عباس السيد جاسمهذا السؤال يجب أن يواجهه بجرأة السياسيون وأصحاب القرار. إلا أن قوى المشهد السياسي العراقي تبدو غير آبهة بحجم الأخطار المحيطة بالبلد. السياسيّون يتنافسون على حجم الامتيازات ونوع المناصب، وكأن سعادة المواطن ومستقبل البلد يعتمدان بالدرجة الأولى على امتيازات السياسيين ومنافعهم. وفي غمرة الصراع على المناصب، تعلو أصوات داعية إلى تأليف حكومة شراكة من كل المكوّنات السياسية التي فازت بالانتخابات.
لعلّه من المفيد التعلم من تجارب الأمم المتنورة التي دعت إلى التقاليد الديموقراطية ومعاني المسؤولية الوطنية ورسختها. فدول مثل فرنسا وألمانيا وبريطانيا والهند وماليزيا غالباً ما لا تسفر انتخاباتها العامة عن فوز أحد الأحزاب الرئيسة بالنسبة المطلوبة لتأليف الحكومة. ولكن الحزب الفائز يلجأ إلى التحالف مع أحزاب صغيرة لتأليف الحكومة، فيما يقوم الحزب المنافس بدور المعارضة البرلمانية والمراقبة والطعن بالممارسات الحكومية ورصد حالات التقصير والعجز.
لعلّ أكثر القوى الخارجية تأثيراً على الفكر السياسي في العراق هم المحافظون الجدد
وهذا ما يقود إلى الاقتناع بأن الممارسات الديموقراطية لا تمتّ بصلة إلى مفهوم حكومة شراكة، فحكومة شراكة تعني في مضامينها وتطبيقاتها الالتفاف على الديموقراطية وشلّ حركة الحكومة وإبعادها عن كل المسارات العملية والوطنية. أمّا الطروحات الديموقراطية، فتوجب تأليف حكومة وطنية مسؤولة أمام الشعب والبرلمان وأحزاب المعارضة.
بعد مرور أكثر من سبع سنوات على سقوط النظام الدكتاتوري، ما زال العراق يعيش حالة مأسوية اقتصادياً وأمنياً، ممثّلاً خرقاً لكل المقاييس الدولية. وهذا الوضع يمثّل إدانة دامغة لكل الأطراف السياسية، وإشارة واضحة لفشل مؤسسات الدولة، سواء كانت سيادية أو خدمية أو تشريعية أو تنفيذية، على الاستجابة لمصالح الجماهير وأمن الوطن. وكان الأحرى بالعراق أن يكون نموذجاً يحتذى به في المنطقة وليس كياناً ضعيفاً تعصف به القوى الإقليمية والعالمية حيث تشاء.
لعلّ أكثر القوى الخارجية تأثيراً على الفكر السياسي في العراق هم المحافظون الجدد. فقد تمكن هؤلاء تحت غطاء الموضوعية والالتزام بالفكر الديموقراطي من زرع أفكار وممارسات غريبة عن المنطق العقلاني والتصور الديموقراطي، وسرّعوا عملية إعادة العراق عقوداً إلى الوراء وشل مؤسساته وإنهائه ككيان سياسي وحضاري، وكانوا مدفوعين بحوافز دينية بحتة وتلمودية المنحى والغرض.
سبق لوزير الخارجية الإسرائيلي السابق، سلفان شالوم، أن أشار إلى أن «الكتاب المقدس يخبرنا بأن الخطر القادم يأتي من بلاد الرافدين، لذا كان يجب علينا تركيع العراق». وفي السياق ذاته، أشار أحد مفكري المحافظين الجدد ديفيد كلنغهوفر إلى أن العراق، وحسبما ورد في الكتاب المقدس، هو بؤرة الشر والكذب وقد غزونا العراق لاستئصال الشر وقهر الخطر المحدق. لقد تمكن المحافظون الجدد، قبل الغزو وبعده، من بلورة سمومهم التلمودية ونشرها بخصوص كيف يجب أن يكون عليه مستقبل العراق. فقد دعا كبار قادتهم مثل بول وولفويتز وخليل زادة إلى فكرة تقسيم العراق إلى فدراليات ثلاث وإضعاف دور الحكومة المركزية. ومن أجل التهيئة لهذا الهدف، أشار مساعد نائب الرئيس الأميركي الأسبق ديك تشيني، ديفيد وروزمير، إلى ضرورة تشجيع النزعات الطائفية والعنصرية والعشائرية لإضعاف العراق، وفق ما أشار أحد مفكري المحافظين الجدد والمساعد السابق لوزير الخارجية الأميركي مايكل لدين إلى أن تحقيق الاستقرار في العراق والمنطقة لم يكن هدفنا. لقد قطع المحافظون الجدد شوطاً بعيداً في تنفيذ مخططاتهم وفي نشر أفكارهم الظلامية وتهميش التوجهات الوطنية وتحريفها. في الفترة الأخيرة، نشط المحافظون الجدد في إعادة ترويج أفكارهم التلمودية بطرح مفاهيم تقليص سلطات رئيس الوزراء وتقاسم السلطة إثنياً وطائفياً بعيداً عن الانتماء الوطني والمؤهلات، ودعوا إلى تأليف حكومة شراكة من كل الفئات. وهذه الطروحات تهدف إلى شل الحركة الوطنية وزرع بذور الفتنة ومن ثم الالتفاف على النظام البرلماني وإفقاده معانيه ومضامينه. إن الفكر الاستراتيجي يقضي ببناء دولة عصرية قوية ذات حكومة متماسكة وبرنامج عمل واضح للخروج من المحن الاقتصادية والأمنية وبناء عراق مستقل، واقتصاد يوفر لأبنائه الحياة الآمنة وفق المقاييس الدولية المتعارف عليها.
* أستاذ إدارة الأعمال
ومدير مدرسة الإدارة العالمية بجامعة إنديانا في بنسلفانيا ــــ الولايات المتحدة الأميركية