strong> نجيب نور الدين*تحتار من أين تبدأ حين تريد أن تتناول شخصيةً مرجعيةً وقامةً علمائيةً بحجم سماحة آية الله العظمى السيِّد محمد حسين فضل الله، فهو شخصية استثنائية بكل ما للكلمة من معنى، شخصية متعددة الأبعاد والآفاق، لقد مثّل علامة فارقة في تاريخ المرجعيات الدينية في العالم الإسلامي، سنيِّها وشيعيّها، ولا نبالغ إذا قلنا إنّه أحدثَ انقلاباً في المفهوم التقليدي للمرجعيات الدينية ودورها. فالسائد أن المرجعية الدينية هي مرجعية مقتصرة على الاختصاص الفقهي تحديداً، لكنها مع السيِّد، تحوّلت إلى مرجعية دينية وسياسية واجتماعية وفكرية وتربوية وجهادية وحوارية وإنسانية، تحاور إشكالات الواقع وتجادلها لتجترح من جدلية العلاقة بينه وبين الإسلام الحلول المناسبة...
وبهذا المعنى، كان سماحته شخصيةً مرجعيةً شموليةً، حمل قضايا الإنسانية في وجدانه وقلبه وضميره، وكان جريئاً في طرح مواقفه من مجمل هذه القضايا، غير آبه بما يمكن أن يواجهه من انتقاداتٍ وإشكالات ومخاطر. كان صارماً في قول كلمة الحق، وخصوصاً في ما يتعلق بالقضايا المصيرية المتعلقة بالدوائر الوطنية والعربية والإسلامية والعالمية...
جمع بين انتمائه الإسلامي ونفسه الإيماني وتوجّهه الإنساني، فاعتبر أنّ الأديان وحدة تتكامل في خطِّ سيرها، ولأنها كذلك، لا بدّ من أن تتّحد في مسارها، لارتكازها على بنية عقائدية وأخلاقيّة وتربويّة وإنسانيّة مشتركة، فكان دائم التأكيد على هذه المشتركات، واعتبرها القاعدة الصلبة التي يجب أن يبنى على أصولها الحوار بين الأديان، وخصوصاً مع قناعته الراسخة بأنّ ما يجمع هذه الأديان أكثر بكثير مما يفرّقها، وأنها جميعاً قد هدفت للارتقاء بمستوى الإنسان، وبالتالي بمستوى الحضارة الإنسانية المرتكزة على قيم السماء الخالدة. وكان يردِّد دائماً أننا يجب أن نتَّفق على الله بدل أن نختلف باسم الله، لأنّ الله هو حصن المحبة الذي يأوي إلى كهفه كلُّ المؤمنين في العالم.
أدرك منذ البداية أنّ الأديان هي حركة في حياة الإنسان، وليست مقدَّسات نتجمَّد أمامها، وقد قامت فلسفته على مقولة الإسلام الحركي، لاقتناعه بأنّ القرآن، وهو كتاب الحياة، قد نزل ليجيب عن إشكالات الواقع، وهكذا يجب أن تتحوّل الاجتهادات الدينية إلى سلسلة إجابات على مستجدّات ما يحفل به الواقع من أسئلة وقضايا وطروحات.
عمل سماحته على تأسيس الحركة الإسلامية العالمية وشارك في انطلاقتها الأولى، وكان رهانه دائماً على الجيل الشاب المملوء حيويةً وحماسةً وإيماناً، وعلى أنّ الشباب، إذا تحصَّن بالوعي، يتحول إلى ضمانة للمستقبل وبشائر خير ومحبة للإنسانية جمعاء.
كان همه كيف نظهّر البعد الإنساني للدين، كيف نقدم الدين أطروحةً عالميةً تتجاوز كل الطوائف والمذاهب والفئويات والعصبيات، رسالة إلى كل العالمين، كما نزلت منذ البداية على قلب محمد، قبل أن تعصف بها أهواء الجهويات والحزبيات والشخصانيات والعصبيات، واعتبر أنه لا بد من تقديم الإسلام كمشروع حضاري متكامل للعالم أجمع، لذلك رفض حصر ميدان عمله بقطر أو مصر، حزب أو جهة، وبقي مستقلاً عن كل الأطر الرسمية والتنظيمية، رغم أنه كان مرشداً وعضداً لكل الحركات الإسلامية في العالم، امتد نظره دائماً إلى أقصى الأرض قائلاً إنّ الإسلام وجِد لكي يعمَّ الدنيا، ونحن لا نستحي من العمل على أسلمة العالم، لكن بالحوار والإقناع ومقارعة الحجّة بالحجّة، والمنطق بالمنطق والمشروع بالمشروع...
وكان أكثر ما يزعجه، أن يقدّم العاملون للإسلام إسلامهم انطلاقاً من زواياهم الطائفية والمذهبية أو المناطقية، لأنهم بذلك يجعلون من دين الله كائناً على قدر أحجامهم وقياساتهم...
