مروان المتنيخارج إطار التحليل والتأويل، هناك من سيقول: غلطة الشاطر بألف... وأوكتافيا أخطأت بإبداء تأثّرها وإعجابها بشخصية وبحزب موصوف بالإرهاب في أميركا، وبالطبع تملك إدارة «سي. أن. أن» أكثر من نص قانوني تستند إليه لتبرير تسريحها الفوري. ولكن أبعد من القانون وأبعد من المصالح، تطرح هذه المسألة أسئلة كثيرة تدخل في صلب مفاهيم العمل الإعلامي وأهدافه:
١ــــ أين هي حرية إبداء الرأي في مهنة الرأي الحر، وخصوصاً أن الإشكال وقع في بلد الحريات ــــ أميركا، حسب اعتقاد شريحة واسعة من المشاهدين؟
٢ــــ رأي أوكتافيا لم يكن عبر شاشة «سي. أن. أن» أو أحد مواقعها الإلكترونية، بل نُشر على صفحتها الشخصية ضمن «تويتر» وترجمتُه تغريد أو زقزقة بالعربية. فهل زقزقة أوكتافيا لبعض مشاعرها إزاء رحيل مفكر كبير من بلدها الأمّ تضرب فعلاً مصداقيتها، وبالتالي مصداقية محطة واسعة الانتشار عالمياً؟
٣ــــ ما الذي يحمي الإعلامي، وخصوصاً المسؤول داخل محطة، كالزميلة أوكتافيا مثلاً، من مزاجية إدارة المؤسسة أو مصالحها؟
٤ــــ أي قوانين تطبق على حالة أوكتافيا وحالات مشابهة، هل هو قانون الإعلام وحماية حرية الصحافي؟ أم قانون العمل؟ أم القانون التجاري البحت؟ أم قانون مكافحة الإرهاب بصيغته الأميركية؟
٥ــــ ما هي هوية وصفة وسائل الإعلام الإخبارية؟ هل هي مجرد شركات تجارية تبغي الربح وحسب؟ أم أنها صاحبة رسالة سامية مهمتها نقل الخبر بتجرد وإفساح المجال أمام جميع الآراء والأفكار؟
٦ــــ من يحاسب مالكي الوسائل الإعلامية وإداراتها؟ من ينظم علاقتها بمرؤوسيها من الصحافيين؟ وخصوصاً أنّ غالبية مالكي وسائل الإعلام في الغرب وفي عالمنا العربي هي شركات وتكتلات تجارية لا علاقة لها بأساس مهنة الصحافة.
٧ــــ هل سيردّ الإعلام، وبالتالي الرأي العام العربي، على خطوة «سي. أن. أن»؟ وكيف؟ وهل ستترسخ أكثر فأكثر صورة الإعلام الأميركي الموالي لإسرائيل ١٠٠٪؟
٨ــــ هل هذا الإجراء ضد نصر يؤكد أن لا مجال للموضوعية والمصداقية والحياد في زمن الأزمات؟
٩ــــ هل سيبرر طرد نصر لبعض المؤسسات الإعلامية اللبنانية خطوات سابقة وربما لاحقة مشابهة تحت عنوان: إذا الـ«سي. أن. أن» عملت هيك...
١٠ــــ هل ستخسر «سي. أن. أن» جرّاء خطوتها التعسفية هذه؟ وماذا قد تربح أوكتافيا؟
من يعرف أوكتافيا نصر يكتشف كم هي شغوفة بعملها وصادقة في الالتزام بـ«أصول مهنة الإعلام وأخلاقياتها». أكثر من عقدين قضتهما في مراكز متعددة في شبكة «تد ترنر»، خلف الشاشة وأمامها، وعبر أنابيب «سي. أن. أن» العنكبوتية، يشهدان لها بحثها عن الخبر وبثّه بمصداقية وتجرّد. ففي الأحداث المهمة، وهنا تستحضرني الساعات التي سبقت وتلت تنفيذ حكم الإعدام بالرئيس العراقي صدام حسين، وافتنا أوكتافيا أول بأول بكل الأخبار والتعليقات والأفلام من مختلف مصادرها وردود الأفعال، بكل تجرد دون إدانة أو غبطة، بل كانت باديةً على محيّاها عظمة الحدث وهيبته.
تسنّى لي رؤية أوكتافيا مع زملائها وزميلاتها في العمل وخارجه، واكتشفت مدى البعد الإنساني في هذه الصحافية الشرقية الطباع والأصول. فهي دائمة الابتسام، مليئة بالحماسة والغبطة، سريعة البديهة، شديدة الملاحظة، وتحسب حساب التفاصيل، حتى الصغيرة منها، وتعرف محاذير الأميركيين وقربهم من إسرائيل... فهل سها عن بالها أن إشادتها بالسيد فضل الله وإشارتها إلى حزب الله قد تكلّفانها عملها؟ أم أنها فعلت ذلك مدركة العواقب على قاعدة قل كلمتك وامشِ؟
نعم غادرت أوكتافيا «سي. أن. أن»، لكنها غادرتها بسبب حرية رأيها، وهذا في أساس العمل الصحافي. نعم خسرت «سي. أن. أن» موهبتها، وخسرت أيضاً بعضاً من هيبة وصورة وموضوعية مزعومة أقلّه في بعض العالم العربي. في لعبة الاستحواذ على الرأي العام لا مجال لمقارعة المحطات الإخبارية الأميركية، المنحازة إلا بأخرى أقلّ انحيازاً، فهل هذا وارد؟ أم أن لكل شاشة جمهورها، وبالتالي كل يملك حقيقته، وتنقسم الجماهير خلف حقائق بالكاد تشكل مجتمعة خبراً يندثر مع ورود آخر؟
* إعلامي لبناني