيار المستقبل «حزباً ذا هياكل تنظيمية وفكرية، على الرغم من أنه مسجل رسمياً كحزب في عام 2007».
ويفتقر التيار إلى «برنامج سياسي واضح، وعملية صنع قرار مؤسساتية ومتماسكة». كما يفتقر إلى «كوادر قادرة على تعبئة الأنصار وتنظيمهم». و«إلى حد ما، يتجمع الأنصار بقوة حول ذكرى رفيق الحريري وإرثه».
وإن قدم تيار المستقبل رؤية موحِّدة، فإنها «كانت في الأساس ضدّيّة تقوم على العداء لحزب الله ومؤيديه المحليين والأجانب».
وفي السنوات الأخيرة، كان «افتقاد تنظيم تيار المستقبل التنظيم ومرونته السياسة مفيدين». وتوسع من «جذبه إلى جماهير مختلفة وحتى متناقضة». إلا أنه مع مرور الوقت، يمكن «النمط التقليدي السائد للسياسة العائلية، إلى جانب عدم وجود كوادر ومؤسسات وآليات للتنسيق الداخلي، أن تثبت كلفتها». «المتشددون في بعض الأحيان يتخذون إجراءات من دون أي رقابة». دعم تيار المستقبل، لا يزال، على حد تعبير أحد البرلمانيين «منقوصاً، مرناً وهشاً».
كذلك هناك فجوة كبيرة بين المبادئ المعلنة والسلوك الفعلي لتيار المستقل. التيار «يدين الآخرين، ولا سيما حزب الله، لتقويض الدولة، ولكن سياساته اختلفت قليلا في أثرها». و«أسلوب الزبائنية المتبع من تيار المستقبل يقوّض الآفاق الطويلة الأجل للتنمية الوطنية ويعزز ثقافة الاعتماد على الغير»، ولا سيما في المناطق المهملة عادةً من الدولة، حتى بات «أنصار التيار يشعرون بالحق في الحصول على نصيب من ثروة الحريري».
معضلة تيار المستقبل «الأكثر حدة اليوم هي أنه بقدر ما يلعب على مخاوف السنة وانعدام الأمن، فإنه يحتفظ بنظام الزبائنية الحالي، ويقلل من طموح الحريري إلى أداء دور وطني».
بعد انتخابات عام 2009، «ادعت القيادة أنها بدأت عملية إصلاح جدية». أنشأت لجنة «لتسهم في تحويل التيار إلى حزب سياسي حقيقي». وبحلول شباط 2010، كان من المفترض للجنة تقديم أفكار عن كيفية إعادة تشكيل آلية صنع القرار، والتنسيق الداخلي ومعايير العضوية والقواعد والأنظمة. بيد أن مؤتمر تيار المستقبل الأول، الذي كان مقرراً مبدئياً في نيسان تأجّل. «الشك حول عمق مثل هذه التغييرات وسرعتها موجود على نطاق واسع، بما في ذلك داخل تيار المستقبل نفسه».

