من المناسب التحدّث عن «تراص» في موضوع المجتمع السياسي اللبناني. فالمفهوم يحتمل الكثير من التوسع في وصف تفاصيل السياسة اليومية لمجتمع السياسيين، نكاد نقول، مهما كانت خصوصيتها. إنه يساعد قبل كل شيء في وصف صُلب عملية إنتاج القرارات الإدارية من الدولة، والتي نادراً ما تصدر من دون انسجام شبه تام بين القوى السياسية المهيمنة، من بعد سلسلة مزايدات في الإعلام ومناقشات خلف الكواليس
رائد شرف *
التراص هو في التحاق قوى بأخرى دعماً لقرارات غالباً ما تكون على حساب قطاعات من الشعب بمن فيه جمهور القوى المتراصة. هو تراص الطبقة السياسية في وجه الشعب. وهو نتيجة منطقية لتكوّن مجتمع سياسي على أنقاض حركات سرية تارةً، وحركات رفضٍ شعبي (ولا نقول ثورية) متنوعة تارةً أخرى، دون الذهاب بمنطق هذا الرفض إلى آخره، أي إلى إطاحة الأخصام السياسيين وإلى إنتاج ظروف نظام سياسي جديد. هو إذاً تراص السياسيين بوجه الوعود المعطاة إلى الشعب، وهو يجاري أبرز صفات المجتمع السياسي التي تتعقبها عينٌ فاحصة على امتداد «التاريخ الطويل» نسبياً (أي السنوات الخمسون الماضية).
نكتفي في هذا الصدد بالملاحظة أن جميع أعضاء المجتمع السياسي (تستثنى الكتائب)، برزوا في زمنٍ كانوا فيه على نقيض أو منتقد «للمجتمع السياسي»، وها هم اليوم يشبهون أي شخصية من شخصيات السياسة السابقين، في «زعامتهم»، وفي «تكتيكهم» كما تقول الأغنية. فالقوات كانت تصحيح «الأطراف» لسياسات «الجبل المسيحي المائعة» كما تقول بعض الميتولوجيات، والتقدمي الاشتراكي كان (وما زال) «تقدمياً» يعادي «الانعزال»، والحريري كان مع «الأوادم» على ما ادعى عندما ترأس حكومة الميليشيات، وحزب الله كان إسلامياً بمعنى ثوري ولو كانت ثورته ناقصة. كل هؤلاء الفرقاء جرى استيعابهم من قبل النظام، وأتى انضواؤهم طبعاً ضمن نظامٍ سياسي تمثّل صناعة القهر سياسته الأولى في إدارته للمجتمع. وتراصهم في الإعلام وفي تبرير مواقفهم ليس سوى إشارة لخداعهم.
وجهة هذا الخداع: العنصريتان الطائفية والاقتصادوية وتقسيمهما للعمل السياسي. هي التي تحدد وجهة عمل أفراد الطبقة الحاكمة. لمصلحة من يعملون، يقررون، يأخذون مواقفهم. وهما (أي العنصريتان) تستندان إلى التفرقة الاجتماعية وإلى المعايير المزدوجة. قررنا أن نسميهما «طائفية» و«اقتصادوية» لإبراز ما تحتملانه من خداع، ومن العمل بعكس ما تقولان، في الخطابين «الاقتصادي» و ـــــ «الجماعاتي». وهذا لا يمنع وجود غيرهما من أصناف التمييز العنصري عند مجتمع السياسة، لكن وحدهما هاتان العنصريتان تحققان شروط استواء الفرد السياسي في مجتمع السياسة، وتجعلانه مقبولاً بالممارسة من زملائه، أي تحققان «استمراريته السياسية»، وما يتبع هذا المفهوم من تأثير على صياغة هذا الفرد السياسي لبرنامج عمله.
