ياسين تملالي*هل بدأ مأتمُ ما يسمّيه الفرنسيون «فرنسيقيا» (Françafrique)، أي مجموع الروابط غير الرسمية (وغير القانونية) بين فرنسا وبعض البلدان الأفريقية من اتفاقيات عسكرية سرّية وتفاهمات اقتصادية غير معلنة؟ هذا ما أرادَ نيكولا ساركوزي أن يقنعَنا به وهو يصفُ القمة الفرنسية ــــ الأفريقية الخامسة والعشرين التي انعقدت أخيراً في نيس (31 أيّار/ مايو ـــــ 1 حزيران/ يونيو) بأنها «مرحلة جديدة في تاريخ العلاقات الفرنكوأفريقية».
وقد حاول ساركوزي أن يجعل من طريقة جريان أشغال القمّة ذاتها رمزاً لهذه «القطيعة»، فألغى ما كان يسمّى «عشاءَ الأصدقاء» الذي كان يُدعى إليه قادةُ دول أفريقيا السوداء الخاضعة سابقاً للسيطرة الفرنسية، واستعاض عنه بـ«اجتماع عائلي» معهم في 13 و14 تمّوز/ يوليو، في ذكرى بداية تحرّر بلدانهم من الاستعمار. أضف إلى ذلك أنّ لا أحدَ من هؤلاء القادة حظيَ بشرف لقائه على انفراد، فاقتصرت مباحثاتُه الثنائية على رئيسين «غير فرنكوفونيين»: الجنوب أفريقي جاكوب زوما، والنيجيري غود لوك جوناتان.
وفضلاً عن أنّها مكّنت الرئيسَ الفرنسي من الظهور برفقة رئيسين منتخبين ديموقراطياً لا مع ثلة من الطغاة والانقلابيين فحسب، رمزت هذه التحويراتُ البروتوكوليةُ إلى رغبة فرنسا في إخراج «سياستها الأفريقية» من دائرة مستعمراتها القديمة واكتساب «أصدقاء» أفارقة جدد في مناخ يميّزه احتدامُ المنافسة داخل القارة بينها وبين أميركا وقوى اقتصادية صاعدة كالهند والبرازيل والصين.
وإذا كان التغلغلُ الأميركي (الحضور العسكري المتزايد في دول ساحل الصحراء) والهندي والبرازيلي في أفريقيا جلياً، فإن التغلغلَ الصيني هو الخطر الرئيسي المحدق بمصالح فرنسا فيها. ليست هذه القارةُ بعد «مستعمرة صينية» (حصة الصين من صادراتها ووارداتها لا تتعدّى 10 في المئة، مقابل 40 في المئة و38،5 في المئة، على التوالي، للاتحاد الأوروبي)، لكن «التهديدَ الصيني» ليس وهماً من أوهام وسائل الإعلام الفرنسية، والأرقامُ شاهدة على ذلك.
مقابلَ انخفاض مبادلات فرنسا التجارية مع أفريقيا من 40 في المئة من مجموع مبادلاتها في الستينيات إلى 2 في المئة حالياً، تضاعفت مبادلاتُ الصين معها 20 مرة منذ 1997، و10 في المئة من استثماراتها الخارجية اليوم موجهةٌ إلى أفريقيا، بالإضافة إلى 50 في المئة من ميزانيتها المخصصة لـ«دعم التنمية في العالم». وقد عبر المديرُ العام للشركة البترولية الفرنسية توتال، كريستوف دي مارجوري، بوضوح كبير عن مخاوف أوروبا من توسّع النفوذ الصيني في القارة عندما قال لوكالة الأنباء الفرنسية في مطلع حزيران/ يونيو الجاري: «يجب ألا تكون مساعدة الأفارقة حكراً على الصينيين».
