شامل العظمة *تمثّل التوجهات التركية السياسية الأخيرة، وتحديداً منها الانفتاح على دول تخاصمت معها تركيا لمرحلة طويلة كإيران وسوريا، والموقف التركي الأكثر توازناً من القضية الفلسطينية، مادة جدال في العديد من الأوساط. فبينما ينظر الكثيرون بإيجابية إلى هذه التحولات، يتشكك آخرون في دوافعها، ويعدونها مواقف إعلامية لا أكثر، تهدف إلى انتزاع قيادة سياسية واقتصادية للمنطقة. تغيب عن هذا الجدل أي محاولة لقراءة موضوعية لهذا الموقف تمكننا من فهم أبعاده وتقويم حدوده. قراءة تسمح لنا بأن نفهم هذا الموقف في سياق التغيرات التركية الداخلية وتفاعل هذه التغيرات مع التطورات الإقليمية والدولية وتأثير هذا التفاعل على موقع تركيا في النظام السياسي ـــــ الاقتصادي الإقليمي والدولي.
تمثل التحولات الاقتصادية التركية والإقليمية والدولية جزءاً هاماً من هذا المشهد. فالتحولات البنيوية التي شهدها الاقتصاد التركي خلال العقود الثلاثة الماضية سواء من حيث البنية الداخلية لهذا الاقتصاد أو من حيث موقعه في التشابكات الاقتصادية الإقليمية والدولية، أدت دوراً مهماً في صعود نخب سياسية واقتصادية جديدة حملت رؤية مختلفة لموقع تركيا ودورها في الإقليم وفي العالم.
نقطة البداية لهذه التحولات كانت حقبة الثمانينيات. فخلال هذا العقد، وتحديداً خلال حقبة رئيس الوزراء تورغوت أوزال الاقتصادي السابق في البنك الدولي، طبقت تركيا مجموعة من سياسات التحرير الاقتصادية الشبيهة بما كان يفرضه البنك الدولي على الدول النامية خلال تلك الفترة. شملت هذه السياسات تحرير التجارة الخارجية، وتشجيع القطاع الخاص، وتخفيف دور الدولة في الاقتصاد. أضعفت هذه السياسات الدور المركزي للدولة التركية في الاقتصاد وخففت من دور المؤسسات المملوكة من الدولة أو الشركات الخاصة المرتبطة بالنخب السياسية والعسكرية الحاكمة. خلال الحقبة نفسها، كان الاقتصاد العالمي يمر بمرحلة إعادة هيكلة، أهم خصائصها تسارع عملية نقل وظائف الإنتاج في القطاعات الحساسة للكلفة كالألبسة والمفروشات من دول «المركز الاقتصادي» إلى دول أخرى تنخفض فيها كلفة الإنتاج. مثلت تركيا مكاناً مثالياً لتوطين الإنتاج بالنسبة إلى الشركات الكبرى من حيث انخفاض كلفة الإنتاج من جهة، ومن حيث الموقع الجغرافي المميز، وخاصة القرب من السوق الأوروبي.
مستفيدة من هذا التلاقي بين العوامل الداخلية والخارجية، بدأت بعض المناطق الصناعية التركية بالصعود معتمدة بصورة كبيرة على التصدير للسوق الأوروبية، وخاصة بعد تطبيق الاتحاد الجمركي بين تركيا والاتحاد الأوروبي عام 1996. عدد كبير من هذه المناطق الصناعية كان في المناطق الوسطى والشرقية من البلاد، كأضنة وغازي عنتاب وقونيا وغيرها من المدن التي أصبحت مراكز اقتصادية شهدت صعوداً لنخب اقتصادية جديدة تحدّت الهيمنة التقليدية لمناطق الغرب كإسطنبول وأزمير. نخب حملت نظرة أكثر توازناً لموقع تركيا في العالم من نظرة إسطنبول التي تنظر غرباً، بحكم الموقع الجغرافي.
سرعان ما توسع دور هذه النخب الجديدة، التي حملت ثقافة مغايرة للإيديولوجيا الكمالية عبر جمع هذه النخب بين الليبرالية الاقتصادية والمحافظة الاجتماعية، ما دفع الكثيرين إلى تسميتهم رأس المال الأخضر (إشارة إلى الالتزام الديني لهذه الفئة)، وإن كان «نمور الأناضول» قد أصبح الاسم الأكثر شيوعاً لوصف هذه الفئة الصاعدة. توسع الدور الإعلامي والسياسي لهذه الفئة، فأسست مؤسسات تعليمية مرتبطة بها (كجامعة الفاتح في إسطنبول) ووسائل إعلامية (كصحيفة زمان) ومؤسسات مالية وخيرية (جزء كبير منها ارتبط برجل الدين فتح الله غولين). ودعمت هذه الفئة حزب العدالة والتنمية الذي مثلت إيديولوجيته هذا المزيج بين الليبرالية الاقتصادية والقيم المحافظة.
