ياسين تملالي *انتهى المونديال. فرحت إسبانيا وحزنت هولندا وأثبتت جنوبُ أفريقيا فعاليتَها في قمع الجريمة عندما يتعلق الأمر بحماية السياح، وبرهن سيب بلاتير على مواهبه الخارقة في استغلال كل ما يمكن استغلالُه (بما في ذلك صورة نيلسون مانديلا، الذي طيف به في الملعب يوم النهائي على عربة كهربائية) لتصوير كأس العالم موعداً رياضياً يقرّب بين الشعوب (تصويرها بهذا الشكل الزائف ضروريٌ لتلميع صورة الفيفا، إحدى أغنى الشركات المتعددة الجنسيات وأعتاها).
وفي إطار إدارته البارعة للعلاقات العامة، أشاد بلاتير بحسن تنظيم جنوب أفريقيا لهذه التظاهرة، ولم يرد في كلامه، وهو يمتدحُ قادةَ المؤتمر الوطني الذين أطاحوا الأبارتيد، أي اعتذار عن كون الفيفا لم تقتنع بواجب طرد الفيدرالية الجنوب ــــ أفريقية (العنصرية) من صفوفها إلا سنةَ 1976، أي بعد أحداث سويتو وتعميم الإدانة الدولية لنظام التمييز العرقي.
وأدلى بلاتير بتصريحات عاطفية أخرى وهو يزور سويتو قبل المقابلة النهائية. قال «إننا تحتفلُ اليومَ بالإنسانية» وأضاف متأثراً: «كان مهماً جداً بالنسبة إلي أن أقابلَ ويني مانديلا والقس ديسموند توتو». ويُرجَح أنه كان صادقاً في كلامه كل الصدق، فمقابلةُ هاتين الشخصيتين قد تُنسي صفقات مشبوهة كثيرة أبرمتها الفيفا في إطار المونديال، منها صفقة منحت احتكارَ تنظيم أسفار المشجعين إلى جنوب أفريقيا لشركة «ماتش هوسبيتاليتي» (تساهم في رأسمالها شركة «إن فرونت سبورتس أند ميديا» التي يديرُها أحد أقارب بلاتير وتحتكرُ حقوقَ التغطية التلفزيونية لكأس العالم).
وأثبت مونديال 2010 بما لا يقبل الشكَ أن كرةَ القدم أصبحت تجارةً وأن منافساتها، القارية منها والدولية، أجدرُ بأن تُقارَن بكرنفالات لا بتظاهرات هدفُها تناقلُ القيم الإنسانية بين الأجيال وحثُ البشر على الاعتناء بأبدانهم. مشاهدةُ «العرس الإنساني» والتشبعُ بهذه «القيم» مثلاً ليسا متاحين إلا بمقابل يعجز عن دفعه الكثيرون فيُجبرون على مشاهدة المباريات في المقاهي أو الميادين العمومية، وسط ضجيج السيارات وأدخنتها، أي في ظروف يتعسر وصفُها بالصحية.
ويعتمدُ تحويلُ المونديال إلى عرض مسرحي ــــ كرنفالي على ابتداع أحداث جديدة (رياضية وغير رياضية) كل ساعة بل كل دقيقة، وتصوير كسب المقابلات أو خسارتها كمسألة حياة أو موت. وبطبيعة الحال، فإن الكم الهائل من المعلومات والصور التي تبثها التلفزيونات صباحَ مساءَ خليقٌ بأن يُنسيَ المشاهدين سلبيات وعيوباً واضحة للعيان، منها ما رأيناه في جنوب أفريقيا من حرمان فقرائها من حضور «عرس كروي» يجري على أرضهم وتشديد العقوبة على «الجانحين» و«المجرمين» حمايةً للسياح، وانعدام الروح الرياضية في مباريات (كالنهائي) كثيراً ما تحولت إلى صراع جسدي لا صلة له بالرياضة (بلغ عددُ الإنذارات في مقابلة النهائي 13 إنذاراً منها 8 للفريق الهولندي).
ويمكنُ القولُ إن مونديال 2010، رمزياً على الأقل، عمّق الشرخَ الاجتماعي في جنوب أفريقيا بدلَ المساهمة في رأبه، لا لأن تذاكرَه لم تكن في متناول الفقراء (الفيفا حددت أسعارها دون مراعاة مستوى دخولهم) فحسب، بل كذلك لأن حكومة جاكوب زوما لم تبذل في تأمين الأحياء الشعبية ما بذلته من جهد ومال في تأمين الملاعب. «أشعرُ بالحزن حين يحضرني ما فعله بعضُ البشر بعضهم ببعض»، قال بلاتير وهو يزور قلعة مقاومة الأبارتيد سويتو. هل فكر في ما فعله بعض محبي الكرة (إدارة الفيفا) بعضهم بالآخر (الفقراء والمعدَمين) ببيع حقوق نقل المقابلات لقنوات لا تستهدف ترقية الرياضة بقدر ما تستهدف الربح؟
ونتج من تحول المونديال إلى تظاهرة مسرحية ــــ كرنفالية ترسّخُ اقتناع اللاعبين بأنهم أشخاصٌ فوق العادة وأنهم، كالأعلام الوطنية، رموزُ بلدانهم، حتى وإن كوفئوا على وطنيتهم بسخاء ولم يبذلوا مقابل ما ينالون من أموال سوى دقائق من وقتهم للظهور في كليبات مناهضة للعنصرية لا يهتم بها أحد اهتمامَه بدعاية بيبسي كولا وكوكا كولا وأديداس. وكيف لا يقتنعون بأنهم ملوكُ العالم وأباطرته وأكثر تصريحاتهم سطحية («سنهزمهم» أو «الفريق الفلاني فريق متوسط» أو حتى ما هو تحصيل حاصل، مثل «أتمنى أن نفوز» و«أتمنى ألا ننهزم»...) تتحولُ بقوة سحرية إلى دُرر لم يعرف لها مثيل، تتنازعها وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة والإلكترونية؟
هذه المقدرة على صناعة «الحدث» من أتفه الأحداث هي نفسُها التي حوّلت تنقلات الأخطبوط بول اللزجة وإيماءات الببغاء ماني المتشنجة إلى حركات سحرية فيها من الرهبة والجلال ما في حركات العرافين الأسطوريين وهم يقرأون الغيبَ في خطوط الرمل أو يسبرون أغوارَه في مسارات النجوم.
