strong>شامل العظمة*قلة منا ربما سمعت بحالات الانتحار التي شهدتها شركة فوكسكون في الصين خلال الأشهر الماضية. قلة سمعت أصلاً بشركة فوكسكون، رغم أن معظمنا يستخدم في اليوم الواحد أجهزة عدة صنعتها معامل فوكسكون وربما صنعتها أيدي عمالها المنتحرين. ضجت الصحافة العالمية خلال الأشهر الماضية بقضية انتحارات عمال شركة فوكسكون (Foxconn) في الصين. خلال أشهر قليلة، أقدم 12 عاملاً من عمال هذه الشركة على الانتحار مستعملين وسائل مختلفة، منها رمي أنفسهم من مبنى الشركة إلى درجة أن إدارة الشركة باشرت في مد شباك حول مباني الشركة لمنع العاملين والعاملات من الانتحار عبر رمي أنفسهم من الطوابق العليا. قد تبدو هذه القصة بسيطة أو هامشية. ففي كل يوم تقع عشرات حوادث القتل والانتحار في غير مكان من العالم، ولكن قراءة أعمق للقصة وتشعباتها تقدم لنا درساً ممتازاً عن هيكلية الاقتصاد العالمي اليوم وآليات عمله والخيارات التي تواجه كل فرد منا في حياته اليومية.
شركة فوكسكون هي أساساً شركة تايوانية تأسست في عام 1974. خلال عقدين من تأسيسيها، نمت الشركة بسرعة خيالية لتصبح شركة «معولمة» تملك فروعاً ومراكز في العديد من الدول، ويعمل فيها اليوم أكثر من 800 ألف شخص معظمهم في الصين. هذا النمو الخيالي كان سببه تخصص الشركة في ما يعرف بالتصنيع التعاقدي (contract manufacturing) وهو النموذج الاقتصادي الذي توسع حتى أصبح اليوم الشكل الرئيسي لتنظيم الإنتاج في قطاع الإلكترونيات. وفق هذا النموذج، لا تصنّع الشركات العالمية المشهورة حاملة العلامة التجارية منتجاتها، بل تُجيّرها (outsource) إلى شركات متعاقدة تختص بالتصنيع والتجميع. فوكسكون واحدة من هذه الشركات التي تنتج لحساب عشرات العلامات التجارية من أبل (Apple) إلى سوني (Sony) إلى ديل (Dell) وغيرها من العلامات التجارية الكبرى. هذه الشركات الكبرى تركز على ما تعتبره وظائفها الاستراتيجية ذات القيمة المضافة العالية كالتصميم والبحث والتطوير وبناء العلامة التجارية، بينما تترك وظائف التصنيع والتجميع لشركات كفوكسكون.
من أهم نتائج هذا النموذج كان تحطم الرابط التقليدي بين تصنيع السلعة وخلق القيمة المضافة. فمصنّعو الأجهزة الإلكترونية أو الألبسة أو غيرها من السلع يحتفظون بنسبة قليلة جداً من القيمة المضافة بينما تحتفظ الشركات التي تقوم بالبحث والتطوير أو بتصنيع المكونات ذات التقانة العالية أو مالكة العلامة التجارية، بالجزء الأكبر من القيمة النهائية للسلعة. على سبيل المثال، درست مجموعة من الباحثين من جامعة كاليفورنيا توزيع القيمة النهائية لجهاز «آي بود» (Ipod) الذي يباع في السوق الأميركية تحت علامة «صنع في الصين». نتيجة هذه العملية شديدة التعقيد، إن 163 دولاراً من سعر المنتج النهائي (299 دولاراً) تبقى في الولايات المتحدة، وهي حصة الشركة صاحبة العلامة التجارية وحصة بائعي التجزئة، و26 دولاراً تذهب إلى اليابان، وهي حصة بعض موردي المكونات العالية التقانة في الجهاز. أما حصة الصين في قيمة السلعة، كما استخلص الباحثون، فلا تتجاوز بضعة من الدولارات.
هذا المثال يرينا كم تغير الاقتصاد العالمي وكم تغيرت قواعد التجارة العالمية خلال العقود القليلة الماضية، بما يجعل قسماً كبيراً مما تعلمناه في مدارسنا وجامعاتنا غير مفيد في فهم الواقع الاقتصادي المعاصر، حيث تشير التقديرات إلى أن ثلثي التجارة العالمية أصبح تجارة منظمة، أي أنها تتم إما ضمن الشركة نفسها أو بين شركات تربط بينها عقود توريد ذات أمد طويل نسبياً. هذه التعقيدات والتشابكات العابرة للدول والقارات لا تقتصر على صناعة الإلكترونيات، بل تشمل كل القطاعات الاقتصادية الصناعية والخدمية. ففي قطاع الألبسة، على سبيل المثال، تقوم الشركات الأميركية والأوروبية بالتصميم والبيع وبناء العلامة التجارية، وتحصل جراء ذلك على الجزء الأكبر من قيمة السلعة بينما يتم التصنيع الفعلي في الهند وبنغلادش والباكستان حيث يحصل ملايين العاملين في القطاع على جزء صغير من القيمة.
