في كتابه «يوسف بيدس وإمبراطورية انترا» (دار النهار 2014) يعتبر كمال ديب أنّ يوسف بيدس، وإمبراطورية «إنترا»، كانا ضحايا الهجمة «النيوليبرالية» التي قادتها الولايات المتحدة في المنطقة العربيّة، لضرب الرأسمال الوطني، ومنع بيدس من «لبْننة» الاقتصاد. على الرّغم من أنّ «النيوليبراليّة» حينها، أيّ في عام 1966، كانت حبيسة النقاشات الجامعيّة. فأوّل «إصلاح» اقتصادي «نيوليبرالي» حصل في التّشيلي عام 1973، أيّ بعد 7 سنوات على سقوط امبراطورية إنترا.
صعود وسقوط إمبراطورية إنترا

كانت البداية في بيروت، عام 1951، عندما أطلق يوسف بيدس، مع شركاء له «بنك إنترا» برأسمال بلغ مليونيّ ليرة لبنانيّة. خلال الستينيات ضاعف «إنترا» رسملته ثلاث مرات، من 6,4 مليون ليرة إلى 20 مليون ليرة. وأصبح للمصرف فروع في كلّ أنحاء لبنان، وفي العديد من البلدان العربيّة والأجنبيّة. كذلك افتتحَ بيدس مؤسّسات مصرفيّة، وشركات استثمار في العديد من البلدان.
في بداية عام 1966 كان «بنك إنترا» ومتفرّعاته، في أوج النجاح، تجاوزتْ موازنته خمسة أضعاف موازنة الدولة اللبنانيّة. وكان أكبر مصرف من بين 99 مصرفاً، يستحوذ على 40% من مجمل ودائع القطاع المصرفي اللبناني. بلغتْ نسبة احتياطه، وقيمة موجوداته، 56% من النظام المصرفي اللبناني، يفوق ثاني أكبر مصرف في لبنان بمقدار 11 ضعفاً. من الناحية السياسية، يقصد ثلث نواب المجلس النيابي «بنك إنترا» نهاية كل شهر ليقبضوا المال، وكان للبنك خمسة وزراء في مجلس الوزراء.
في 15 أيلول عام 1966 خلص تقرير «باركر» (الذي أعدّ بتكليف من مجلس إدارة إنترا) إلى أنّ «بنك إنترا» يواجه مشكلة سيولة مستعصية. كانت نسبة السّيولة 3,5% وهي نسبة متدنية، غير مسموح بها في أوروبا والولايات المتحدة. لاحظ التقرير أنّ سحوب الزبائن قدْ أصبحت يوميّة، وحذّر أنّ هذه المعلومات كافية لإلحاق أكبر أذى بـ«إنترا»، إذا ما سُرِّبتْ إلى الرأي العام. ببساطة، شكّلتْ استثمارت «إنترا» الطويلة الأمد، التي يصعب تسييلها بسرعة، سبب بلوغه حافة الهاوية.
طلب يوسف بيدس من رئيس الجمهورية آنذاك، شارل حلو، دعمَه لنيل قرض من مصرف لبنان، لمنع أزمة سيولة أصبحت متوقعة. ماطلَ رئيس الجمهورية، ورفضت الحكومة، وعمل مصرف لبنان على تشويه صورة «إنترا»، عبر الترويج أنّ البنك على حافة الإفلاس. بالتوازي كانتْ النخبة الحاكمة، المعادية لبيدس، تبثّ إشاعات إفلاس «بنك إنترا» وتدعو المودعين إلى سحب ودائعهم. رغمَ أنّ الوثائق أظهرتْ البنك في حالة جيدة تنقصه فقط السّيولة الموقتة، أمّا الحكومة فلم ترفضْ إقراض «إنترا» فحسب لتلافي الإنهيار، بل رفضتْ الاستماع لمحامي البنك.
منذ بداية الأزمة هدفتْ الحكومة إلى وضعَ يدها على امبراطورية «إنترا»، ليس بهدف النفع العام، بل لتحقيق مصالح النخب الحاكمة بتقاسم هذه الإمبراطورية. لم تدّخرْ حكومة عبد الله اليافي (كذلك حكومة رشيد كرامي) جهداً لذلك، منْ الترهيب، إلى التزوير، إلى الاعتقالات. استخدمتْ مختلف الوسائل بهدف تحطيم يوسف بيدس، وتقاسم إمبراطوريّته.
في مطلع تشرين الأول، سحبتْ بعض المصارف، الوطنية والأجنبية، ودائعها من «بنك إنترا»، تبعها صغار المودعين الذين انتابهم الذعر. بدأت السّحوبات ببطء، ثمّ تحوّلتْ إلى تظاهرات أمام فروع «إنترا» في لبنان والخارج. ما هي إلا أيّام حتى أغلق «إنترا» أبوابه، وأعلن إفلاسه لاحقاً.

