وائل عبد الفتاحمصر عاقلة أو معتدلة كالعادة. هذا في ردّ فعلها على ضرب أسطول الحرية في بحر غزة. أما في انتخابات مجلس الشورى، فالجنون كامل لاقتناص نسبة السيطرة التامة. انتخابات بلا رادع تقريباً من أجل هدف الاستمرار على مقاعد السلطة. وفي المقابل، ردع بلا ضوابط تضمّن شكلاً ما لحضور مصر الإقليمي. هل من علاقة بين وجهَي مصر الآن: الاعتدال في الخارج وجنون القوة في الداخل؟
مصر اكتفت بوصف مذبحة أسطول الحرية بـ«استخدام القوة المفرطة»، وهو تعبير مألوف لدى الدبلوماسية المصرية استخدمته لأول مرة في العدوان على غزة (٢٠٠٨)…، وها هي تخرجه من المخازن، رغم اختلاف توصيف «الجريمة» الإسرائيلية من «حرب إبادة» بحجة التخلص من «حماس» في ٢٠٠٨ إلى «حرب ضد العالم»، كما يمكن أن يوصف ما حدث مع ناشطي «أسطول الحرية».
جريمتان مختلفتان، وردّ بارد واحد، يعني أن مصر ليست معنية بانفلات إسرائيل، ولا باستعراض قوتها «المفرطة» على حدود مصر البرية والبحرية، بينما قوة مصر مكبّلة باتفاقات «كامب ديفيد».
هدف «كامب ديفيد» الأكبر تحييد مصر، وعزلها عن محيط حيوي تحت إغراء سياسي يروّج للهروب من النار إلى الجنة، من الحرب إلى السلام، من الصدام إلى العيش الآمن. الإغراء لم يصنع بديلاً لخطايا الحروب باسم العروبة على طريق صلاح الدين الأيوبي.
الاعتدال بدا انسحاباً لا حكمة. والمنسحب لا يملك قوة وليس له شروط، إنها قوة سلبية تتحرك إلى الخلف. وهذا غالباً ما يحدث. لم تعلن مصر خروجها الكامل من مواجهة إسرائيل، كما لم تعد قادرة على تولّي حزمة مهماتها القديمة. توقفت في منتصف الطريق، وبدت من خلف المواقف المعلنة أجندتها السرية إلى درجة اتُّهم فيها نظام مبارك بالتحالف مع العدو، ولو من بوابة الصمت.
العنف في الداخل واستخدام الرصاص الحي ضد الناخبين الذين يريدون وضع أصواتهم في الصناديق، هما رغبة في تعويض فقدان الهيمنة والإقناع، بمزيد من سيطرة الأمن.
المجتمع نرجسيته مجروحة، تلك النرجسية التي كانت تعوّض أزمات التموين والخدمات الأساسية، بدغدغة مشاعر الفروسية القديمة، وتجييش المجتمع في حرب تكسير الأسطورة التي لا تقهر، كما كانت إسرائيل تروّج لقوتها بعد حزيران ١٩٦٧.
الآن، وبعد موجات الوعود بالرخاء، والتخلي عن أحلام فرسان «العروبة»، تفاقمت الأزمة، ولم تعد الأطر القديمة للنظام قادرة على «التغيير الناعم».
لماذا إذاً لم يدخل المصريون الجنة؟ ببساطة لأن النظام «منسحب» وليس منتصراً، والمنسحب عنيف يفرض سيطرته بقوة «مفرطة»، وانتخابات مجلس غير مؤثر على المستوى السياسي والتشريعي، تحوّل إلى بروفة حفل العنف المقبل في انتخابات البرلمان والرئاسة.
البروفة مخيفة، كما البرود في اتجاه «جريمة» إسرائيل، كلاهما يعني أن نظام مبارك وصل إلى مرحلة «شيخوخة مفرطة» تسعى إلى استطالة اللحظة إلى الأبد.
لم تنزعج مصر من احتلال تركيا لمواقعها في الإقليم. ليس لأن لدى النظام مشروعاً آخر، أو حضوراً بديلاً، أو اختيارات باتجاهات أخرى، بل لأن كل وجوده مرتبط بالتجميد.
يمكن فهم السعي إلى السلام، أو إلى توقيف الحرب، ويمكن إدراك فاتورة المواجهات العسكرية، لكن ما لا يفهم هو عدم وجود مشروع جديد لوجود مصر في المنطقة.
موقع المتفرّج بالنسبة إلى مصر ليس موقعاً، ولكنه اختيار بالسالب، وهذا أقسى الاختيارات، وأشرسها، لأنها ترويج بطريقة ما لأسطورة إسرائيل التي تريد إثبات أنها «لا تقهر». لا تنزعج إسرائيل من صورة البلطجي.
على العكس، تدرك إسرائيل أنها محمية بالرعب الذي تبثّه في الجيران لكي تتحقق المعادلة التي تقوم عليها الأسطورة: شعب ضعيف، مضطهد من كل الدنيا، صنع الجيش المرعب للجميع.
هذه المعجزة سرّ بقاء إسرائيل جزيرة للخوف في محيط عربي تعامل العالم معه كما يتعامل هواة تربية الحيوانات في البيوت، حينما يريدون إتمام عملية استئصال الروح الشرسة وزرع الروح الأليفة الوديعة التي لا تهشّ ولا تنش.
الخطوة الأولى في استئناس العرب قالها بن غوريون في اجتماع الحكومة الإسرائيلية سنة 1950: «لا بد من إخراج مصر من الصراع».
وكان يعني أن تحوّل مصر إلى مركز في حرب إسرائيل هو أكبر خطر على حلم العصابات الصهيونية. الخطوة الأولى اكتملت، وجود مصر لم يعد فقط على سبيل الذكرى الخالدة، ولكنه على مستوى أخلاقيات الانسحاب، التي تسميها البروباغندا الرسمية «حكمة لا يعرفها المغامرون وعشاق القتال المجاني بالنيابة عن الآخرين».
ما العلاقة بين رصاص «القوة المفرطة» في بحر غزة و«حوش عيسى» على دلتا النيل؟
العلاقة مركبة جداً.