كميل داغر *روى الدكتور يوسف كمال الحاج، في كتابه، «حقوق الإنسان، تعلو ولا يُعلى عليها»، ظروفَ إقرار الشرعة التي تتضمن تلك الحقوق، في دورة عام 1948 للجمعية العامة للأمم المتحدة، فنتيجة التصويت على مشروعها، ويضيف:
«فور إعلان هذه النتيجة الباهرة، التي عدّها آباء الإعلان في حد ذاتها إنجازاً عالمياً فذّاً، اختتم الدكتور إيفات (المندوب الأسترالي، رئيس الدورة) أعمال تلك الدورة، معلناً أن إقرار الإعلان لحقوق الإنسان يمثل حدثاً تاريخياً مهماً من الدرجة الأولى. وعندما قدّم، باسم الأسرة الدولية، مشاعر التقدير والامتنان إلى السيدة (اليونورا فرانكلين) روزفلت والدكتور (شارل) مالك على جهودهما، الأولى بصفتها رئيسة المفوضية لحقوق الإنسان، والثاني بصفته رئيساً للجنة الثالثة وللمجلس الاقتصادي والاجتماعي، هبَّ جميع الحاضرين وقوفاً (...)، يصفقون لهما طويلاً إظهاراً لتقديرهم وعرفانهم، وصرح ممثلا الولايات المتحدة وبريطانيا على حد سواء، السيدان جون فوستر دالاس وب. غوردون ــــ ووكر، أن الدورة الباريسية سيكتب لها الخلود بسبب هذا الإعلان (...) وأعربت السيدة روزفلت عن أملها في أن يصبح الإعلان العالمي «ماغناكارتا الجنس البشري بأجمعه».
ومنذ أكثر من ستين عاماً، وإلى الآن، لقي هذا الإعلان ما لا يمكن قياسه من المديح والتقريظ، والتعظيم، في شتى بقاع العالم، وعلى مختلف المستويات، حتى أن الأمين العام الأول لمنظمة الأمم المتحدة، تريغفي لي، لدى وضعه الحجر الأساس لمقر هذه الأخيرة الدائم في نيويورك، في 24 تشرين الأول 1949، دسَّ في هذا الحجر نسخة عنه، قائلاً: «إن هذا الإعلان يضع مثالاً للحكومات يستطيع الرجال والنساء من أي عنصر، أو لغة، أو لون، أو معتقد، أن يحتكموا إليه كلما انتُهكت حقوقهم، كما أن دولاً كثيرة استشهدت به أو أدخلت بعض مواده في دساتيرها، فيما ورد في مقدمة الدستور اللبناني التزامُ لبنان به.
ولكن ما يهمنا، خاصة، تسليط الضوء عليه، إنما هو إفراط حكومات لبنانية عديدة، ومسؤولين وكتّاب ومفكرين لبنانيين لا حصر لهم، في إبداء أقصى درجات الاعتزاز بالدور الذي اضطلع به مندوب لبنان آنذاك إلى المنظمة الدولية، شارل مالك، في وضع الإعلان وإقراره. حتى أن أحد هؤلاء، غسان تويني، وصلت به حميَّة التبجيل والتعظيم حد القول، مؤبِّناً الشخص المذكور، في اليوم الذي تلى وفاته (جريدة النهار، 29 كانون الأول 1987) إنه كان «عملاقاً أكبر من وطنه»(!!!)، مضيفاً: «صار لبنان الصغير كبيراً لأنه حاجم العالم وجعل نفسه شريكاً في مصيره، لا متسكعاً على أبوابه، ينتزع بالكلمة الحق حقَّه في تقرير مصير الإنسان».
وأضاف أيضاً، بصدد الأيام التي كان لبنان ممثَّلاً فيها بشارل مالك، أنها «كانت أيام الزهو والعز... بل أيام الإيمان العظيم بلبنان يعود لبنانَ، كما كان في أبهى تاريخه، برجال كالأنبياء يحاكون التاريخ»(!!!).