من دون التوسع الآن في جميع أشكال تراص المجتمع السياسي، من حيث اعتناق أغلب أعضائه من كل الاتجاهات للمنطقين العنصريين، الطائفي والاقتصادوي، سنركز على «الحالة العونية»، وبالتحديد على إدارة قيادة التيار الوطني الحر لبعض الاستحقاقات الوزارية.

التراصّ خلف العنصرية الاقتصادوية

تكاد تكون عملية إخراج الموازنة الحكومية، التي امتدت على مدى الأشهر الماضية، عملية تراص عملي ومؤسساتي بامتياز، إذ إنها تفرض على جميع أعضاء الطبقة السياسية تأطير مطالبهم المفترضة ومنطقهم الإعلامي والتبريري عامةً في منحى واحد، منحى إلغائي لتناقضات المواقف المعتادة، بحيث يُسجّل موقف موحد، له نتائج عملية على الإدارة كما على بنية المساءلات السياسية. ويصبح هذا الموقف بالتالي مجسّداً لسياسة تعايش أعضاء الطبقة السياسية بعضهم مع بعض، وهي سياسة الشروط الأولية عند كل عضو، التي لا مبرر له من دونها، ومع إطالة تمرسه في الإدارة، لا دعائم موضوعية لوجوده من دونها، أخصه عند الطفيليات التي تغذي أحزابها من الإدارة وصناديقها أساساً.
كيف يوفّق العونيون بين اعتراضهم على تملّك الفلسطينيين وتأييد وزيرهم بنوداً تغذّي الاقتصاد العقاري المجرم؟
في حلقة تراص «طبخة الموازنة»، جرى توافق الجميع على تسهيل العمل «بالخصخصة» أو «بإشراك القطاع الخاص»، بمن فيهم التيار الوطني الحر، وذلك رغم ثبوت العبث الناتج من سياسات إشراك القطاع الخاص بالتجارب السابقة (يمكن العودة إلى مجموع مقالات محمد زبيب لشهر نيسان لمزيد من التفاصيل في هذا الملف). ولبعض قيادة التيار ميلٌ جدّي ـــــ قل إنه «ديناميكية الشباب» ـــــ إلى الترحيب بالخصخصة، مع أن التيار ما زالت تنقصه روح المبادرة في التزلف لرأس المال التي تميز حركة أمل. والحركة كانت صاحبة مشروع «حل توافقي» مع الحريرية يعوض عن الزيادات على ضريبة القيمة المضافة الغالية على قلب الحريرية التي لا تعرف من الاقتصاد سوى الاستيلاء على أموال الفقراء ومدخراتهم. الحل الذي يقضي بإمرار قانون يجيز للحكومة التعاقد مع القطاع الخاص في قطاعاتها الحيوية دون العودة في كل مرة إلى مجلس النواب. رحّب أعضاء المعارضة السابقون، في صدد الموازنة، بشراكة القطاع الخاص، بحجة تخفيف الأعباء عن أصحاب الدخل المحدود، وكأن نظام النهب لا يتغذى إلا من جبايات الدولة لا من علاقات رأس إدارة الدولة مع القطاع الخاص وتوزيع الدولة لمحاصيل الجبايات على الجهات الخاصة. وهذا يصبّ أيضاً في تضليل الناس عن وجهة الاحتكار المركزية وفي صلب خطاب تبرير العنصرية الاقتصادوية لأعمالها.
