جمال كنج*مع أن الصعوبة بفقدان الوطن هي تجربة قاسية ومشتركة بين جميع النازحين الفلسطينيين، إلا أن لفلسطينيي لبنان تجربة منفردة. فمنذ الهجرة القسرية إلى لبنان، كان الفلسطيني يعامَل معاملة الأجنبي بدون حقوق سياسية أو اجتماعية أو وظيفية، بعكس النازح الفلسطيني في الضفة أو سوريا، حيث حصل المقيم النازح على كل الحقوق المدنية أثناء وجوده القسري، أما الفلسطيني في لبنان، فقد فرضت عليه قوانين مدنية تحد من قدرته على العمل أو التنقل من منطقة إلى أخرى أو قدرته على تملك أو تحسين العقار حتى داخل المخيمات.
ولتوثيق هذه المعاناة، لعلّه من المفيد رسم سيرة مخيّم نهر البارد. هذا المخيم الذي أنشأته في عام 1949 وكالة الصليب الأحمر الدولي ومؤسسة «الكويكر» الأميركية كمجموعة صغيرة من الخيام، لينمو ويصبح بعد ستين عاماً مرتكزاً اقتصادياً ومنافساً تجارياً كبيراً في شمال لبنان، قبل أن يُدمّر تماماً في الحرب بين الجيش اللبناني وجماعة فتح الإسلام في أيار 2007.
هناك الكثير من الروايات عن كيفية إنشاء مخيم نهر البارد في موقعه الحالي. إحدى هذه الروايات تقول إن الدولة اللبنانية في حينه أرادت أن تقلل من الحضور أو التجمع الفلسطيني قريباً من حدود فلسطين المحتلة، أي في جنوب لبنان، وخاصة أن هذا الحضور أصبح يثير قلق السلطات اللبنانية بعد استمرار النازحين بمحاولة عبور الحدود خلسة لزيارة منازلهم و«بياراتهم» تحت الاحتلال. وهناك من ادّعى أن الدولة اللبنانية أرادت أن تقلل من عدد اللاجئين الفلسطينيين في لبنان من خلال ترحيلهم إلى سوريا، ولكن عند رفض سوريا السماح لهم دخول أراضيها، أجبرت قافلة اللاجئين على التوقف في المكان الحالي الذي بني عليه مخيم نهر البارد.
إلا أن الحقيقة في اختيار هذا المكان قد تكون ما بين الروايتين. فمن المتفق عليه أن الدولة اللبنانية بعد اتفاق الهدنة، وللتخفيف من احتمال التوتر الأمني جراء وجود كثافة عالية من المهجرين بالقرب من قراهم المسلوبة، قررت أن تقلل من حضور النازحين قرب الحدود الفلسطينية. فعملت على نقل قسم من اللاجئين الفلسطينيين بواسطة القطار إلى محطة القطارات في منطقة الميناء بالقرب من مدينة طرابلس في شمال لبنان، وأُسكنوا مؤقتاً في بناء لمعسكر قديم كان تابعاً لجيش الانتداب الفرنسي بجانب محطة القطار، ونقل قسم منهم بعد حين إلى منطقة الخان في مدينة طرابلس.
حسب روايات موثقة ممن عايشوا تلك المرحلة من وجهاء المخيم، بدأت المؤسسات غير الحكومية بالبحث عن مكان شبه دائم لإقامة النازحين في شمال لبنان. فكان أول هذه الخيارات منطقة تسمى «عين البرج» القريبة من بلدة المنية، وعندما لم تتوصل المؤسسات إلى اتفاق مع ملاك الأرض، بدأ البحث عن مكان آخر إلى الشمال من نهر البارد، حيث قطعة أرض كبيرة مزروعة بحقول الفول بالقرب من النهر. وحصل اتفاق بين وكالة الصليب الأحمر الدولي ومؤسسة «الكويكر» الأميركية لعقد إيجار طويل الأمد مع أصحاب الأرض، ومن ثم بدأ العمل بنقل المهجرين من أبنية المعسكر الفرنسي في الميناء ومن منطقة عنجر في البقاع الغربي أثناء موجة برد قارس إلى الموقع الحالي في شتاء عام 1949، ونقل عقد الإيجار بعد ذلك إلى وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين بعد تأسيسها في عام 1950.
إن موقع مخيم نهر البارد على الشاطئ اللبناني القريب من الحدود، وكذلك على جانبي الطريق الدولي الرابط بين لبنان وسوريا، أهّل المخيم ليصبح مركزاً اقتصادياً وتجارياً قوياً في المنطقة الواقعة شمال مدينة طرابلس.