لبنان هذا هو نفسه، الذي تعامل مع مسألة حقوق الإنسان، على مدى 62 عاماً، بالتمام والكمال، بأقصى درجات الازدراء والخيانة والنفاق، في ما يتعلق تحديداً بالموقف العملي من ذلك الجزء من الشعب الفلسطيني، الذي لجأ إليه، سواء خلال نكبة عام 1948، أو بعد هزيمة حزيران 1967، أو في أي وقت آخر. ليس فقط على صعيد لبنان الرسمي، بل أيضاً، للأسف الشديد، على صعيد جزء هام جدّاً من قواه السياسية، وحتى يمكن القول، من شعبه!
كانت هناك دائماً إمكانيةُ تجنيس للأوساط المتمولة ضمن اللاجئين الفلسطينيين، بصرف النظر عن انتمائهم الطائفي
لقد كان مخزياً، بالتأكيد، ما حصل في البرلمان اللبناني، قبل أسابيع قليلة، حين انقسم أعضاؤه على أساس طائفيّ شديد الفجاجة، ومن دون أدنى حسٍّ بالحياء، خلال نقاش مسألة الحقوق المدنية والإنسانية للفلسطينيين المقيمين فوق الأراضي اللبنانية. وبالطبع لا نجد حاجة لاستعادة تصريحات شتى صدرت منذئذ، من أطراف عديدين في اليمين المسيحي، بوجه أخص، تبارى في سياقها ممثلون للتيار الوطني الحر مع ممثلين لحزبي الكتائب والقوات اللبنانية، في الدفاع عن أسباب متشابهة لمنع تلك الحقوق عن فلسطينيي لبنان، الذين ولدت غالبيتهم الساحقة على أرضه. وعلى رأس تلك الأسباب الخشية الكاذبة من أن يؤدي منحهم إياها إلى... التوطين! علماً بأن حصولهم عليها، وهو حق تعترف لهم به كل المواثيق الدولية، يسهم، على العكس، في تحسين شروط نضالهم لأجل العودة إلى وطنهم الأصلي، فلسطين.
في الموقف المخجل والمفجع والمحزن، في آن معاً، الذي طالما وقفته الدولة اللبنانية، ومعها قوى وفعاليات سياسية عديدة، حيال حقوق الشعب الفلسطيني داخل لبنان، الكثير الكثير من الدجل والنفاق، علماً بأن هذا الموقف ينعكس سلباً، وحتى بصورة كارثية، على أوضاع مئات الألوف من الكائنات البشرية التي تستحق بالضبط مثلها مثل غيرها من الناس، ما تنص عليه المواثيق الدولية، ولا سيما شرعة حقوق الإنسان، من حرص على ضمان عيشها «عيشة تليق بالكرامة الإنسانية»، حسبما تنص على ذلك المادة 23 من الشرعة المشار إليها، علماً بأن المادة الأولى من هذه الأخيرة تشدد على أن جميع الناس يولدون «أحراراً ومتساوين في الكرامة والحقوق»، فيما الواقع السائد منذ 62 عاماً في مخيمات اللجوء في لبنان، هو أبعد ما يكون عن ضمان هذه الكرامة؛ وهو ما أمكن أن يلاحظه، فضلاً عن كتلة مؤثِّرة من اللبنانيين الشاعرين بأقصى درجات الاشمئزاز من وضع لا يليق بأبسط مقوِّمات احترام الحياة الإنسانية، كثيرون من الأجانب الذين قُيِّض لهم أن يزوروا هذه المخيمات ويطَّلعوا على أحوالها المزرية، ويكتب العديدون منهم في وسائل إعلام بلدانهم، شاجبين ومستنكرين.