شبكات الإنتاج العالمية هذه في حالة حراك دائم بتأثير التغيرات الاقتصادية العالمية والتغيرات في كل حلقة إنتاجية في هذه الشبكات. إحدى الديناميات الأساسية في هذه الشبكات هي الضغط المستمر من الشركات صاحبة العلامة التجارية على الشركات الأخرى من أجل خفض الكلفة بصورة مستمرة بهدف تعزيز الموقع التنافسي وزيادة ربحية الشركة صاحبة العلامة. هذا الضغط المستمر من الأعلى إلى الأسفل يدفع الموردين إلى البحث عن أي وسيلة لخفض كلفهم سواء باستغلال العاملين وإجبارهم على العمل بظروف غير إنسانية أو بإهمال الضرر البيئي الذي قد يلحقه إنتاجهم. في عام 2008، كشف تقرير لهيئة البث البريطانية (BBC) استخدام موردي شركة برايمارك (Primark)، وهي إحدى أكبر شركات الألبسة وأرخصها في بريطانيا، أطفالاً من مخيمات اللاجئين في جنوب الهند لإنتاج الألبسة التي تباع في محال الشركة المنتشرة حول العالم. سببت هذه الفضيحة في حينها ضجة إعلامية كبرى أجبرت برايمارك على وقف التعامل مع هؤلاء الموردين. لا تختلف قصة برايمارك كثيراً عن قصة فوكسكون وعن عشرات القصص المماثلة التي تتكشف كل فترة إلى حد أصبحت فيه هذه الفضائح الهاجس الرئيسي لإدارات الشركات العالمية لما تحمله من ضرر لصورة الشركة وحتى لمبيعاتها. فالشركات الكبرى التي تضغط على مورديها بصورة مستمرة لخفض الكلفة وتهدد بنقل الإنتاج إلى دولة أرخص كلفة، تجد نفسها في الوقت نفسه عرضة للنتائج السلبية الناجمة عن استخدام هؤلاء الموردين كل الأساليب الممكنة للاستجابة لهذه الضغوط.

تحوّلت المقاطعة إلى سلاح أساسي في يد المستهلك ضد كل ممارسة سياسية أو أخلاقية أو بيئية لا يوافق عليها
أهمية هذا الموضوع هي أن كل فرد منا هو جزء منه. فعندما نشتري أي سلعة، نكون عملياً شركاء في عملية إنتاج السلعة. هذا يفرض علينا كمستهلكين اعتبارات جديدة عندما نتخذ قرارات الشراء. أدى هذا الموضوع إلى نشوء حركة واسعة تعرف باسم الاستهلاك الأخلاقي (ethical consumption) يشارك فيها آلاف الناشطين وعشرات المنظمات غير الحكومية من دول عدة. هذه المنظمات تلاحق الشركات التي تقوم بممارسات غير أخلاقية إنسانياً أو بيئياً وتعمل على كشفها لإجبار الشركة على وقفها. توسعت هذه الحركة وأتقن ناشطوها استخدام مواقع التواصل الاجتماعي كالفايسبوك، على نحو أصبحت معه معظم الشركات مضطرة إلى وضع نظم داخلية وشروط (شكلية في بعض الأحيان) لتنظيم علاقة الشركة مع مورديها. أهمية هذه الحركة أن طبيعتها العابرة للدول تجعلها قادرة على ملاحقة مواضيع كهذه في ظل غياب آليات دولية حكومية قادرة على معالجته.
يعتقد البعض أن المقاطعة غير ممكنة في عالم اليوم، ولكن الحقيقة أنها ممكنة وأن تحويل المقاطعة إلى سلاح أساسي في يد المستهلك ضد كل ممارسة سياسية أو أخلاقية أو بيئية لا يوافق عليها، أمر شديد الضرورة. السؤال الذي يجب أن يفكر فيه كل منا عند اتخاذ قرارات الشراء: هل أرغب بأن ألبس قميصاً صنعه طفل في الهند شرد من منزله بسبب الحرب وأجبر على العمل في ظروف عبودية جديدة؟ وهل أرغب في أن استمتتع بالموسيقى أو مشاهدة الأفلام عبر جهاز يرمي العاملون في صناعته أنفسهم من الطوابق العليا هرباً من ظروف العمل غير الإنسانية أم لا؟ عندما نتخذ قرارات كهذه، لا نعبّر فقط عن موقفنا الشخصي والقيمي، بل نساهم أيضاً بصورة فعالة في معاقبة من يتورط في هذه الممارسات ونمارس حقنا كأفراد (ومستهلكين) في أن نقول أي عالم نريد.
* اقتصادي سوري ـــــ جامعة مانشستر