وكان لافتاً في هذا الخصوص، خلال جلسة تصويت الموازنة في مجلس الوزراء، تأييد الوزير «العوني» فادي عبود لمادتين من مواد المشروع (٣١ و ـــــ٣٢)، على عكس زميليه من التيار (شربل نحاس وجبران باسيل). والمادتان، يقول محمد زبيب («الأخبار» ١٩/٠٦/٢٠١٠) «تمنحان الشركات، بما فيها الشركات العقارية، إعفاءات ضريبية كبيرة جداً على عملية إعادة تقويم أسعار أصولها، ولا سيّما الأصول العقاريّة، وفقاً للأسعار الرائجة في نهاية عام 2009، وهو ما ينطوي على هدايا بمئات ملايين الدولارات لشركة سوليدير ومثيلاتها وللمصارف وللشركات التي تتاجر بالعقارات والأصول المادية الأخرى». والاقتصاد العقاري من أولويات العنصرية الاقتصادوية، تكاد لا تدعم الدولة استثماراً لا يصبّ في العقارات (تليها السياحة). فهل لنا أن نصدق أن «شرود» فادي عبود كان صدفة، يجيزها التيار في موضوعٍ حساس كالتصويت على موازنةٍ أخذ إعدادها أشهراً، ولم يكن تصويت عبود لما تشتهيه الحريرية (وفادي عبود) من تلك «التعددية للآراء» التي تُسرّب عبرها رسائل التطمين ووعود التجانس؟ على كلٍ، سجل فادي عبود صوته، وإن كان التصويت على المادتين مجانياً لعدم دستوريته، حُسب التصويت أو لم يُحسب، فالاقتصاد العقاري المجرم سائر على سكةٍ متينة ومرفهة، لأنه ليس هنالك، قبل كل شيء، جهة سياسية تردعه.
بوادر هذا الانضواء العوني المكتمل ضمن روزنامة عمل العنصرية الاقتصادوية كان يمكن أن نتلمسها منذ ما قبل دخول التيار في الحكومة الحالية، إذ إنه في برنامجه الانتخابي الأخير لم يعبّر عن تبنّيه «للخصخصة» القليلة الشعبية لنكهتها الحريرية وتعهدات لبنان الدولية (اقرأها: تعهدات لبنان لرأس المال) إلا في فصل «الاتصالات»، حيث أدخل التيار سابقاً في الحكم، في حكومة السنيورة عام ٢٠٠٨، وللمرة الأولى، ووجب بالتالي قياس تجاوبه مع لعبة الحكم للتصديق على إعادة إدخاله ضمن الحكم مجدداً. والتجاوب كان ممتازاً كما يبرهنه المشروع الانتخابي بفصله عن الاتصالات. ولا يغيّر في شيء أن يكون شربل نحاس معارضاً لتخصيص القطاع بعد تسلّمه وزارة الاتصالات، فالتيار بالإجمال سارٍ مع سياسة الخصخصة وإشراك «القطاع الحريري الخاص» في العموم، دون ضوابط، وذهب في هذا الاتجاه في مشروع إنقاذه للكهرباء الذي لاقى موافقة حريرية سريعة (جرى التصويت على الخطة في مجلس الوزراء في ٢١ حزيران ٢٠١٠)، وهذا هو المنطق الاجتماعي الطاغي الممكن تلمسه من مجموع مواقف رجال التيار، على تنوّعهم.

الطائفية كتأديب أو التراص الطائفي

من هنا تتضح معالم تعاطي التيار أخيراً مع قضية الشعب الفلسطيني في لبنان ومسألة إعطاء الفلسطينيين حقوقهم المدنية. فكيف بغير تراصهم خلف العنصرية الاقتصادوية، وأولويتها لرأس المال، يمكن تفسير احتجاج العونيين على إعطاء حق التملك للفلسطينيين بسبب مضاعفاته على «الأزمة العقارية»، في حين يصوّت وزيرهم فادي عبود على بنود مغذية للاقتصاد العقاري المجرم؟ وفيما يعمل نوابهم على تشريد الآف العائلات اللبنانية عبر قانون خاص لتحرير عقود «الإيجار القديم»؟ الأمثلة عديدة على استغلال الطبقة السياسية لوضع الفلسطينيين في تغذيتها التضليلية للقسمة في المجتمع ولنظام القهر المرتكز على هذه القسمة. والكلام على الفلسطينيين ليس سوى تمهيد لكلام سيأتي يوماً، إن لم يكن متداولاً في العالم الاجتماعي منذ الآن، عن أزمة عقارية يسببها «تكاثر الشيعة» أو «الهجرة العكارية نحو المدن»، أو تسبّبها «المعايير المارونية الكسروانية على مواد البناء»، وغيرها من استعارات التهويل التي لجأت إليها الطبقة السياسية في السابق لتدعم وحدة خندقها عبر الاعتداء على حقوق الغير.