مر المخيم منذ تأسيسه بخمس مراحل أساسية: في شتاء عام 1949، بُني المخيم على مساحة لا تتعدى كيلومتراً مربعاً لإسكان ما يقارب 5000 نسمة يعيشون في خيام مؤقتة. في أواخر الخمسينيات، بدأ المخيم ببناء مساكن بدائية. في السبعينيات، ومع تزايد التعداد السكاني إلى أكثر من 18000 نسمة وبعد خروج المخيم من السيطرة الفعلية للدولة اللبنانية، بدأ السكان إعادة ترميم المساكن وتوسيعها. وبطريقة متسارعة، بعد الاجتياح الإسرائيلي في 1982 وتهجير عدد كبير من الفلسطينيين من الجنوب اللبناني، بدأ المخيم بالتوسع عندما اشترت منظمة التحرير الفلسطينية أراضي زراعية بجانب المخيم لاستيعاب المهجرين الجدد. والجدير ذكره هنا أنه تم تسجيل هذا العقار الجديد باسم الأوقاف الإسلامية اللبنانية، وذلك لعدم قدرة الفلسطينيين على التملك في لبنان. وبعد أربعين عاماً، أصبح التعداد السكاني في المخيم يزيد عن 30,000 نسمة، ما يمثّل إحدى أكبر المناطق كثافةً سكانيةً في مساحة لا تزيد عن كلم واحد حددت لخمسة آلاف شخص في عام 1949.
في أوائل 1990، ومع ارتفاع أسعار العقارات، بدأ أصحاب المزارع اللبنانية المتاخمة للمخيم تقسيم الأراضي الزراعية وعرضها للبيع لبناء مساكن جديدة، ودفع العديد من أبناء المخيم كلّ مدخراتهم أو اقترضوا لبناء منازل جديدة لعائلاتهم، في ما سُمّي بعد ذلك بالمخيم الجديد، ومن المهم ذكره هنا أن أصحاب هذه العقارات لم يتمكنوا من تسجيل هذه المنازل في السجل الرسمي للدولة، إذ سُجّل معظمها بأسماء أشخاص لبنانيين من خلال اتفاقية تملّك غير رسمية موثقة عند كاتب العدل. وهذا ما زاد من معاناة أصحاب هذه المساكن الجديدة، إذ لم يستطع البعض منهم العودة إليها أو القدرة على ترميمها بعد حرب 2007 لرفض الحكومة اللبنانية الاعتراف بتسجيل هذه العقارات، حتى أن المساعدات المادية من الدول المانحة لا تعتبر هذه المنازل جزءاً من بيوت المخيم التي يجب إعادة بنائها.
وكان أبناء المخيم قد تعاونوا مع الجيش اللبناني من خلال تلبية طلب الدولة والقوى الفلسطينية الخروج من المخيم في بداية الاقتتال حتى يتسنى للسلطة التخلص من الجماعة التي اتخذت من المخيم مقراً لها. اعتقد أهل المخيم بخروجهم الطوعي، أن المعركة ستكون قصيرة ومحددة في الأماكن العسكرية المحيطة في المخيم، إلا أنه منذ الأيام الأولى، سرعان ما تحول القصف العسكري عشوائياً إلى داخل المخيم القديم وبعيداً عن المواقع العسكرية على أطراف المخيم.
ويُطرح هنا تساؤل عن إمكانية وجود أسباب خفية اتخذت من فتح الإسلام غطاءً لمآرب سياسية أو حتى اقتصادية للتخلص من مخيم نهر البارد، وخصوصاً أنّ تجربة الأعوام الثلاثة الأخيرة في إعاقة الإعمار أو تحسين الوضع الأمني، تؤكد إمكانية وجود أسباب أكبر من عملية أمنية للتخلص من جماعة عاصية على القانون.
على الصعيد السياسي، أصبح وجود المخيمات الفلسطينية، وخاصة في لبنان، تعبيراً عن الانتماء الوطني الرافض للتوطين. وبات وجود المخيم الفلسطيني عقبة رئيسية أمام التسويات المطروحة غير المتضمّنة حق العودة. لذلك، فإن التخلص من مخيم يقلل من هذا الهم الدولي والإقليمي لإيجاد حل «عادل» ويسهل عملية إعادة التوطين خارج فلسطين.
ولا يمكن كذلك تجاهل أن معركة نهر البارد حصلت في ظل أزمة سياسية حادة بين بعض الأطراف اللبنانية والحكومة السورية، حيث حاولت هذه الأطراف السياسية الربط بين دمشق وجماعة فتح الإسلام كجزء من محاولة لمحاصرة سوريا من خلال ما يسمى الحرب الدولية على الإرهاب، ووقع المخيم ضحية حسابات محلية وإقليمية ليس له فيها ناقة ولا جمل.
أما عن احتمال دور للعدو الإسرائيلي، فمن غير المستبعد أن يكون هناك دور غير مباشر للكيان الصهيوني من خلال شبكة الجواسيس التي كُشف عنها في لبنان في عام 2009، وأهمها اعتقال عقيد في الجيش اللبناني أشارت تقارير صحافية لبنانية إلى دور عسكري له في إدارة معارك مخيم نهر البارد في صيف 2007.
