وائل عبد الفتاحمحمد حسنين هيكل في ليبيا. الزعيم الليبي معمر القذافي أرسل له طائرة خاصة. يبدو الأمر استشارة سريعة في سيناريو انتقال الحكم. هذا ما تقوله الكواليس. القذافي الماهر في تفكيك الدولة، يريد أن ينقلها إلى «شخص» آخر. يريد نقل الدولة لا مهارة التفكيك. ومرجعية القذافي مصرية. ناصرية بالتحديد. دولة جنرالات التحرير في مرحلة الاستقلال، ربما استقلال من الاستقلال نفسه أو إصلاح ما أفسده الاستقلال. بماذا سينصحه هيكل؟ القذافي اختار طريق التطرف. صنع كياناً لا يشبه غيره، استبداد لكنه فوضوي، وبدت ٤٠ سنة من عمر الثورة غير كافية ليتوقف الاستعراض الذي يجعل الزعيم فوق الدولة، والثورة. لكنه الزمن يطرح أسئلته الآن: ماذا بعد القذافي؟
في مصر سؤال مماثل، رغم اختلاف المسار. القذافي سار الطريق إلى آخره، فصّل البلد على مقاسه، وصعد على جثته إلى أعلى. ماذا سيورّث خليفته؟ كيف سيملأ أحد مساحته؟ أين المؤسسات التي يمكن أن تُبنى الآن في حضوره؟ أسئلة يصعب على هيكل، أحد مهندسي الدولة الناصرية، أن يجد لها حلولاً. فهو تربية مسارات محددة، تتسع لاستبداد الجنرالات التقليدي، لكن ليبيا خارج التصنيف. هل تفكر في أن تعيد التجربة من بدايتها، أم ستكون ثورة على الثورة الدائمة؟
هيكل لم يستمع أحد إلى وصفة إصلاحه في القاهرة. القاهرة سارت بسرعة أكبر من انتظاره، ومبارك، الجنرال الأخير ربما، لم يترك أذنيه متاحة لخطابات قديمة.
هيكل سأل عن شرعية الدولة، وطالب الرئاسة بقيادة الانتقال إلى دولة مؤسسات، نواتها الصلبة: الجيش. حلم الدولة المدنية بنواة عسكرية انتهى من العالم كله إلى كوارث. الموديل الأخير في أميركا اللاتينية باق على سبيل التذكرة الساخرة.
لم يعد مقبولاً باسم الاستقلال تحوّل الدولة إلى ثكنة عسكرية، تحكمها شرعية الغلبة. العرب بقيادة مصر اختاروا موديلاً عجيباً يتغطّى فيه العسكري بملابس مدنية، لعبة إخفاء مدهشة يتحول فيها الجنرال إلى صاحب مقام لا تستمر البلاد من دونه.
الحزب الوطني الحاكم في مصر يروّج خرافة واقعية، وهي أن مبارك هو سرّ استقرار مصر. رئيس تحرير الأهرام سار أبعد من ذلك إلى كوميديا استنطقت الرئيس التركي عبد الله غول، في حوار على هامش زيارته القاهرية، قال فيه إن العلاقات بين مصر وتركيا على ما يرام بفضل الرئيس مبارك. ونفى وجود تنافس إقليمي، أيضاً بفضل الرئيس مبارك.
مبارك لم يلعب على جاذبية شخصية، لكنّ صحافته تضفي عليه كاريزما الرؤساء، وأولياء الحكم الدائمين، وهنا يلتقي مبارك والقذافي في اقتراب النهايات.
هما على حواف انتقال صعب، أو خطر بتعبير أدق. ماذا سيحدث في دولة تسلّمها الجنرالات من استعمار أجنبي وسلّموها إلى استعمار «وطني» غير معلن؟
استقلال قاد إلى كيانات خرافية يحلب الاستعمار القديم ثرواتها، مع نسبة معقولة للاستعمار الوطني. هذه هي الصورة، رغم فقاعتها، إلا أنها أقرب إلى توصيف اللحظة الراهنة، بحرقتها.
ماذا سيفعل خليفة الجنرال في تركة الفساد الكبير؟
الفساد ينخر في أساس البلاد أكثر ممّا فعل الاستعمار التقليدي. احتلال الفساد أكثر مرارة، ويفرغ البلاد من طاقتها الحيوية. بلد فارغ إلا من الفساد وأمنيات شاردة في دولة ليس لها ملامح. هذا ما بقي من دول الاستقلال التي بدلاً من أن تلقي إسرائيل في البحر، ألقت شعوبها في بحار من مشاعر هائجة، وحناجر حاكمة، وشعور مستقر بالخذلان والعار. شعور لا يمكن أن يصنع دولة جديدة، بل سيخرج ساعة الغضب ليكسر ما بقي من دول قائمة.
أي مستقبل؟ يقول المبشّرون الأميركيون إن مصر مقبلة على وراثة مقنعة يحتل فيها الابن مقعد الأب. لا سيناريوهات في ليبيا. فراغ كبير، يحاول الخلفاء أن يشغلوه بنثار حكايات. لا أحد يقوى على الحديث عن خلافة أو وراثة أو أي شيء، فالعقيد لا يحتل منصباً، بل هو المنصب.
هل سيقود القذافي ثورة على نفسه؟ هل سيقول له هيكل ما أغلق مبارك أذنيه أمامه؟
الاستخبارات الأميركية في القاهرة تفتح ملفات متعددة، وتنير الطريق أمام سعاة الخلافة الهادئة. البرادعي رست سفينته على شاطئ فرعي، أقيم له مقام الدعاة والأولياء الصالحين. لا يزال هو الأخطر، لكن وفق قانون المفاجأة، ليس الواقع الذي يسير إلى مصير التوريث القديم، إلى جنرال خفي، أو جديد إلى الابن المتلهف، وساعتها ستكون هذه بداية سقوط دولة الاستقلال وشرخها الكبير.