حسّان الزينثلاثة لبنانيين فقط، هم هاني سليمان وأبو محمد شكر ونبيل حلاق، شاركا كناشطين في أسطول الحرية تضامناً مع غزّة. عدد ضئيل من قافلة دولية تحمل أبعاداً إنسانية وسياسية.
لا يعني هذا أن اللبنانيين استقالوا من تبنّي القضية الفلسطينية. الدلالة هذه تُلقي الضوءَ على اهتمامات اللبنانيين وتفضح مصادرةَ الطاقم السياسي الوعي العام وخيارات المواطنين. فاللبنانيون منذ انتهاء الحرب، وتحديداً منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وهبوا الوعي للطاقم السياسي ومنحوه قراراتهم، بالتظاهر والاحتشاد والهتاف تارة وبالانتخابات تارة أخرى وبالتبعيّة دائماً. وها هم، إزاء استحقاق من خارج أجندة الطاقم السياسي، من نوع أسطول الحرية، يرتبكون ويحارون في أمرهم بين العاطفة والموقف السياسي المستلب مذهبياً. وكأن اللبنانيين باتوا مبرمجين وفق تلك الأجندة التي تعطل أي «أحاسيس» تجاه أي أمر لا تتضمّنه الأجندة تلك.
دلالة أن يشارك ثلاثة لبنانيين فقط في هذه التظاهرة الإنسانيّة مؤلمة، ليس من باب التضامن مع الشعب الفلسطيني وحسب، أي أخلاقياً وإنسانياً، بل من زاوية النظر إلى المشهد اللبناني. هذا المشهد الغارق في بؤسه والمنقسم على زواريبه وفيها.
المشهد اللبناني، سواء في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية أو غير ذلك من العناوين، أسير حدّين: حدٍّ يختصره حزب الله ويسانده فيه حلفاء متدرجو نسبة التأييد والدعم، وحدٍّ تمثله القوّات اللبنانية بعدما غادر وليد جنبلاط تحالف 14 آذار وهجره سعد الحريري من دون إعلان طلاق.
هذه الثنائية تحتكر الوعي اللبناني، إلى درجة أن فئةً كبيرة من اللبنانيين، وتحت ضغط هذه الثنائيّة وحدّة انقسامها السياسي والمذهبي على مدى السنوات الماضية، أجّلت علاقتها بالقضية الفلسطينية وعقّمتها وقلّصتها إلى الحد الأدنى، كي لا تكون مع مقاومة حزب الله. والآن، عثرت تلك الفئات على مخرج طوارئ واهتدت إلى صلاح الدين الأيوبي الجديد، التركي لا الكردي هذه المرّة. وفي حسابات كثيرة، هذا أفضل من أحمدي نجاد وجمهورية الخميني الشيعيّة، وأهون من النظام السوري. كأنه لا يمكن النظر إلى المسألة الفلسطينيّة إلا من خلال دولة أخرى، وها هي تركيا تقدّم نموذجاً مختلفاً عن شعارات أحمدي نجاد ومقاومة حزب الله وعن «ممانعة» سوريا.
بمعزل عن الإسقاطات المذهبية وجعلها قواعد ومنطلقات أي موقف من أي قضية إنسانية أو اجتماعية أو سياسية، محلية أو إقليمية أو دولية، لقد بات اللبنانيون ووعيهم تحت سقف تلك الثنائية التي تضم أيضاً أبعاداً ونيّات مذهبية. فالتعامل مع المسألة الفلسطينيّة في لبنان ينام في سرير المذهبيّة، حيث لا تُنجب إلا الشفقة أو العنصريّة.
فاللبنانيون ووعيهم اليوم تحت وطأة الازدواجية وإبريق زيت الاستراتيجيّة الدفاعيّة: إما ثقافة ربط لبنان بصراعات المنطقة، وإمّا ثقافة الاستقالة من الصراع العربي الإسرائيلي. إما مع المقاومة على طريقة حزب الله، وبالتالي معه وخلفه، وإما مع الحياد «السويسري» على طريقة سمير جعجع. بؤس لم يشهد لبنان مثله حتى في ظل انقسام الحرب.
يلاحظ هنا، أن الخيارين هذين محاصران. فرفعهما مستوى المعركة بينهما إلى الأخلاق والوطنيّة أربكهما، واستنزف إمكانات عدة، منها قدرات عقليّة. فالتخوين الذي مارسه فريق المقاومة تجاه الفريق الآخر قابله هذا الفريق بتجاهل القضية الفلسطينيّة وإهمالها والتعامل مع المسألة الإسرائيليّة ببرودة عقليّة. في المقابل، اتهام الفريق الآخر لفريق المقاومة بأنه مرتهن لإيران وسوريا وبأنه يريد ترك جبهة الجنوب مفتوحة لمآرب ذاك الحلف، جعل المقاومة تُضمر أكثر مما تصرّح، وإذ بات حديثها عن تحرير مزارع شبعا يُعَدّ مسمار جحا وذريعة لاستمرار حملها السلاح واحتكارها قرار السلم والحرب، سكتت عن شعارها «زحفاً زحفاً نحو القدس». باختصار، حوصر خطاب المقاومة، لا المقاومة، في ما يخص فلسطين.
وسط هذا، يبدو اللبنانيّون أسرى الثنائيّة، ومُخضعين دائماً لامتحان المفاضلة بين هذين الخيارين اللذين لا ثالث لهما. هذا ما يفسّر ضآلة المشاركة اللبنانيّة في أسطول الحريّة، بل جهل قسم كبير من اللبنانيين ليس لأمر ذاك الأسطول وحسب، بل لفكرة أنّه يمكن مناصرة الشعب الفلسطيني وحقّه في الحريّة وبناء دولته المستقلّة بلا حساسيّات مذهبية، وبفكرة أنه يمكن المقاومة أن تكون بطرق وأساليب عدّة غير السلاح.