فالسياسة التهويلية ضد «الجماعات»، وبالرغم من حلّتها الحادة الخطاب، ليست سوى ترجمة «تأديب» عميق على مستوى الأفراد المعتنقين لخطابها من مجتمع السياسة والإعلام. تأديب وتراص، يلتقيان في مجتمع السياسيين الشرعيين. وأعضاء قيادة التيار الوطني الحر لا يخرجون عن هذا المنطق. وقد جاء اعتماد التيار الوطني للمنطق الطائفي، وللعنصرية التي يسوّق لها هذا المنطق، كسياسة رسمية، رأينا تجلياتها في الانتخابات النيابية الأخيرة والفرعية ما قبلها، بعدما نادى العماد عون في انتخابات ٢٠٠٥ بـ«نبذ الطائفية» وبتمثيل جميع اللبنانيين، وأبدى امتعاضه من «التكليف الشرعي»، ولم يزح عن هذا الخطاب طيلة حملة الانتخابات آنذاك، بالرغم من ضغوطها ودقة ظرفها. بل أكثر من ذلك، امتاز نضال طلابه في الجامعات في المنطقة الشرقية بالتجرد من النبرة الطائفية الفذة، رغم أجندة مطالب الطلاب المحدودة والموازية لأجندة الأحزاب الطائفية، بمطالبتها الممنهجة بالخروج السوري دون مواكبتها ملفات الإدارة اللبنانية طيلة ١٥ عاماً بالمنهجية نفسها. وهذا «سهل» على أي تيار يرتكز على محيطٍ اجتماعي معين، عزلته الحرب، ومضطر إلى تبسيط خطابه بسبب المنع السياسي اللاحق به. ولكن، حتى بالرغم من صعوبة ظروفه آنذاك، لم ينتهج التيار الخطاب الطائفي الذي هو في صلب خطابه الآن وهو في الحكم، ما يدل على أن «الطائفية» هي نتيجة تأديب يحصل في معشر مجتمع السياسة.
تخيّلوا التيار الوطني الحر الآن وهو يقول بتمثيله جميع المواطنين، كيف كان ليقبل به الآخرون من مجتمع السياسة المهيمن في حكومة «أقطاب وطنية»؟ في حكومة أقطاب تدّعي تمثيل «طوائف»؟ وهو مجتمع ما زال يسري في «طاولة حوار» مسرحية ليثبت نمطية زعاماته. كان لينبذ التيار حليفاه الطائفيّان أولاً، أي «حزب الله» و«أمل»، قبل غيرهما. وهما اللذان لم يسلّماه حق ترشيح الناشط الحزبي رمزي كنج عن مقعد قضاء بعبدا «الشيعي»، في انتخابات ٢٠٠٩ السخيفة، ولا شك أنهما من الأسباب الرئيسية لتحويل وجهة سياسة التيار طائفياً، والحد من توسعه شعبياً وسياسياً، وحصر هذا التوسّع في «المسيحيين». قد يجوز الانطلاق من مسألة «الطائفية» ضمن هذه السردية لفهم أوجه تعاطي التيار في أمور السياسة عامة، بما فيها أمور الفلسطينيين، إذ يبرز المثل الآنف الذكر كيف أن تحالفات التيار مع قوى النظام القديمة العهد (أي حزب الله وأمل) ألزمت التيار بروزنامة طائفية في نظرته إلى الدولة والحكم. أي إن التحالف مع القوى المنضوية تحت لعبة النظام وأسسه لا يمكن إلا أن تكون ضمن شروط النظام. في هذه الحال، يفهم الهذيان في سياسة التيار تجاه الفلسطينيين، وهي سياسة عنصرية تنفي أبسط منطقٍ إنساني، وهدامة، إذ إنها تعزز