من هنا، لاقى ترحيباً من أصحاب الأديان، كما من أصحاب الأفكار الوضعية على السواء، لأن دعوته كانت عقلانيةً غير استفزازية، وخصوصاً أنّه من أصحاب القول إنّ ما يجمع الناس لكثير، فلنتفق على ما نجتمع عليه، ونؤسس واحة أمن وعدالة وسلام لهذا العالم المتوتر بكل تناقضات العقول الحامية والمشاريع الطامحة، ولنتحاور حول ما نختلف عليه، وإذا لم نتّفق، فلننظّم هذه الخلافات، ونضعها في دوائرها المناسبة، كي لا تتحوَّل إلى مواضيع نزاع وصراع، وربما اقتتال.
لذا، عرف عنه أنه رجل الحوار والانفتاح على كلِّ الأفكار الدينية وغير الدينية. كان يرى في الحركات الإسلامية أملاً بعودة الإسلام إلى ربوع الأوطان التي هجرها الإسلام بعدما تحولت مادةً للمزايدة والنزاع، ولأن الإسلام من جهة أخرى قد تحجَّر على يد الأنظمة والمؤسسات الدينية الرسمية، وكان لا بدّ من جيل يحمل فهماً حركياً للدين يعيد إليه حيويته وآماله، وكان يرى في هذه الحركات رافعات للمشروع الإسلامي، وأحد أجنحته التي تتكامل مع جناحه الآخر، أي الفكر الإسلامي المستنير غير المتكلّس على قناعات عفا عليها الزمن.
آمن سماحته بنوعين من المقاومة: المقاومة بالمفهوم العسكري السائد والمقاومة بمعناها الفكري، وبأنهما يكمل بعضهما بعضاً، الأولى مهمَّتها فضح الاستعمار ومخطَّطاته وممانعة احتلاله وهيمنته، وخصوصاً الأميركية والإسرائيلية، والثاني مهمّته مواجهة بؤر منظومات الغلوّ والتكفير ومواقع التخلُّف التي لا تفقه الدين بمعناه الرباني الرّحمانيّ والإنساني، ولا تراه إلا سبيلاً لشدّ عصبياتها، وزرع بذور الانقسام والشقاق بين صفوفها، وتعويق مسيرتها الحضارية نحو المستقبل، والاقتصار على جهويات ودول لا يهتم كل منها إلا بما يجري في قطره، بدلاً من أن تكون الأمّة على سعتها مداها الهمّ والأمل وغاية النّضال والهدف والمرتجى...
لقد شخّص سماحته مصدرين للخطر على الأمّة العربية والإسلامية؛ الأول من داخل، ويتمثل بنزعات التطرُّف والغلوّ اللذين ذهبا بالمسلمين إلى تكفير بعضهم بعضاً، وترتيب أثر هذا التكفير محاولات للنزاع والاقتتال.
والآخر من خارج، وتحديداً الاستكبار الأميركي، الذي وجد فيه مانعاً وحائلاً أمام وحدة الأمّة، دولاً وشعوباً وحركات ومستقبلاً.
لذا انصبَّ جهده في خلال سنوات حياته الأخيرة، على جبه هذين الخطرين، من طريق فضحهما، غير آبهٍ بما يلاقيه من تهديداتٍ ومؤامراتٍ من الجهتين معاً، ورائده أن الحقّ لا يستقيم له عمد بالتنازلات والتسويات والمساومات، حتى لو تطلَّب ذلك أن ندفع الأثمان الغالية في سبيله والثبات عليه، لأنّ كلّ ما عدا الحق زائل، ولأنّ ما ينفع الناس يمكث في الأرض.
فهم الدّين سبيلاً للارتقاء بالإنسان، ولرفع مستوى إنسانية الإنسان، فتحدّث عن أنسنة الدين، واعتبر أنّ الأديان وجدت لخدمة المسيرة البشرية، وأنّها البوصلة التي تصوّب مسارها باتجاه استكمال الصيرورة الحضارية للبشرية، فكان يرى أن القرآن كتاب الحياة، وهو أساس المعرفة الدينية، والإطار ــــ النظام لبناء حياة اجتماعية وسياسية محكومة للمبادئ والقيم التي تعلي من شأن الإنسان وتعبّده لله وحده، وتدعوه إلى تحطيم أصنام النفس وأصنام الواقع مهما كبرت.
أهمية سماحة السيِّد، أنّه كان يحمل مشروعاً حضارياً كبيراً، ولم يكن يستثني من هذا المشروع أحداً من أبناء الأمّة العربية والإسلامية، وحتى مفكّري وأحرار العالم، بل لم يكن يرى تناقضاً بين سعي هؤلاء وسعي علماء الدين في تقاطعهم حول هذا المشروع، فخاض معهم العديد من النقاشات والحوارات، وتبادل معهم الأفكار والتوجهات، وكان عوناً لكلِّ من يرى في نهضة الأمّة سبيلاً إلى خلاصها واستقلالها وحريتها...
