سعد الله مزرعاني *اللواء جميل السيّد ينتقل من بيروت إلى لاهاي، ليس مخفورًا، بل مطالِبًا بمحاكمة أولئك الذين أدلوا بشهادات زور أودعته السجن لمدّة تقارب الأربعة أعوام.
نواب في البرلمان اللبناني من حركة «أمل»، ومن «حزب الله»، يعترضون على بنود «الاتفاقية اللبنانية ــــ الفرنسية» ويرفضون ما فيها ورد بشأن «التنسيق في مواجهة الإرهاب» بسبب أنّ مفهوم الإرهاب في نظر لبنان يختلف عما هو عليه في نظر فرنسا.
قبيل ذلك بأسابيع كان الاعتراض على الهبة الأمنية الأميركية المشروطة للبنان، قد بلغ حدود تعهّد رئيس الجمهورية «بالتفاهم مع رئيس الحكومة»، بإيجاد مخرج من شأنه إلغاء ما تنطوي عليه من التزامات لبنانية واشتراطات أميركية. ومعروف أنّ تلك الالتزامات والاشتراطات هي من النوع الذي يسيء للوحدة الوطنية وللسيادة اللبنانية، فضلاً عن كونه يتعارض مع منطق الهبة التي تحوّلت إلى اتفاقية بكلّ معنى الكلمة دون أن يطّلع عليها رئيس الجمهورية الذي هو المرجع الدستوري الحصري في التفاوض على الاتفاقيات والمعاهدات بين لبنان والدول الأجنبية.
يمكن أيضًا، تعداد عشرات العناوين السياسية والاقتصادية والأمنية، التي تشير إلى تبدّل الأحوال بعد تبدّل موازين القوى، أي بعد خروج لبنان من دائرة النفوذ الأميركي المهيمن، إلى دائرة المشاركة السورية ــــ السعودية الراجحة باستمرار، لمصلحة الطرف السوري فيها.
بالمقابل، نقع على مشاهد وحوادث صغيرة أو كبيرة، تتلاحق هي الأخرى مكرّسة موقعها في المشهد اللبناني على جاري العادة: شاب يخترق حرم مطار بيروت الدولي وأمنه. يصل إلى مدرج الإقلاع. يجري نحو طائرة سعودية تباشر عملية الإقلاع. يحاول «الصعود» إلى الطائرة عبر عجلاتها. يحمل على كتفيه حقيبة لا أحد يعرف ماذا تحتوي وماذا سيفعل صاحبها بها أو من دونها... قبل ذلك بأسابيع قليلة أيضًا، ينقسم مجلس النواب اللبناني إلى مكوّناته الطائفية حول موضوع إقرار بعض الحقوق الاجتماعية والإنسانية للفلسطينيين. تطرح في مجرى ذلك كلمات «كبيرة» عن الحرص على «القضية»، وعن خطر التوطين، وعن ضيق مساحة لبنان وعن حساسيته الديموغرافية...
يلخّص هذان النوعان من الأحداث والنزاعات سمتين أساسيتين ما زالتا راسختين في المشهد اللبناني. السمة الأولى هي تأثّر لبنان الشديد بموازين القوى الإقليمية خصوصًا والدولية عمومًا. وهذا التأثّر بلغ ذروة غير مسبوقة في المراحل الأخيرة. وفي هذا السياق انتقل لبنان من التعايش مع النفوذ والإدارة السوريَيْن، إلى النفوذ والارتباطات الأميركيَيْن.
والدور الخارجي في لبنان امتدّ إلى الحقول كلها: السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية والأمنية والتربوية والمالية والإدارية. وشهدت الانتخابات النيابية في دوراتها الأخيرة من المؤثرات الخارجية، ما جعلها في نظر المراقبين، انتخابات خارجية تجري في لبنان، وليس فقط انتخابات لبنانية تتأثّر بعوامل عربية وإقليمية ودولية!
إنّ تفاقم الدور الخارجي قد ارتبط دائمًا بالانقسام الداخلي: يغذّي أحدهما الآخر ويستدعي الداخل الخارج من أجل الاستقواء، أو يتوسّل الخارج انقسامات الداخل بغرض خدمة مشاريع ومصالح لهذه الدولة أو تلك ولهذا المحور أو ذاك.
وباتت هذه السمة أحد مكوّنات الواقع اللبناني. ونشأت علاقة تفاعل مرضية ما بين الداخل والخارج على نحو أضعف الوحدة الوطنية اللبنانية، كما جعل الاستقرار هشًّا والسيادة منقوصة والحصانة الوطنية معطوبة وواهنة.