نطاق التنوّع السياسي السنّي وحدوده

في عهد رفيق الحريري، ركز تيار المستقبل أنشطته في بيروت. ووفقاً للعديد من مستشاريه، قلص تيار الحريري عمداً جهوده في مناطق سنية أخرى لتجنب الوصمة الطائفية المفرطة.
وفي الغالب كان نطاق طموحات الحريري مقيداً على الأرجح من جانب سوريا وحلفائها الذين كانوا موجودين في هذه المناطق. ويرى أنصار تيار المستقبل أن دمشق منعت تيار المستقبل من نشر نفوذه. وفي المقابل، نمت الشخصيات المحلية المؤيدة لسوريا مثل عمر كرامي في طرابلس، وعبد الرحيم مراد في البقاع الغربي.
الاستثناء الوحيد كانت صيدا، مسقط رأس رفيق الحريري. وفي عام 1979 أسس الحريري جمعيته الأولى في العاصمة الجنوبية. وموّلت جمعية الحريري التي تولت إدارتها شقيقته بهية، العديد من المشاريع وقدمت خدمات اجتماعية مهمة.
خلافاً لغيرها من المناطق ذات الأغلبية السنية، كانت المدينة خالية من أي وجود عسكري سوري. إلا أن هذا الأمر لم يمنع الحريري من مواجهة خصوم سياسيين حتى في معقله. وفي عام 2004 خلال الانتخابات البلدية، واجهت اللائحة المدعومة من عائلته «خسارة مذلة» أمام المرشحين المدعومين من اثنين من قياديي السنة المحليين، أسامة سعد وعبد الرحمن البزري.
إلا أن الانتخابات النيابية في عام 2009 كشفت صورة مختلفة «توضح الدعم المنقطع النظير لتيار المستقبل بين السنة والمركز القيادي الواضح لسعد الحريري».
وفي طرابلس، يبرز منافسو الحريري الثلاثة الأكثر أهمية، الذين يملك كل منهم طموح رئاسة الوزراء، لكنهم اضطروا للاعتراف بتفوق الحريري. عمر كرامي، «رئيس الوزراء السابق وسليل عائلة محلية قوية»؛ نجيب ميقاتي، «رئيس وزراء سابق ورجل أعمال ثري يتمتع بعلاقات طيبة مع كل من دمشق والرياض»؛ ومحمد الصفدي، «وزير الاقتصاد والتجارة الحالي، ورجل أعمال ناجح له علاقات وثيقة مع السعودية».
كذلك في البقاع الغربي، تعرّض الوزير السابق، عبد الرحيم مراد، الذي يمتلك علاقات وثيقة مع سوريا وحزب الله إلى «هزيمة نكراء». والتضامن الطائفي في مواجهة التهديدات المتصورة، إلى جانب ذكريات دور سوريا السابق، أضعفت ترشيحه. والاختلاط السني الشيعي في هذه المناطق ساهم فقط في زيادة تعزيز المنطق المذهبي السائد. أما في صيدا، فالنتائج الانتخابية كانت لا لبس فيها لمصلحة لائحة الحريري.
وعلى الرغم من إثبات تيار المستقبل شبه هيمنته داخل الطائفة السنية، فإن خصوم الحريري ومنافسيه المحتملين ما زالوا قادرين على استعادة الدعم، وإن كان هذا الأمر سيستغرق تغييرات عميقة في مقدمتها «تطبيع حقيقي للمزيد من العلاقات مع سوريا، وخفض ملموس في التوترات الطائفية».

الإسلام السنّي

خلافاً لبعض التوقعات، لم تسهم زيادة المذهبية في لبنان في تعزيز جاذبية الحركات الإسلامية السنية. وهذا يعكس الطابع السياسي للصراع في أعقاب اغتيال الحريري، الذي دعا إلى «توحيد وطيد للصفوف وراء قيادة قوية قادرة في كل مرة على حشد القاعدة، وتوحيد مكوناتها المختلفة، والدفاع عن مصالحها داخل الساحة السياسية المحلية، وإبرام تحالف مع المسيحيين والدروز والوصول إلى مؤيدين مهمين في الخارج». وفي هذا الصدد، امتلك تيار المستقبل ميزة نسبية واضحة. في المقابل، تفتقر معظم الأحزاب الإسلامية الصغيرة إلى مشروع سياسي متماسك، ناهيك بقيادة موحدة.
«رسالة تيار المستقبل القوية عن وحدة السنة، جذبت الكثير من الذين كانوا في السابق قد استقطبوا إلى الحركات الإسلامية». ومع ذلك سيكون من الخطأ تجاهل الساحة الإسلامية. انكفاؤها لمصلحة تيار المستقبل كان «من نواح كثيرة، وضعاً شاذاً». ويعزى إلى «السياق الخاص الذي شهد صعود سعد الحريري». مع عودة الطائفة لتقليدها القائم على أكبر قدر من التعددية، فإن «الجهات الدينية متوقع أن تكتسب أهمية متجددة».
كذلك فإن «وهن حدة التوتر المذهبي النسبي، إلى جانب خطوات تطبيع العلاقات اللبنانية السورية، قد تؤدي إلى نأي أنصار تيار المستقبل الأكثر تشدداً بأنفسهم عنه». و«الخلافات السنية الداخلية يمكن أن تطفو على السطح».
وبالفعل، فإنّ عدداً من الشخصيات الإسلامية قدّروا أن ثمن تحالفهم مع تيار الحريري لم يرقَ إلى مستوى التوقعات، متحدثين عن وجود تعطش لمزيد من التعددية في أوساط السنة.
وفي غياب أحزاب علمانية سياسية حقيقية، ونظراً لسطحية علاقات المحسوبية التي تميز الكثير من السياسة اللبنانية، الأطراف الفاعلة الدينية هي، في الواقع، القناة الرئيسية لروح الطائفة وممارساتها على حد سواء.