القسمة في المجتمع. لقلنا إنها غبية لولا أن الغبي احتكر الكلام «بالغباء». الطائفية في هذه الحال هي ما بقي لعضو الطبقة الحاكمة للتمسك بنفوذه، دون هزّ أسس النظام العامة. هي فعل الطبقة الحاكمة، وليست فعل المجتمع المتهم بـ«التخلّف» والانقسام من قبل أبواق الطبقة الحاكمة. وهي علامة سلوك مؤدّب يشمل مجتمع السياسيين برمّته كما تشهد مرحلة تحكيم «عصا عنجر»، عندما تخلّف وليد جنبلاط ورفيق الحريري ونبيه بري وحزب الله عن إعطاء الفلسطينيين حقوقهم. وهي، في حال استيعاب «الحالة العونية»، عنوان تراص سياسي، يقضي باستيعاب قوة مهيمنة جديدة ضمن شروط استمرار النظام القائم، عبر إلزامها بجدول أعمال منطق العنصريتين الاقتصادوية والطائفية. ولا شيء أدل وأبلغ على استعداد بعض قادة التيار لاعتناق تأديب لعبة السياسة النظامية حتى تحويله منهجاً وعقيدة، أكثر من هذا المقطع من خطة الكهرباء (المحور الأول، فصل «التوزيع»، فقرة «ب») الذي ينص بتحديد «مقدمي الخدمات» (الكهرباء) و»المناطق اللبنانية» حيث ستوزع الكهرباء بناءً على «الوظائف الاجتماعية ـــــ السياسية»، أي تقسيم لبنان مناطق تتناسب ونفوذ الميليشيات ـــــ الأحزاب المهيمنة والشريكة في الحكم. قل إنها «عملانية الشباب»، وهي ليست سوى تذاكٍ بورجوازي ـــــ صغير، يدخل في إطار الواجب شبه الحتمي على الداخلين الجدد في حقلٍ ما بإبداء شهادة «شبه مدرسية» لاعتناقهم العقيدة السائدة ، وصولاً بهم إلى أن يفضحوا بالكتابة ما يتفق عليه الجميع بالسر.

القيادة الهرميّة

لو لم يتحوّل التيار الوطني إلى النغمة الطائفيّة لكان حليفاه الطائفيّان هما أول من ينبذه
هكذا دخلت قيادة التيار الوطني الحر الحلقة الأخيرة من عملية استيعابها والتيار موضوعياً، وبات من الآن فحص مدى تمثيل هذه القيادة «للاعتراض الشعبي» حاسماً. هذا «الاعتراض الشعبي» الذي مثّلت منصة لبعض أهوائه في اللعبة السياسية حتى الأمس القريب. فالتيار الوطني الحر كان على مدى السنوات الخمس الماضية من أعضاء النظام السياسي غير المنضبطي «الإيقاع»، بسبب دخوله اللعبة متأخراً، وعدم معاشرة أعضاء قيادته لمجتمع البلاط في بيروت الغربية وللحلقات الصالونية الدائرة في مجاله في «الشرقية»، هذا من ناحية. من ناحيةٍ أخرى، لأسباب تتعلق ببنية التيار التنظيمية وبعلاقتها مع سياسات قيادته الشعبية غير المكتملة التكوّن والمنهجية. وهنا يجدر التنبه إلى أن تبنّي المناحي العنصرية المشار إليها أعلاه، يتماشى وتكوّن سياسات قيادة التيار الوطني الحر الشعبية، وتكوّن هيكليته الداخلية على الشكل الحاد الهرمية الحالي، أي من دون انتظامه ضمن أطر حزبية ديموقراطية تأخذ بآراء القاعدة الحزبية. وهي سياسات قيادية