ونتيجةً لهذه «المسرحة» البالغة للرياضة ازداد اهتمامُ السياسيين (الانتهازي) بتشجيع فرقهم (أنجيلا مركيل، بالرغم مما يعرف عنها من جدية، كادت تطيرُ فرحاً بأهداف ألمانيا الأربعة ضد الأرجنتين) وتحوّلت مبارياتُ المونديال إلى مناسبات اجتماعية يظهر فيها المشاهير (نشك في أن نجومَ هوليوود، الذين توافدوا على استادات بورت اليزابيت وجوهانسبورع يفقهون شيئاً في قواعد كرة القدم).
كذلك، أصبحت «نوعية أداء» الفرق الوطنية قضايا وطنية، فرأينا المدرب الفرنسي ريمون دوميناك يشرحُ للنواب، في جلسة سرية مغلقة، أسبابَ خروج منتخب بلده من الدور الأول، في وقت الفرنسيون منشغلون فيه بقانون المعاشات الجديد، بل رأينا تنظيماً سياسياً فرنسياً (تجمع الأغلبية الرئاسية) يدعو إلى إصلاح قوانين كرة القدم باستعمال أوسع للفيديو في التحكيم، وكان أحرى به الاهتمامُ بإصلاح نظام مكّن وزيرَ العمل، إريك وورث، من أن يجمعَ طوالَ سنوات ثلاث بين أمانة المال في حزبه ووزارة الميزانية في حكومة صديقه نيكولا ساركوزي.
ولا جدلَ في أن أكثرَ سلبيات تحوّل كأس العالم إلى عرض مسرحي وكرنفال تجاري هي تعمقُ الشوفينيات القومية التي يُفترض في الرياضة أن تساعدَ على تجاوزها. لم يكن من حديث لوسائل الإعلام واللاعبين والمدربين والمشجعين، منذ بدء «عرس الكرة» في جنوب أفريقيا إلى انتهائه، سوى عن الثأر والانتقام وردّ الصاع صاعين، وهو كلامٌ فيه، كما نلاحظ، كثير من رقة الشعور ورهافة الحس الإنساني.
ولا يبدو أن اللاعبين يعيرون اهتماماً كبيراً لمبدأ الأخوة وهم يرفسون بعضهم بعضاً (من سينسى الضربة شبه القاتلة التي وجهها الهولندي نيجال دي يانغ إلى الإسباني كسابي ألونسو في المقابلة النهائية؟) ولا أنهم يكترثون للروح الرياضية وهم يفخرون بلجوئهم إلى حركات غير رياضية لإنقاذ منتخباتهم من الهزيمة (اللاعب الأرغواني لويس سواريز أصبح بطلاً وطنياً بعدما أنقذ مرماه بيده من هدف كان سيؤهل غانا إلى نصف النهائي). كذلك الأمرُ في المدرجات، حيثُ ترفع كلُ مجموعة من المشجعين بفخر كبير علم الدولة ــــ القبيلة التي تنتمي إليها وكأن لا دولة سواها تستحق الذكر.
في حديث لـ«بي بي سي»، قال بلاتير عن كأس العالم 2010 إنها «كانت مليئةً بالمشاعر والانفعالات». كيف لا وقد جنت منها الفيفا أعلى عائدات في تاريخها؟ قد يكون اقتصادُ جنوب أفريقيا قد حقق هو الآخر من هذه التظاهرة بعض الأرباح، لكنها أيضاً كلفته مبالغَ طائلة وستكلفه مبالغَ طائلة أخرى، هي ضرورية لصيانة منشآت لن تستفيدَ منها الممارسة الرياضية الشعبية كثيراً، كاستاد نيلسون مانديلا الذي تتجاوز كلفة صيانته السنوية مليوني دولار، واستاد امتاتا الذي عدَلت الفيفا عن استعماله فذَكّرها عمدةُ المدينة التي شُيد فيها (يومية «ليبراسيون» الفرنسية، 3 و4 يوليو 2010) بأنه سيحتضن قريباً حدثاً أهم من المونديال بكثير، مأتمَ الزعيم نيلسون مانديلا (هكذا).
* صحافي جزائري