وما يثير أيضاً الكثير من علامات الاستفهام هو أن عملية التدمير الشامل لأكثر من 6000 منزل حسب التقارير الرسمية، كانت عملاً ممنهجاً حتى بعد سيطرة الجيش على كل المواقع المدنية والعسكرية داخل المخيم. فقد أشارت بعض تقارير مؤسسات دولية غير حكومية إلى أن عملية التهديم تواصلت حتى بعد انتهاء المعارك في أيلول 2007، وأن التقارير الأولية كانت تشير إلى أن حوالى 50 في المئة من المخيم كان يمكن إعادة إعماره، أو على الأقل كان يمكن الحفاظ على الجزء الأكبر من الممتلكات الخاصة بعد دخول الجيش إلى المخيم. ففي رسالة بتاريخ 31 تشرين الأول 2007 إلى رئيس الوزراء فؤاد السنيورة، حذّرت منظمة العفو الدولية من تقارير موثقة عن الاستمرار بتدمير منازل بدون أسباب عسكرية، وكذلك حول عملية نقل غير مشروعة للممتلكات الخاصة وحرق المنازل التي لم تتأثر في العمليات العسكرية. كما أن التأخير غير المبرر في إعادة الحياة المدنية، والتشدّد العسكري المستمر في محيط المخيم، أثارا العديد من الشكوك حول الهدف الأساسي وراء معركة نهر البارد، فلم

التدمير الشامل لأكثر من 6000 منزل استمر حتى بعد سيطرة الجيش على كل المواقع العسكرية داخل المخيم

بات محيط المخيم منطقة عسكرية مغلقة لا يستطيع الدخول إليها إلا من يحصل على ترخيص عسكري خاص
يسمح مثلاً لأهالي المخيم بتفقد منازلهم المتضررة إلى فترة تزيد عن أربعة أشهر بعد انتهاء العمليات العسكرية. وعندما قرر السماح للأهالي بتفقد ممتلكاتهم، كان ذلك وفق تراخيص لعدد محدود يومياً، ولم يسمح للأفراد المكوث أكثر من دقائق قليلة لتفحص آثار منازلهم ولم يقدروا على إخراج أكثر مما يمكن حمله بين أياديهم. وعند وصول المساعدات المالية العربية التي توافرت في فترة الانتخابات النيابية صيف 2009، وزعت فقط على المناطق (الانتخابية) اللبنانية المتضررة اقتصادياً، ولم تقدم أي من هذه المساعدات لأصحاب المحال أو المؤسسات التجارية التي دمرت في مخيم نهر البارد.
أما بشأن مسيرة إعادة البناء، فقد حاولت وكالة الغوث (الأونروا) العمل من أجل البدء في الإعمار فور انتهاء المعارك، إلا أن أطرافاً سياسية لبنانية أصرّت على طرح قضية ملكية أرض المخيم قبل السماح للأونروا بالشروع في برنامج الإعمار. وعندما حلت أزمة الملكية، بدأ التبرير بعدم وجود التزام مالي لتنفيذ العمل. وجاء بعد ذلك الادعاء القانوني بوجود مدينة أثرية تحت أنقاض المخيم، ثم جاء قرار المحكمة الدستورية السماح بعملية الإعمار ولكن فوق سطح الأرض للحفاظ على آثار مدينة مفترضة، مما يزيد من تكاليف البناء 25 في المئة.
اليوم، وبعد ثلاث سنوات على الخروج الطوعي لأهالي نهر البارد لمساندة الجيش اللبناني في حربه على جماعة فتح الإسلام، بات محيط المخيم منطقة عسكرية مغلقة لا يستطيع الدخول إليها إلا من يحصل على ترخيص عسكري خاص. أما المخيم القديم، باستثناء البناء المتأخّر، فما زال منطقة مغلقة إلا لزيارة القبور في أيام الأعياد الدينية.
إن استمرار عملية التضييق في الدخول والخروج تزيد من تعقيدات الحياة في محيط المخيم على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي. وهذا شكل من أشكال العقاب الجماعي، ويتنافى مع الوعود الرسمية التي قطعت للأهالي قبل ثلاث سنوات بإعادة الأوضاع والتعويض وإعادة بناء ما تضرر بالسرعة الممكنة.
لكن، بالرغم من مأساة مخيم نهر البارد الجديدة، فإن أبناء المخيم مصممون على إعادة البناء على طريق العودة إلى فلسطين. فبرغم صعوبات السنوات الثلاث الأخيرة، ورغم النكبة على مدار 62 عاماً، ما زال المخيم الفلسطيني جزءاً من الوطن الموعود ومرتكز التحدي والرمز الحامي للانتماء الوطني لأجيال فلسطين المتعاقبة حتى العودة إلى وطنهم فلسطين.
* كاتب فلسطيني صدر له أخيراً كتاب عن دار «غارنت» للنشر في بريطانيا، تحت عنوان «أطفال النكبة، رحلة من مخيم فلسطيني إلى أميركا»