تستند معتقداتها إلى النظر إلى للناس على أساس أنهم مجموعات متهورة (بمن فيهم الحزبيون من خارج الحلقة القريبة من العماد عون). هذا المنطق الذي لا يأخذ بآراء الناس، لا بل يطمس آراء الناس، تحت حجج «الضرورات» والأزمة، والطوارئ، و«النظرة الاستراتيجية إلى المنطقة»، و«العلم بما لا تعلمون من أخبار الكواليس» من وشوشات هذا المبعوث أو ذاك. هذا المنطق هو المفسر الوحيد للتأجيل المستمر لتنظيم هيكلية التيار. وهو أيضاً من دعائم النظرة العنصرية الطائفية عند مجتمع السياسة للشعب في لبنان. وهو منطق ممهد عند معتنقيه لتبنّي العنصرية الاقتصادوية، التي لا تعترف بمحاسبٍ ومُسائلٍ اقتصادي عند الفئات الشعبيية، وتجد مسائليها عند رأس المال ورجالاته فقط، في وزارة المال، والأمم المتحدة، وجمعية المصارف، وجمعية الصناعيين، حيث وجدت قيادة التيار أكثر من وزيرٍ ومرشح نيابي. وإلّا، إلى من غير رجال رأس المال كان يوجّه كلامه جبران باسيل عند مراسيم تسلّمه وزارة الاتصالات سنة 2008 من مروان حمادة مطمئناً المتخوفين إلى أنه والتيار صاحبا توجه «اقتصادي ليبرالي»؟ يومها، تحدث حمادة في وداع وزارته، مؤكداً «استمرارية» الحكم، ومذكراً بصفحة مشتركة بينه وبين التيار في محاربة لحود، وكان شبح وقوف الوزير «اللحودي» جان لوي قرداحي في وجه المطامع الحريرية التي يمثّلها حمادة في قطاع الاتصالات لا يزال مخيّماً على إدارة القطاع العام. فكان جواب باسيل «ليبرالياً» لتصويب الأمور... في وجهة حمادة
نفسها.
التراص خلف عنصريّتي النظام والهرمية الحزبية الحادة يتغذى من المجموعة نفسها من المعتقدات الاستعلائية ويتماشيان، كما هي الحال مع باقي الأحزاب اللبنانية المهيمنة في ظل النظام، والأرجح أنهما يغذي أحدهما الآخر، على الأقل ضمن مدة زمنية فيها ثبات نسبي للنظام الإقليمي الشرق الأوسطي وهيمنة نسبية لأركان النظام على منصات تمثيل الاعتراض الشعبي. هذه المعادلة للنظام يبدو أن قيادة التيار الوطني الحر دخلت صفوفها، وقد كان لافتاً إحجامها طيلة شهر حزيران عن دعم مطالب الأساتذة الثانويين، إحدى ساحات الاعتراض الشعبي المهددة من حصارٍ حريريٍ «ليبراليٍ» منظّم. هو شللٌ في الأداء قد تفسّره «البراغماتية المؤدبة» بأنه «لتجنّب تسييس» معركة الأساتذة. كأن الأساتذة يواجهون جهات «ليبرالية» جاءت من عالم المثاليات والمبادئ، لا أكبر حوتٍ مالي وسلطوي شهدته البلاد. وكأن الليبرالية الاقتصادية نفسها لم تناد «بحركية اليد العاملة»، وبالتالي، بتشجيع «هجرة الشباب» إلى حيث يحتاج إليهم رأس المال من دون الاكتراث لأهوائهم وتطلعاتهم وتعلّقهم بأرضهم. وهي مبادئ لا نظنها تستهوي جمهور التيار الشعبي كما تستهوي بعض قادته.