هذان الدجل والنفاق يظهران بين ما يظهران فيه، على صعيد قضية التوطين، التي بلغ الأمر بالداخلين في لعبة تضخيمها وتعظيم خطرها، إلى حدود اعتبارها خطراً داهماً، درجةَ الضغط لتعديل الدستور اللبناني، في خريف عام 1990، لإدخال بند إليه ينصُّ على ضرورة الحيلولة دون حصول هذا التوطين للاجئين الفلسطينيين في لبنان. ولا سيما بحجة تداعيات ذلك على التوازنات الديموغرافية (المقصود الطائفية) في المجتمع اللبناني. هذا مع العلم بأن القوى المسيطرة في الدولة لطالما تعاملت مع هذه المسألة تعاملاً استنسابياً لا علاقة له إطلاقاً بمضمون البند المنوَّه به وروحيته، وذلك منذ السنوات الأولى لموجات اللجوء الفلسطيني إلى لبنان. هكذا جرى تسهيل تجنيس أعداد واسعة من هؤلاء اللاجئين على أساس انتمائهم الطائفي، في المرحلة التي كانت لا تزال تشهد هيمنةً واضحة من جانب البورجوازية المسيحية على مقاليد السلطة. أكثر من ذلك، وبغضِّ النظر عمن كانت له الهيمنة، أو آلت إليه، فلقد كانت ثمة باستمرار إمكانية تجنيس للأوساط المتمولة، ضمن اللاجئين الفلسطينيين، بصرف النظر عن انتمائهم الطائفي أو المذهبي.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإذا نظرنا إلى مسألة تحريم الحصول على الجنسية اللبنانية على فئة معينة من الناس، نلاحظ بسرعة كم أن ذلك يتناقض بالكامل مع شرعة حقوق الإنسان، التي يعلن لبنان التزامه بمضمونها، ومن ذلك مع المادة الثانية فيها، التي تنص على التالي:
«من حق كل إنسان أن يتمتع بجميع الحقوق والحريات المبيَّنة في هذا الإعلان، من دون تمييز من أي نوع، كالتمييز بسبب العنصر، أو اللون، أو الجنس، أو اللغة، أو الدين، وبسبب الرأي السياسي أو غيره، وبسبب الأصل القومي أو الاجتماعي، وبسبب الملكية، أو المنبت، أو أي وضع آخر». وبالطبع، فحتى الحق في الجنسية هو واحد من تلك الحقوق ولا يمكن أن يكون أيُّ اعتبارٍ حافزاً مبرِّراً لمنعه، أقلُّه من حيث المبدأ، ولا سيما على غالبيةٍ ولدت وترعرعت وعاشت حياتها كلها فوق الأرض اللبنانية.
الغالبية الساحقة من فلسطينيي الشتات يعبِّرون دائماً عن تطلعهم إلى ممارسة الحق الذي نص عليه القرار 194، أي حق العودة
هذا على الصعيد القانوني، ولكن أيضاً الإنساني البحت، ونقول تكراراً: «من حيث المبدأ». ولكن عدا ذلك، وإذا تجاوزنا هذه المسألة، على سبيل الجدل، فإننا نعرف تماماً أن الغالبية الساحقة من فلسطينيي الشتات، الموزعين عبر أصقاع العالم، وحتى الحاصلين على جنسيات بلدان مختلفة في أوروبا وأميركا وأستراليا وغيرها، يعبِّرون دائماً عن تطلعهم إلى ممارسة الحق الذي نص عليه القرار 194، الصادر عن الأمم المتحدة، في خريف عام 1948، ألا وهو حق العودة إلى قراهم ومدنهم وممتلكاتهم في فلسطين التاريخية. وبخصوص من يعيشون منهم في لبنان، ولا سيما تلك الشرائح المحرومة من أبسط متطلبات العيش الكريم، فهم يُعربون باستمرار عن هذه الرغبة، لا بل عن هذه الإرادة، ويؤكدون دائماً أنهم لا يتوقون أبداً للحصول على الجنسية اللبنانية، تماماً كما أعلن مسؤول الجبهة الشعبية في لبنان، مروان عبد العال، خلال كلمته في تظاهرة 26 حزيران الماضي، أمام مبنى الإسكوا، وأن جُلَّ ما يريدونه هو ممارسة حقوقهم في التملك والعمل والضمانات الاجتماعية، وما إلى ذلك مما يمثّل جوهر المقولة المسماة حقوق الإنسان، بحيث يسهّل ذلك نضالهم المستميت للعودة ذات يوم إلى وطنهم الأصلي. عودة يعتقد كثيرون أنها باتت حلماً خرافياً، ولكن التغيرات التي يشهدها العالم والتي يُفترَض أن تستمر لمصلحة المزيد من عزلة الدولة الصهيونية، على عكس الظاهر السطحي المتمثل في المزيد من التعنت والغطرسة لديها، ربما تمثّل مدخلاً، في العقود القليلة المقبلة، لجعل مطلب العودة يجد طريقه إلى التنفيذ.