ولا يعني وجودُ «تهديد صيني» لمصالح فرنسا في أفريقيا أن شركاتها العملاقة (النووية أريفا في النيجر والنفطية توتال في الكونغو، إلخ...) في طور فقدان مواقعها فيها. لكن لا شيء في السياسة أبدي، بدليل أن صديق باريس الحميم، عمر بونغو، لم يحجم في أيّار/ مايو 2008 عن إيلاء مشروع استغلال منجم حديد مهمّ إلى مجموعة صينية، ما كان له وقع الصدمة على السلطات الفرنسية. مثلُ هذه المفاجآت تدفعُ الرأسمالية الفرنسية إلى السعي لا إلى حماية مكتسباتها فقط، بل كذلك إلى غزو أسواق أفريقية جديدة. ويزيد من وجاهة خيار كهذا أنّ «الخصم الصيني» يركّز في أفريقيا على دول كبيرة غنية بالثروات الطبيعية، لا تخضع بعدُ للنفوذ الاقتصادي الفرنسي كجنوب أفريقيا وأنغولا ونيجيريا والسودان ومصر والجزائر التي تستحوذ وحدها على ثلثي المبادلات الصينية ـــــ الأفريقية.
وإذا كانت بعض التغييرات في علاقات فرنسا بأفريقيا حقيقيةً، ففي هذه العلاقات أشياء كثيرة، عدا طبعاً الكليشيهات المألوفة عن «جمال أفريقيا» (رئيسة جمعية رجال الأعمال الفرنسيين لورانس باريزو في ختام اجتماع نيس)، لم تطلها بعدُ يدُ التغيير. ما لم يتغير مثلاً هو أبويةُ الإليزيه في تعامله مع «أصدقائه» الأفارقة. رمزُ هذه الأبوية الرئيسي، بطبيعة الحال، هو فكرة هذه القمم ذاتها، التي تعادل بين دولة واحدة وقارّة بأكملها، لكن لها تجليات عديدة أخرى.

مقابلَ انخفاض مبادلات فرنسا التجارية مع أفريقيا من 40% في الستينيات إلى 2% حالياً، تضاعفت مبادلاتُ الصين معها 20 مرّة منذ 1997
رغم «القطيعة» التي تكلّم عنها ساركوزي، لا تزال فرنسا تُعِدُّ قائمة المشاركين في القمم الفرنسية الأفريقية دون مشاورة أحد (غياب السودان في نيس لعدم رضى الإليزيه عن نظامه لأسباب لا علاقة لها بتسلطيته، فالرئيس المصري لقي من الحفاوة الكثير). كذلك، لا يزالُ الرئيس الفرنسي يتكلم باسم الأفارقة حتى في حضورهم: ألم يقل ناطق باسمهم (وما أكثرهم) خلال الندوة الصحافية التي ختمت أشغال القمة الخامسة والعشرين، إن «أفريقيا سعيدة بأن ترى بلداً أوروبياً كبيراً يقف إلى جنبها في سعيها إلى اكتساب مكان لها في إدارة شؤون عالمنا» (تلميح إلى المقترح الفرنسي بتمثيل أكبر للقارة في مجلس الأمن)؟
ما لم يتغيّر أيضاً هو لامبالاةُ فرنسا بشرعية الأنظمة «الصديقة». قد يقال إنّ دعوةَ رئيسي الطغمتين الحاكمتين في غينيا والنيجر، سيكوبا كوناتي وسالو دجيبو، إلى نيس كانت لمجازاتهما على استعدادهما للتخلي عن الحكم للمدنيين، لكن هذا لا يكفي لحجب المفارقة التي وقع فيها الإليزيه. فالجميعُ يذكر أنه أدانَ انقلابي هذين الجنرالين (كانون الأوّل/ ديسمبر 2008 وشباط/ فبراير 2010، على التوالي) باسم «واجب احترام الطرق الدستورية في الوصول إلى السلطة». وقد أثار ازدحامُ القمّة بالطغاة القدامى والناشئين غضب جاكوب زوما، فلم يتردّد في شجب ما يلقونه من دعم «خارج القارة»، في إشارة صريحة إلى صداقة ساركوزي الوليدة مع كوناتي ودجيبو.
* صحافي جزائري