خالد صاغيةقليلة هي الفرص التي تُتاح أمام اللبنانيّين لإجراء تغيير على السياسات التي تدير شؤونهم المعيشية. فغالباً ما تعيش البلاد فترات تراخٍ واستسلام يصبح الهمّ الأساسي فيها عدم استئناف الطوائف حروبها الصغيرة. ومقابل الأمن، لا بأس بقبول الظلم وانعدام العدالة في توزيع الثروات وارتفاع معدّلات الاستغلال. وكرمى لعيون رؤوس الطوائف، إن قبلوا التعايش السلمي، تستمرّ طوابير الشباب على أبواب السفارات.
لكن، حين تتاح فرص نادرة للتغيير، لا يقف في وجهها حيتان المال مباشرةً. غالباً ما يبقى هؤلاء في الظلّ. وإن تولّوا مناصب سياسيّة، تراهم يغلّفون صفقاتهم بشعارات وطنيّة. هكذا تصبح «سوليدير» مثلاً مرادفاً لكرامة بيروت، أو يصبح إضراب طيّاري «الميدل إيست» طعنة في ظهر أجنحة الأرز، أو النهب المصرفيّ المنظّم أسطورة مؤسِّسة للكيان اللبناني.
خلف أولئك الحيتان، تقف طبقة أخرى تعمل في الكواليس. إنّهم «الخبراء» أو «المحاسبجيّة». هؤلاء مستفيدون حتماً من بقاء الأمور على ما هي عليه، لكنّهم مستفيدون بالواسطة، لا مباشرة. وظيفتهم إطلاق تعابير علميّة لطيفة على عمليّات النهب. وهم يردّدون ببغائياً ما كانت تتباهى به الألسنة المحيطة بأوغستو بينوشيه ومارغريت تاتشر ورونالد ريغان. ويتسلّحون بنماذج اقتصادية بالية رُوّج لها في غرف أبحاث سوداء أنشئت ومُوِّلت من أجل أن تلقى بلدان العالم الثالث كلّها مصيراً مشابهاً لتشيلي إبّان القبضة العسكرية. ولعلّ الضجّة التي أثيرت بشأن استقالة رئيس الهيئة المنظّمة للاتصالات، تحمل أكثر من دلالة رمزية على الحيّز الذي يحتلّه «الخبير» في نظام النهب عندنا. لكنّ المثال الأبرز يبقى فؤاد السنيورة الذي تمكّن من «الترقّي الطبقي»، والانتقال إلى صفوف الفريق الأوّل، تاركاً وراءه في مجلس الوزراء حفنة من «الخبراء» أو «المثقّفين» التابعين الذين يسيرون على خطاه، لعلّ وعسى.
أمّا الواجهة، فتحتلّها طبقة ثالثة. طبقة «المُعَربِشين» الذين نقلهم أسيادهم إلى حداثة النعمة. أولئك الذين تحوّلت ذكرياتهم عن الفقر حقداً على الفقراء. أولئك الذين «فعلوها» وباتوا من حاشية البلاط، فأحسّوا بأنّهم أصبحوا «فوق»، ويعملون جاهدين كي يبقى الآخرون «تحت». أولئك الذين يبيحون لأنفسهم إطلاق الشتيمة في مواجهة السعي النبيل لتوفير سبل العيش الكريم لعامّة المواطنين. أولئك الذين يحسبون أنّهم يطلقون النار على خصومهم، فلا يصيبون إلا ذواتهم. ذواتهم التي أضاعوها منذ زمن.