الجماعة الإسلاميّة

الجماعة الإسلامية يمكن القول إنها «أفضل الجماعات السنية المحلية تنظيماً»، على الرغم من أنها «لم تفلح في جذب أعداد شعبية ذات أهمية».
وبغض النظر عن حجمها، فإن ما يجعل الجماعة الإسلامية لاعباً مهماً هو «قدرتها المحتملة للمساعدة في سد الفجوة بين السنة والشيعة»، وبالتالي المساهمة في تطبيع العلاقات المذهبية. فالجماعة الإسلامية، دعمت حزب الله في نضاله ضد إسرائيل، حتى في الوقت الذي كان يفترض فيه وجود موقف سياسي صارم في حد ذاته.
وبعد اغتيال الحريري، كان على الجماعة الإسلامية السير «على خط رفيع»، وتحقيق التوازن في علاقاتها مع المستقبل ودعم الحركات الفلسطينية المسلحة وحزب الله على حد سواء. إلا أن اشتباكات بيروت في أيار 2008، أجبرت الجماعة على التحالف مع المستقبل. في المقابل، أثبت بناء علاقة أقوى مع الجماعة الإسلامية ونظرتها المعتدلة نسبياً للإسلام، فائدته لحركة الحريري لجهة «إرضاء أنصار المستقبل المتدينين دون استعداء شركائه المسيحيين».
كانت «إعادة تكيف الجماعة الإسلامية مشوشة وأربكت بعض مؤيديها، فيما كان الثمن الانتخابي متواضعاً جداً». وبين شراكة غير طبيعية مع تيار المستقبل ونظرتها الأيديولوجية الخاصة، وقعت الجماعة الإسلامية في تناقض سياسي لم تحله.
ولعل امتناع الممثل الوحيد للجماعة الإسلامية في البرلمان «عن التصويت لمصلحة الحكومة التي يقودها الحريري، ينظر إليه كأول خطوة مبدئية نحو احتمال إعادة تأكيد الجماعة رؤيتها المستقلة» ولتعددية سنية أكبر.

السلفيّون

أ ــــ السلفية الدعوية
بلغت الدعوة السلفية ذروتها لفترة وجيزة في أوائل التسعينيات، عندما اختار عدد من المشايخ الشبان الذين قضوا بعض الوقت في السعودية العودة إلى لبنان مع انتهاء الحرب الأهلية. ولم يمض وقت طويل قبل أن تتسارع وتيرة انحدارها مع اغتيال جماعة «جهادية سلفية» في عام 1995، رئيس جمعية المشاريع الإسلامية «الأحباش»، نزار الحلبي، والقتال الدامي ابتداءً من عام 1999 بين جماعات جهادية والجيش اللبناني. ولاحقاً أسهمت أحداث الحادي عشر من أيلول وما تلاه من تفجيرات في الرياض في عام 2003، في انخفاض كبير قي المساهمات المالية الخارجية للمساجد السلفية ومراكزهم التعليمية.
إلا أنه بعد فترة من الفوضى، «عادت السلفية للظهور في أعقاب اغتيال الحريري». واختار تيار المستقبل «تجديد العلاقات مع زعماء السلفية، وشاركهم العداء المشترك تجاه سوريا والطائفة الشيعية». وقدم تيار المستقبل «مساعدات مادية لعدد من قادة السلفية»، وطالبهم، في المقابل، «بتحديث خطابهم وأسلوب تدريسهم». وبالنسبة لنشطاء السفلية، فإن «العرض الذي أتى بعد سنوات من التضييق والاضطهاد كان موضع ترحيب»، وإن جاء بثمن. إلا أن تيار المستقبل «سرعان ما فقد الاهتمام في استرضاء الحركة». وأدت خيارات قادة السلفية الدعوية في انجراف أنصارهم المحبطين والراديكاليين «نحو أشكال منفصلة من النشاط الجهادي».
ب ــــ السلفية الجهادية:

كل الأطراف كانت تتوقع الاستفادة من فتح الإسلام، حتى بعدما أصبح واضحاً أن التنظيم بات خارج نطاق السيطرة
الجماعات الجهادية في لبنان ظهرت لأول مرة أثناء فترة الحرب الأهلية قبل 1990، اشتملت الجماعات الجهادية على جماعات إسلامية غير سلفية تدعو إلى الكفاح المسلح ضد إسرائيل، فضلاً عن الفلسطينيين من مخيمات اللاجئين. على مدى السنوات العشر اللاحقة، ساهمت عودة المقاتلين من الحرب الأفغانية في ظهور حركة سلفية جهادية ازدهرت خصوصاً بين السنّة المحرومين من شمال لبنان والبقاع. إلا أن الشبكات السلفية الجهادية واجهت صعوبات في التوصل إلى هيكل موحد. وقال أحد المشايخ «الجهاديون لديهم مشكلة في أن يصبحوا منظمين، غالباً لديهم جداول أعمال متضاربة، بعضهم يريد التركيز على الأهداف المحلية، وبينهم فئة تريد التركيز على الشيعة، وآخرون على المسيحيين، فيما القسم الثالث يريد التركيز على استهداف الدول، والرابع على القوات الأجنبية في لبنان. أما البعض الآخر، فيريد المشاركة في الجهاد العالمي». وبالإضافة إلى ذلك، «مختلف المجموعات وقياداتها، يتنافسون بين بعضهم بعضاً، محدثين انقسامات حتى داخل الشبكة الواحدة».
الجهات الفاعلة من «مختلف ألوان الطيف السياسي ــــ الداخلي والخارجي على حد سواء ــــ تميل إلى تعزيز الجهادية في الممارسة العملية، على الرغم من أنهم يدينونها بشدة في خطابهم». في عام 2005 ، أصدر البرلمان اللبناني عفواً عن الإسلاميين الذين اعتقلوا لعلاقتهم بأحداث الضنية ومجدل عنجر، «وعلى الأرجح من أجل احتواء مختلف مكونات الطائفة السنية واستمالتها في وقت الاستقطاب المذهبي الشديد والمواجهة». وبالمثل، «قدمت بهية الحريري أموالاً لمجموعة جهادية فلسطينية «جند الشام»، على أمل التوصل إلى تهدئة مؤقتة وهشة». وعندما كانت لا تزال تحتفظ بوجود عسكري قوي، سمحت سوريا «بوصول المقاتلين من لبنان إلى العراق لعرقلة جهود الولايات المتحدة وكوسيلة لإدارة أي تهديد محتمل للإسلاميين على حد سواء».
تعتبر حالة «فتح الإسلام» التي بلغت معها «الظاهرة الجهادية أعلى مستوياتها وأكثرها دموية»، الأكثر قابلية لتوضيح مثل هذه النقاط. وعلى الرغم من أن مختلف الأطراف اتهمت بعضها بعضاً بتعزيز الحركة، فإن «تاريخها يشير إلى مسؤولية جماعية». منذ البداية، «كان ظهور جماعة فتح الإسلام واضحاً للجميع، وتوسعها تطلب على الأقل، إن لم يكن المشاركة النشطة، لامبالاة من جانب سوريا، تيار المستقبل، ودوائر السلفية الدعوية في طرابلس، الأجهزة الأمنية اللبنانية والفصائل الفلسطينية المختلفة في مخيم نهر البارد».
جميع هذه الأطراف، وفي وقت أو آخر، «كانت تتوقع على ما يبدو الاستفادة من فتح الإسلام، حتى بعدما أصبح من الواضح على نحو متزايد أن التنظيم بات خارج نطاق سيطرة أي أحد».
عموماً، جعلت الطبقة السياسية عبر تأجيج الاستقطاب الطائفي في البلاد، من السهل على الجهادية النمو. إلا أن الظاهرة الجهادية في معظمها ظلت قابلة للتحكم فيها. وتعود القدرة على التحكم إلى «الحيز الجغرافي المحصور نسبياً». في البقاع، كما في الجنوب، كبح الوجود القوي لحزب الله بفعالية تقدم الجهاديين. وفي طرابلس وشمال لبنان، فإن المأساة التي تعرض لها مخيم نهر البارد، جعلت الجهاديين منذ ذلك الحين تحت المراقبة. وأدت إلى «مستوى أكثر حدة من المراقبة والقمع». وسلطت الضوء على «التكلفة الباهظة للغاية في أي مواجهة في المستقبل».
كذلك أدى تدمير مخيم نهر البارد ليس فقط إلى حرمان الجهاديين «من ملاذ مثالي، إلا أنه عرقل أيضاً وصولهم إلى المخيمات الفلسطينية الأخرى»، ليكون الصراع في مخيم نهر البارد «إيذاناً بانتهاء عهد حصانة المخيم» للسلفيين الجهاديين. الأمر الذي يجعل من غير المتوقع ظهور مجموعات منظمة في المستقبل المنظور.