ومن العناصر الأساسية التي رأى أنها ضرورية لقيامة البنيان الحضاري، جملة قضايا كبرى لا بدّ من العمل عليها كشرط أساس لإزالة العوائق من أمام هذا المشروع الكبير:
القضية الأولى، الاهتمام بالمقاومة سبيلاً للخلاص من الكيان الصهيوني. والقضيّة الثانية، وحدة الأمة الإسلامية باعتبارها السبيل الأوحد لإحباط كلّ مشاريع الهيمنة والنّهب والاستتباع وإفشالها.
تميَّز بجرأته في مراجعة الكثير من الثوابت التي كادت تتحوَّل إلى مقدَّسات، وهي نتاج اجتهادات مجتهدين يصيبون ويخطئون، وكان دائم القول إنّ هؤلاء السّابقين من العلماء قد اجتهدوا لواقعهم الذي عاشوا فيه، حيث استخدموا ما توافر لديهم من العلوم والمعارف، واستفادوا منها في إنتاج آرائهم الفقهية والعقائدية والفكرية، ونحن يجب ألا نتجمَّد أمام ما توصَّلوا إليه، بل يجب تجاوز ذلك أو تطويره، لأنّ ذلك هو سنّة التطوّر في الحياة، وسبيل ليكون الاجتهاد الديني مواكباً للعصر، لا يتجمَّد عند اجتهاد باعتباره مقدساً، وهو في حقيقة الأمر غير مقدّس.
لقد نزع سماحته القداسة ليس عن المجتهدين فحسب، رغم تعظيمه لهم، بل نزع القداسة أيضاً عن أفكارهم وكتاباتهم ونتاجاتهم التي تجمَّد أمامها دارسو العلوم الإسلامية، وكان يرى أنه لا بد من الجرأة في مناقشة هذه الآراء سبيلاً إلى تطويرها وتجاوزها إن أمكن إلى الأفضل.

مواجهة منظومات الغلوّ والتكفير ومواقع التخلُّف التي لا تفقه الدين بمعناه الرباني الرحماني

وقد أخضع هذه الأفكار للبحث والدّرس، وقال إنّ في هذه الأفكار والمعارف ما ينتمي إلى زمان إنتاجه، وبالتّالي، فلقد استوفى الغرض والوظيفة من ظهوره في حينه، حيث كان مناسباً لبيئته، وحاجةً لأسئلة هذه البيئة المعرفية والدينية. وإذا كان من هذه المعارف والأفكار ما يصلح لأن يستمر، فهذا ما نُبقي عليه ونراكم فوقه، أما ما يعني عصرنا وزماننا وإشكالات واقعنا وحاضرنا، فيجب أن نجتهد له بما يناسبه، كي نكون بجدّ ممن يحملون ديناً مواكباً لقضايا العصر ومتطلّباته.
من هنا، اعتبر سماحته أن على المجتهد أن يواكب العصر، وإلا فليس لاجتهاداته قيمة عملية في الحياة. فللمعرفة في يقين سماحة السيِّد خطّ مستقيم متواصل لا يتوقّف عند حدّ، وليس هناك من محطة معرفية تعتبر مقدّسةً يكون التجمّد أمامها أمراً لازماً، لأن لكل زمان رجاله ومجتهديه ومعارفه.
من هنا، تنوّعت معارف سماحته، فشملت مؤلّفاته وكتاباته التي جاوزت المئة، في الفقه والعقائد والفكر والأخلاق والدّعاء والسياسة والمقاومة والاجتماع والوحدة، إضافةً إلى طروحاته الاستراتيجية المميَّزة في استشراف المستقبل.
أستطيع أن أقول إنّ سماحة السيِّد كان شخصيةً استثنائيةً في ظروف استثنائية، ففي غمرة انزلاق الأديان والطوائف والمذاهب إلى خنادقها العصبيّة وكهوفها الموحشة، وأفكارها المغلقة، وتوجّهاتها الفئوية الضيقة، كان يرى في الدين سبيلاً لوحدة الإنسانية، وواحةً للمحبة الإلهية، وأن وظيفة الأديان لم تكن يوماً غير إقامة العدل والمحبة بين الناس.
السيِّد فضل الله كان بحقّ رجل دين، صرف جهداً كبيراً لاستنقاذ الدين من حراس المغاور والكهوف الطائفية، ونشر قيمه في الهواء الطلق، ولعله من الرجال القلائل الذين سعوا إلى إظهار الوجه الإنساني للدين، بعدما تحوَّل على أيدي تجار الأديان والآلهة إلى سلعة في سوق النخاسة لطالبي السلطة والمال والجاه، الذين استبدلوا بتجارتهم هذه نعيم الآخرة الأبديّ، بفتات الدنيا الزائلة.
ويطيب لي أن أختم بجوابه على أحد سائليه عندما استوضحه لمن يكتب والعالم الإسلامي في انحدار لأنه لا يقرأ، فقال يا بني أكتب لأجيال المستقبل. ربما كان الراحل الكبير على صواب لأن التاريخ علمنا أن قدر الرجال العظماء أن يعرفوا بعد رحيلهم.
* أستاذ جامعي ومستشار المرجع الراحل فضل الله