زياد أسود*ومع سقوط الأرقام سقطت المؤامرات والمحاضر التحقيقية المحضّرة سلفاً على قياس الأبطال والشرفاء والأوادم الذين في مراحل سابقة كان الماسكون على رقاب الناس يدفعونهم إلى الانحلال والذوبان في بوتقة لم تكن تستوعب أسماءهم ولا حتى أرقامهم ولا وجودهم كمواطنين وكأصحاب حق وأرض وكرامة.
وهكذا، وفي لحظة رؤية أدونيس العكرا، انغمستُ في التفكير، وعادت بي الذاكرة إلى أيام حلوة ومرّة وأليمة، ولكن امتعضت من نفسي لأنني رأيته وحيداً يدافع عن كتاب أطل بنا على العالم ولم ينسَ في أي سطر منه ذكر تفاصيل اعتقال، وملابسات ملفات مشبوهة، وشروحات عن ممارسة قضاء مسيّس فاقد للقدرة وللحكمة، وعن شباب شجعان قلّ مثيلهم. وإن لم يذكر الكل بالأسماء، فإنّه لم ينسَ أحداً ولم يذكر إلا من قاوم بالفعل لا بالقول، ولم يدخل من الأبواب الصغيرة ولم يمارس دوراً أكبر من حجمه.
في كتابه «عندما صار اسمي 16»، أخذ شباب التيار الوطني الحر حقهم، كما التيار الوطني الحر أجمع. ورغم الاجتماع عليه من الوراء ومن الأمام، لم يتمكن غارزو السكين من غرزه لا في الصدر ولا في الظهر، لأننا قررنا المواجهة بالصدر المفتوح والرأس المرفوع ولم نساوم ولم نخضع للتسويات للإفراج عنا من السجون أو إدخالنا إليها، أو حتى العودة من المنفى.
امتعضت بالفعل عندما شاهدت أدونيس وحيداً وسألت عن معنى 7/7/2001 و9/7/2001 وبعده عن محطات كثيرة، وسألت عن الشعب الذي قاوم ولم يكن إلا وحيداً، وفتشت عنه في كتاب أدونيس لأعرف معنى أن يكون الإنسان وحيداً دون رفيق ودون تجربة تعلمه ألا يكون وحيداً. لا بل أن يتمسك أكثر بمبادئه وتعاليمه وتجاربه المريرة ليتعلم منها ألا يكون وحيداً، وليحمي نفسه ووطنه وحضوره، وليتنبّه فعلاً من سائقي الأجرة في محطات الوطن الذين لم ينفكّوا عن نقل شعبنا من محطة إلى محطة دون أفق وأمل، حتى كدنا نعود وحيدين مستفردين منغمسين في مشاكلنا وعاداتنا السيئة ومساوماتنا القاتلة.
وامتعضت فعلاً عندما شاهدته وحيداً وهو لم يكن وحيداً في عز أزمته واعتقاله وكتابته، لأن إنتاجه ترافق مع مسيرة شعب عظيم أقام الدنيا وشغلها...
في 7/7/2001 وقع في الفخ من حفر الحفرة، أما نحن فلم يطوِنا الزمان، وبقينا في كتاب أدونيس ننتقل من سطر إلى سطر ومن صفحة مشرقة إلى أخرى، لأننا لم نرسم لأنفسنا سوى طريق قويم واحد، ولم يسقط معنا شعب انتظر الفرج والفرح كما سقط مع غيرنا وضاع بين المقابر الجماعية، ودماء الشهداء المنسيّين، وحسابات البنوك السرية.
تلك مأساة شعب تحوّل إلى شعوب سوّاه زعماؤه بالأرض ومسحوا فيه عار الجبن والجبين وفقدان القرار وبيع الوجود والمكتسبات. أما نحن وغيرنا من المقاومين الشرفاء، فرسمنا في تلك الحادثة، وفي مسار السنوات الست عشرة، علامات فارقة، كما المقاومة في كل الأرض، أرزات شامخة وإن قسا عليها الزمان، وفي بعض الأحيان المارّون عفواً على هذه الأرض أو غصباً طمعاً في هذه الأرض.