خاتمة

في خطاب للعماد عون يوم ١٠ تموز ٢٠١٠، برر حذره من موضوع الحقوق المدنية للفلسطينيين بعرض مستفيض لمشاريع التوطين ومنطقه. وهو يجد الحل لمسألة الحقوق في إبقاء الفلسطينيين تحت وصاية «الأونروا» الاقتصادية، لا بل في توسيع هذه الوصاية عبر مطالبة الجهات الدولية بدعم سكن الفلسطينيين، ذلك (ربما) ليبقى حق العودة ضمن الشرعية الدولية. مع أنه يؤكد لاحقاً أن الشرعية الدولية هي التي أدّت إلى أزمة الفلسطينيين وهجرتهم. أما باقي خطابه، فجاء فيه من التضليل والاعتباطية ما لا يمكن إحصاؤه في مقال. لا شيء يبرر الحدّة الخطابية عندما يتعلق الموضوع ببشر يعيشون في لبنان ويعانون تمييزاً عنصرياً، ليس فقط قانونياً، بل اجتماعي، وإذ بالعماد عون يوازي مشكلتهم «بأزمة السير». كأن مشكلتهم من أمور القرف والانزعاج المزاجي. وتبقى النتيجة نفسها: التغاضي عن وضع أناسٍ يعيشون الآن ويتنفسون على الأرض اللبنانية. لهم قضية و«هوية» و«خبرية»، عرّفوها كما شئتم، لكنّ وضعهم بائس، متعب، قاهر، مثلهم مثل قسم كبير من اللبنانيين. ذلك يحصل بينما هنالك أقلية لديها فائض من الأموال كافٍ لإراحة الشعب اللبناني والفلسطيني مرتين وثلاثاً وأكثر.
لكنّ العماد عون صرّح بغير ذلك في تبريره، في ما عدّه «طبيعة» لبنان، فيقول: «لبنان بلد هجرة بطبيعته، من مئتي سنة التوازن عم نحفظه في لبنان بهجرة أكثر من نصف أبنائه»، والهجرة سببها ضيق المساحة بحسب عون. لذا يجد لبنان «توازناً» صحياً في تهجير أبنائه. وهذا ما يتفق مع «الليبرالية» الحريرية. قد يذهب المنطق السياسي العادي للطبقة السياسية في تبرير كلام عون إلى اعتباره تكتيكاً كلامياً، معنياً فقط بتجريد موضوع الحقوق المدنية للفلسطينيين من احتمال التوطين، بوضعه في إطار تنظير شامل يستمد حجّته من «التاريخ» ومن «الطبيعة» لضرورات الكاريزما، وذلك على شاكلة الخطابات السياسية المعتادة التي تناقض سابقتها، والتي يمثّل وليد جنبلاط كاريكاتورها الحي. لكن هنالك مؤشرات في سلوك قيادة التيار، على مدى السنوات الأربع الماضية، تدل على تطور نوعي، في السلوك الاجتماعي، نحو الانضواء والتراص خلف قواعد النظام القائم، المغذية للنظام، التي يمثّل تسخيف مسألة الهجرة وستر مسؤولية الحكم في تعزيزها بعضاً من معتقداتها. والمحزن في الموضوع ليس تجديد النظام لحلّته باستيعابه القيادة العونية، مع أن هناك من يحاول أن يعيد صياغة هذه الحلّة على وزن «الصراع المسيحي ـــــ المسلم» القديم. المحزن أكثر هو نعي منصة نسبية للمطالب الشعبية، منصة جمعت عشرات الآلاف من الناشطين تطوّعاً كما لم يحصل من قبل في لبنان، منصة «للرفض الشعبي» الذي وقف أمام الطبقة المهيمنة القديمة مع عون في الانتخابات الماضية، متخطّياً الحرب الإعلامية. و«المنصة العونية» قد تكون الأخيرة في العقد المقبل، وقد جاءت وحيدة بعد ١٥ سنة من السياسة المؤدبة، تاركةً الناس من جديد في عزلة شبه تامة أمام النظام.
* باحث لبناني