يمكن أن نصنّف ما ينجم عن معادلة الداخل والخارج وتبدّل الموازين فيها في مجرى الصراعات ونتائج الصراعات، بمتحوّلات الوضع اللبناني. لكنّها بالتأكيد متحوّلات تكتسب مع مرور الزمن سمة الثبات أيضًا. والثابت هو تعاظم دور الخارج في التأثير على وضع الداخل. ونصل هنا إلى علاقة جدلية، يحتلّ فيها الدور اللبناني أو القرار اللبناني أو المساهمة اللبنانية، المكان الأضعف باستمرار، وعلى نحو مخلّ ومقلق في آن معًا.
أما السمة الثانية التي أشرنا إليها آنفًا، فتحيل إليها مجموعة ممارسات ومواقف ونزعات ونزاعات... وجميعها من النوع الذي يشير إلى مدى تخلّف الصيغ التي تتحكّم بمجرى حياتنا ومؤسساتنا وعلاقاتنا.
ما يسمّيه البعض ميزات، هو عاهات يثابر أطراف على تكريسها خدمة لمصالحهم
في المقدّمة من ذلك يأتي انعدام روح المسؤولية في ممارسة السلطة. لا بل إنّ سوء ممارسة السلطة يقترن دائمًا (إلا في ما ندر) بالإفراط في تسخير هذه السلطة لمصالح خاصة أو ذاتية أو فئوية، أو في خدمة عصبيات متعدّدة وتغذيتها، أبرزها العصبيات الطائفية والمذهبية... ولطالما وُصف الموظف النزيه في لبنان بـ«الأهبل» بمقدار ما كانت الوظيفة العامة وحق التوقيع ومسؤوليته منجم ذهب يغرف منه المعنيون دون حدود أو قيود. ولقد اقترن كلّ ذلك بعدم المحاسبة والمساءلة. وأدّى ذلك إلى واقع معيب وفوضوي تراه العين وتسمعه الأذن في كلّ جوانب حياتنا ونشاطاتنا وعلاقاتنا ومؤسساتنا.
في مجرى ذلك، لم يتردّد كثيرون في تأكيد إضفاء طابع أيديولوجي وتأسيسي وتكويني على لبنان واللبنانيين. فالانقسام الطائفي والمذهبي أصبح «صيغة فريدة» لا يدانينا في التمتّع بأفضلياتها ومميّزاتها أحد. ولا يجد بعض الغلاة ضيرًا في التباهي بـ«العيش المشترك» في لبنان، رغم أنّنا صرفنا أكثر من نصف الفترة التي مضت على استقلالنا، في حروب أهلية وفي نزاعات مدمّرة، ورغم أننّا عانينا الوصايات والارتهانات، حتى بتنا نعتبرها قدرًا نسعى إليه بدل أن نسعى للتخلّص منه.
واللبناني بموجب هذا التنظير الكريه طائفي بالفطرة! هو وُلد كذلك دون سائر البشر ولم نرضعه هذه العصبية مع الحليب، ولم نعلّمه إياها في البيت والمدرسة والشارع ومكان العمل... ولقد جرى في سياق ذلك دمج مجموعة عوامل إيجابية في الواقع والمزاج اللبنانيين بـ«الطبيعة الطائفية» للبنانيين، من أجل تحويل لبنان إلى «جنة» تستهوي كلّ الراغبين في فعل أيّ شيء ما داموا يملكون القدرة على ذلك ويسرحون ويمرحون بالمقابل دون حسيب أو رقيب.
يكشف الواقع اللبناني المتراجع والمتدهور باستمرار، أنّ ما يسمّيه البعض ميزات وفرادة، هو عاهات وتشوّهات يثابر أطراف على تكريسها خدمة لمصالحهم وأنانياتهم المنفلتة من أيّ عقال أو عقاب.
ليس لبنان بلدًا موحّدًا. وليس بلدًا حصينًا وآمنًا ومستقرًّا. لبنان منتقص السيادة ومهدّد بالتفتيت وبالانقسام وبالتقاسم... هذا الواقع الكارثي يتعارض بالتأكيد، مع تضحيات الشعب اللبناني. إنّه نقيض لإنجازات اللبنانيين المدهشة في حقول المقاومة والتحرير وفي مجالات الانفتاح والنزوع إلى الحرية والديموقراطية...
بين شاب يدفعه اليأس، فيتحوّل أشلاءً بين عجلات الطائرة. وبين «السيبان» الذي يمكّن أيًّا كان من أن يهدّد حياة المئات في أكثر مرافقنا أهمية وحساسية وخضوعًا للرقابة، ما بين هذين، تُطرح أسئلة مصيرية حول لبنان الذي بسبب نظامه الطائفي، وأنانية حكامه وفئويتهم وما يمثّلون من طبقات ومصالح اجتماعية، ما زال وطنًا قيد الدرس!
* كاتب وسياسي لبناني