لأجل ذلك، يصبح واضحاً مدى البؤس الذي لا يلازم فقط تحليلات القوى الطائفية المسعورة ضمن اليمين البورجوازي المسيحي، بل يعبِّر أيضاً عن عجز قواعد هذا اليمين الشعبية عن استشراف مخاطر التحاقها بأوهامه وخزعبلاته، التي لا تتناقض فقط مع متطلبات التضامن الإنساني مع المظلومين والمعرَّضين للقهر والاستبداد وأقصى الاستغلال والإساءة إلى حس الكرامة لديهم، بل حتى مع المصالح الفعلية لتلك القواعد، ومع مستقبلها في هذا الشرق.
في كل حال، إن التشدُّد في نقد هذه القوى، بوجه أخص، لا يعني المراهنة بالمقابل على صدق اليمين الطائفي المقابل، في دعمه الحقوق المدنية والاجتماعية للفلسطينيين، التي يُفترض لأجل فرض إقرارها، تالياً، خوض معركة قاسية ومديدة من جانب الجماهير المعنية مباشرة، ولكن أيضاً من جانب القوى اليسارية والديموقراطية اللبنانية، وبوجه أخص جزء أساسيّ من اليسار الشيوعي، الذي لم يظهر لديه إلى الآن القدر الكافي من الجاهزية والاستعداد لأداء هذه المهمة، بالتفاني والإخلاص المطلوبين. وهو ما أظهرته، من دون أدنى التباس، في تظاهرة 26 حزيران الماضي، ضحالة مشاركته فيها.
على عكس حالة الركود والانتظار المديدين، التي طبعت سلوك جماهير المخيمات الفلسطينية اللبنانية، بخصوص المطالبة الفاعلة بأبسط حقوقها المدنية والاجتماعية والإنسانية، شكَّلت تظاهرة 26 حزيران ظاهرةً جديدة واعدة، على الرغم من ضحالة التعبئة التي رافقتها، بحيث لم يستطع منظموها أن يجعلوها أشد كثافة وأعظم تأثيراً، فيما لو بذلوا الجهد الكافي لكانوا قد تمكنوا من حشد أضعاف أضعاف الذين انخرطوا فيها، ولكانوا نجحوا في دفع القوى السياسية اليسارية والديموقراطية والوطنية اللبنانية إلى أن تحشد هي الأخرى الآلاف من المتعاطفين والمتضامنين اللبنانيين مع قضايا فلسطينيي لبنان. وهو ما يستدعي إعادة النظر في طبيعة التحركات المقبلة وحجمها، بما يخدم هذا المنظور، ويجعل الحكومة والبرلمان اللبنانيين ينصاعان لإرادة جمهور واسع من قاطني هذا البلد، ليس فقط للتكفير عن جريمة طال أمدُها، بحق الشعب الفلسطيني وإرادة العودة لديه، بل أيضاً لأجل تسريع حركة التاريخ، في اتجاه تقريب أُفق كان يبدو، في العقود الماضية، كما لو أنه يبتعد باستمرار.
* محامٍ لبناني