تلك الحادثة، وتلك المقاومة في جهات لبنان وعلى جبهاته، ضد المحتل والغاصب، ضد الفاسد والمرتهن، ضد مسح الهوية والتوطين، وضد الفتن والانقسامات.
في هذه الجهات الأربع لم نمسح دمعاً، ولم نبخل دماءً، ولم نطأطئ رأساً، ولم ننسَ شهيداً...
ولم يفهم أدونيس أنه، وإن كان قد وقف وحيداً في لحظة، فإن القضاء الذي يأخذه ويململ روحه ليصدر الفرج عن كتابه، سيبقى هو وحيداً، لأن الكتاب وسيرته وسيرة ما جاء ومن جاء فيه لا تحتاج إلى قرار ولا حتى إلى قضاء ليفرج عنها ويفرج عنهم، لأنهم في عز احتياجهم وسعيهم لبناء دولة واستجداء قضاء عادل بقوا وحيدين ولم يفرج عنهم القضاء الذي نلتجئ إليه اليوم. ذلك أن الفرج أو الإفراج لا يكون باسم من قيّد نفسه وحكم على نفسه باعتقال أحرار سعوا يوماً ليكونوا نزلاء السجون العتيقة لأنها وحدها تعرف معنى الحرية والكرامة والعزة.

امتعضت بالفعل عندما شاهدت أدونيس وحيداً وسألت عن معنى 7/7/2001 و9/7/2001

وبعد، يا أدونيس، لا تسأل ولا تمتعض. في 7/7/2001 كتبت تاريخ شعب وتاريخ مناضلين، وفي 8/7/2010 لم يتمكن أحد من محو هذا التاريخ والمستقبل لأنه امتداد النضال المستمر لمن نسي أن ثمة قوماً بنوا تاريخهم بحفر الصخر، وعمّروا كنائسهم بعتق الحجارة المرصوصة على الأكتاف ودماء اليدين، وتنشقوا برائحة البخور عتق الزمان الذي لا تطويه المراحل الصعبة والبائسة.
تلك هي الحكاية التي نسيتها يا أدونيس لأنك انشغلت كما انشغلنا في أزمنة وأوقات، ووقفنا وحيدين وتلهينا بالتفتيش عن الضائعين على حفافي هذا الزمان وامتداد أفعاله، ولم نتعظ ولم نفتح أعيننا لنرى صورة 7/7/2001 لنتعلم أن الرزم المتفلتة توزع وتضيع، ولا تعود لتتجمع لأن من أفلتها أرادها وحيدة لتنكسر، فهل تيقنا يا أدونيس من أنك لم تكن يوماً وحيداً ولن تكون لكي لا تكسر.
وهل أدركنا يا أدونيس بما يدور من حولنا لمحو الذاكرة لكي لا نستغل ونستفرد ونضيع؟
ولكن حتى في عمق المشاعر الفرحة والحزينة، تتراءى أمامي وجوه وصفوف مناضلين ومعتلقين ورموش الأعين المغطاة بغبار تلك الأيام، وأرى ملامح أصدقاء ورفاق ورموز طواها الزمان، أو انحت لكي لا تنكسر.
وغابت ولكنها في البال بتضيحاتها ولا ننسى، مهما قسا الزمن، وتبقى مع تلك الوجوه دموع أمهاتنا ولمسات الأيادي الحنونة التي لم تتفلت منها أصابعنا، ويبقى معها شيب آبائنا وابتساماتهم العريضة عزاً وفخراً بأبنائهم.
ويبقى دون أن ننسى صوت القائد في كل الأزمنة، بروحه ومحبته وإيمانه وبدموعه التي لا تسقط حتى فوق نجومه.
على هذا الحد، أتركك يا أدونيس. ولكن هذه المرة، لست وحيداً ولن تكون بقضاء أو دون قضاء بدولة أو بدون دولة في وطن أو بدون وطن.
* نائب لبناني