مقاربة لا مؤامراتية

بالرغم من سعي الباحث الدؤوب لإثبات أنّ انهيار «بنك إنترا»، وتحطيم عبقريّة بيدس، كانا نتاج مؤامرة كونيّة تقف وراءها السياسات «النيوليبرالية» الأميركية، والنخب المحليّة الفاسدة، إلا أنّه قدّمَ بنفسه مقاربة تفسِّر الانهيار بأسبابه الواضحة، وبشكلٍ واقعي ينقض فكرة المؤامرة.
في عام 1964 اكتشفَ فريق من الخبراء، مكلّف بإعداد مشروع إصلاحي لإمبراطورية إنترا، أنّ «إدارة إنترا كانت بدائية، ومبنية كيفما اتّفق من المعالجات الآنيّة، وفق قرارات بيدس». كانت المجازفات بالودائع والرأسمال من سمات البنك، فقط لأنّ فرصاً ظهرت، أو لأنّ بيدس أراد الاستثمار. «استندتْ إمبراطورية إنترا إلى نجاح أو سقوط رجل واحد، هو يوسف بيدس. إذ افتقدتْ إنترا آليات ضروريّة تعتمدها عادةً المؤسسات المصرفية العريقة لتحفظ استقرار البنك، لتمنع الهزّات ولتعويمه في أقصى الظروف. من تلك الآليات الاحتفاظ باحتياطٍ من العملات، وبنسبة ودائع صحيّة، ضبط سياسات القروض والتحفّظ عن الاستثمار خارج إطار استثمارات المصرف». أثبتتْ التحقيقات أنّ البنك، ولعدّة فترات، لم يحتفظ بأكثر من نسبة 5% سيولة، بينما القانون اللبناني يفرض نسبة 25% كحدّ أدنى، لتلبية العلمليات اليوميّة. لذا كان إنترا على حافة الهاوية، وسقوطه مسألة وقت، من دون الحاجة لمؤامرة، وهذا ما حصل بعدَ رفع سعر الفائدة في أوروبا والولايات المتحدة. بحيث انتهى مشروع بيدس الرئيس، أيّ لعب دور الوسيط بين إمارات النفط والأسواق المالية الغربية. كان المودعون العرب حجر الرّحى في استراتيجيّة بيدس العالمية. مع ارتفاع أسعار الفائدة في الغرب بدأت الرساميل تغادر بيروت (ليس فقط بنك إنترا) إلى مصارف واستثمارات غربيّة. حيث بلغتْ معدّلات الفوائد في الغرب حدود 12%، هو رقم قياسي مقارنة بمعدلات الفوائد المعطاة في بيروت، التي لا تتجاوز 4%. كان على إنترا أنْ يراجع استراتيجيته، فيقلّص استثماراته الطويلة الأمد، لكنّه لم يفعل.


منذ بداية الأزمة هدفتْ
الحكومة إلى وضعَ يدها على امبراطورية «إنترا» لتحقيق
مصالح النخب الحاكمة