انتقلت تركيا من الإنتاج المباشر لمصلحة العلامات التجارية إلى إدارة الإنتاج
اندماج هذه الفئة بالاقتصاد العالمي وانخراطها في شبكات الإنتاج العالمية، جعلها عرضة بصورة مباشرة للديناميات الاقتصادية المعولمة. صعود الصين وقدرتها على جذب الأنشطة المنخفضة الكلفة مثّلا تحدياً لموقع تركيا بشبكات الإنتاج العالمية. تحدٍّ استجابت له الشركات التركية عبر محاولة الانتقال إلى أنشطة ذات قيم مضافة أعلى، كالتصميم وتطوير المنتجات، وفي الوقت نفسه نقل الأنشطة الكثيفة العمالة الحساسة للكلفة إلى دول منخفضة الكلفة. هذا التحول تطلّب نظرة جديدة إلى محيط تركيا الذي وجدت فيه هذه الصناعات التركية الصاعدة مجالاً اقتصادياً ـــــ جغرافياً من الممكن استثماره للاستفادة من الفرص الإنتاجية التي يوفرها، سواء كانت هذه الفرص انخفاض كلف الإنتاج أو مزايا متعلقة بدخول الأسواق (market access) ناجمة عن اتفاقيات التجارة الحرة. خلق هذا الإقليم الاقتصادي يوفر لتركيا فرصاً هامة من حيث موقع البلاد في الاقتصاد العالمي. خلال مؤتمر «التوريد من إسطنبول» (Istanbul Sourcing Conference) الذي عقد في عام 2008 وركز على صناعة الألبسة، أكدت مجموعة من كبار الخبراء ومديري الشركات العالمية أهمية موقع تركيا الجغرافي. كريستوفر روسل، مدير التوريد في شركة تيسكو البريطانية العملاقة، أشار إلى ضرورة أن تستفيد تركيا من تجربة كوريا وتايوان اللتين حافظتا على موقعيهما في الصناعة في وجه المنافسة الصينية عبر نقل الأجزاء الكثيفة العمالة والحساسة للكلفة إلى الصين، والتركيز على الأنشطة العالية القيمة المضافة كالتصميم وتطوير المنتجات. بالمثل، قال روسل، على تركيا أن تعمل على نقل الأنشطة الحساسة للكلفة والكثيفة العمالة إلى دول إقليمية أقل كلفة، طارحاً مصر مثالاً. بدوره، وليام فانغ، مدير شركة لي & فانغ (Li & Fung)، وهذه الشركة (مقرها هونغ كونغ) هي أحد أهم اللاعبين المجهولين في الاقتصاد العالمي اليوم عبر تنظيمها شبكات الإنتاج العالمية وإدارتها في العديد من الصناعات، شرح أن تركيا تمثل مركز التحكم الإقليمي الأمثل لشركته، وأن موظفي شركته في إسطنبول يديرون الإنتاج في الأردن ومصر والمغرب وبلغاريا ورومانيا وغيرها من الدول. هذا الدور التحكمي تؤديه العديد من الشركات التركية التي انتقلت من الإنتاج المباشر لمصلحة شركات العلامات التجارية الكبرى إلى إدارة الإنتاج لحساب هذه الشركات عبر نقل أجزاء من العملية الإنتاجية إلى رومانيا وبلغاريا وغيرهما من الدول، والاحتفاظ بالأنشطة العالية القيمة المضافة في تركيا، كالتصميم وتطوير المنتجات وإدارة الإنتاج.
لا تقتصر الأهمية الاقتصادية لتوسيع المجال الاقتصادي ـــــ الجغرافي التركي بكل الاتجاهات، أو العمق الاستراتيجي كما يسميه وزير الخارجية التركي أحمد داوود أوغلو، على توفيره مزايا إنتاجية للشركات التركية، بل يوفر أيضاً سوقاً هامة للسلع التركية. أسهمت الأزمة الاقتصادية العالمية في زيادة أهمية هذه الأسواق. فتباطؤ النمو (الاقتصادي والسكاني) في أوروبا والولايات المتحدة جعل من أسواق البلدان النامية، وخاصة في آسيا، محركات النمو في الاقتصاد العالمي. هذه التحولات تعني أن مراكز جديدة للنشاط الاقتصادي بدأت بالظهور، ما سيقلل تدريجاً اعتماد تركيا على التصدير إلى الأسواق الأوروبية والأميركية، وسيعني أن أيام الربط بين العلاقة الاقتصادية (والسياسية) مع الغرب والتصدير إلى أسواقه من جهة، والازدهار والنمو الاقتصادي من جهة أخرى، قد ولت. نظرة سريعة على تأثير الأزمة الاقتصادية على الصناعة التركية يوضح بصورة مباشرة حجم هذا التأثير. ففي غازي عنتاب القريبة من الحدود السورية، تراجعت الصادرات، بحسب أرقام غرفة تجارة المدينة، إلى إيطاليا في الشهرين الأولين من عام 2009 بنسبة 31%. وفي الفترة نفسها، نمت الصادرات إلى العراق بنسبة 93% وإلى سوريا بنسبة 106%. «إذا انهار الغرب»، علق فيغين سيلكوتروك، نائب رئيس الغرفة، «فإن موقع غازي عنتاب يمكّنها من الاستمرار عبر التصدير إلى الشرق».
* اقتصادي سوري ـــــ جامعة مانشستر