في حديثه عن الشخصية المتهوّرة ليوسف بيدس، يقدم الباحث ما يناقض فكرة المؤامرة، «لم يكنْ أحد يعلم ما يدور في رأسه، لم يضع حتّى مستشاريه وإداريّي البنك في الصورة، حول ماذا يجري، وماذا يخطط لتوسيع إمبراطوريته. كان ينقل إمبراطوريته معه، ولم يثق حتّى بنوّابه في الرئاسة. يعتمد على الغريزة، والحدس، واتخاذ قرارات استثمارية سريعة ضدّ التيار السائد». لم ينحصرْ تهوّر بيدس في إدارته للبنك، أو في علاقاته النسائية. فقد «خسر في ليلة واحدة مبلغاً خيالياً في كازينو Divonne السويسري، بلغ مليونيّ فرانك سويسري، لم يسددْه، بقي ديناً على دفاتر شركة Bedintra التي يملكها بيدس. وثمّة ديون أخرى في ظروف مشابهة تكررتْ مع Banco di Roma وتشايس منهاتن». كذلك استدانَ بيدس عبر «علي عرب وهاني سلام مبلغ مليونيّ دولار من بنك الكويت والعالم العربي، كان سيستعمله لشراء عقارين باسم إنترا في باريس. لم يوجد أيّ أثر أين ذهب المبلغ».انطلاقاً من تهوّر بيدس رفضَ أعضاء مجلس إدارة «إنترا» كفالة أيّ قرض حكومي، لأنّهم يجهلون التزامات بيدس خارج لبنان (بحسب شهادة فؤاد بطرس).
تمّ الحصول على معظم أصول البنك الطويلة الأمد، والعقارات، بحسوم والتزامات قصيرة الأمد، وخاصّة ودائع تحت الطلب. هكذا أصبح استمرار نجاح بيدس مرتبط باستمرار الاستدانة. وبعكس فرضيّة الباحث، يبدو بيدس متاثراً بالممارسات «النيوليبرالية» في إدارة إمبراطوريته. ما يعيدنا بالنقاش إلى أطروحة الكتاب الرئيسة، حيث يُحاجج الباحث بأنّ القضاء على بيدس «اندرجَ في سياق حملة لإفشال روّاد الرأسمالية المحلية، ليكون ممنوعاً على لبنان أنْ يبني اقتصاده الوطني، ويكون حراً، سيداً، ومستقلاً». بالنسبة للباحث، رفعَ لواء الرّسمالية المحلية شخصيات من أمثال ميشال شيحا، شارل قرم، إميل البستاني، ومنير أبو حيدر.
يتفاجأ القارئ كيف يناقض الباحث فرضيته عندما يستعرض النشاطات الاقتصادية للأسماء المطروحة. فهي لا تعبّر عن رؤية تنموية مناهضة، أو مستقلة عن الغرب، إذْ تراوحتْ أعمالهم من الاستحواذ على وكالات لمنتجات غربيّة، إلى ملكية شركات يقوم نشاطها الأساسي على تنفيذ تعهّدات للدول الغربية، مثل شركة «كات»، التابعة لـ إميل البستاني. أما منير أبو حيدر فاشتهر بعلاقاته المتميزة مع الأميركيين، واستعداده العلني نقلَ سلاح للجيش الفرنسي إلى الجزائر، إبّان الثورة الجزائرية، عبر شركة طيران TMA التي يملكها. كان إميل البستاني يربط نجاح العلاقة مع الغرب بنسيان الماضي. المفارقة المدهشة أنّ الباحث يستعرض هذه المعلومات دون الملاحظة أنّها تناقض فكرته عن رواد الرأسمالية الوطنية، خصوصاً أنّ الدولة اللبنانية لم تعارض أنشطتهم.
ما لم يذكره الباحث في حديثه عن شارل قرم وميشال شيحا، هو انتماؤهم «للفينيقيين الجدد». فقد أصدر شارل قرم «المجلة الفينيقية» التي هدفتْ إلى إحياء «فينيقيا» هويةً ثقافية، بل قومية، للتمايز عن العرب، ونموذجاً لبناء اقتصاد خدمات ذات وجهة خارجية. كما كان قرم رسول الدعوة إلى لبنان المسيحي، ويرى في المسلمين خصوم دين وتاريخ، يفتقدون الولاء للكيان اللبناني. لغة المسيحيين هي الفرنسية، أما اللغة العربيّة فرآها لغة آسيوية، فرضتْ على المسيحيين اللبنانيين بالمجازر والرعب. بالتوازي، رأى ميشال شيحا أن المبدأ الأول بالسياسة الخارجية هو أنْ يرتبط لبنان بالقوة الغربية المهيمنة على المنطقة. كيف يندرج «المشروع الفينيقي» في مشروع رأسمالي وطني مناهض للمصالح الغربية؟ كيف يمكن الجمع بين يوسف بيدس العروبي «الداعم للناصريّة» وشارل قرم الفينيقي، المنكر للعروبة؟
يرى القارئ النجيب بوضوح، إذا ما تجاوزَ عشرات الصّفحات، التي تناقش أموراً لا علاقة لها بعنوان الكتاب، أنّ الباحث لم يكنْ أسير أطروحة توفيق كسبار عن الاقتصاد اللبناني فحسب (والتي ترى النخب في مرحلة ما بعد الاستقلال قد ساهموا، عن عمد، في إجهاض إمكانية نهضة صناعيّة، وعملوا على تهميش الزراعة لصالح الخدمات) إنّما عمل على إسقاط هذه الأطروحة على إمبراطورية «إنترا» ويوسف بيدس، وعلى من يظنهم «روّاد الرأسمالية الوطنية». لكن في مسعاه هذا قدّم للقارئ ما يقنعه بالعكس.
*باحث لبناني