معمر عطوي *من الصعب تخيّل الساحة اللبنانية المفتوحة دوماً على الصراعات المذهبية والطائفية، وعلى حروب مدمرة مع العدو الإسرائيلي، من دون رجل دين حواري منفتح ومعتدل بوزن السيد محمد حسين فضل الله، الذي غادرنا باكراً. غادرنا في وقت لا تزال نار الحقد تحت رماد هذا التنوع القائم على خدعة التكاذب بين اللبنانيين. وقد أكون مبالغاً إن قلت إن أهمية وجود رجل في لبنان بوزن السيد فضل الله تعادل أهمية الأمن في منطقة ملتهبة.
منذ مراهقتي تعلقت بشخصية السيد ونهلت من معين خطبه ودروسه ومحاضراته، وخشعت معه في أدعيته وابتهالاته. كما أني كنت ألتهم كل ما يصدر من كتبه ومنشوراته الفقهية والفكرية والسياسية وحتى الأدبية.
حفظته عن ظهر قلب منذ كنت ذلك السنّي المتشيّع، أتابع صلاة الجمعة خلفه في مسجد بئر العبد، حيث كان المسجد رمزاً للمقاومة وللحياة السياسية الكريمة. لم يكن السيّد فقيه حائض ونفاس ولا مفتياً في قضايا سخيفة كتلك التي نشاهدها في بعض المحطات الدعوية. بل كان دائماً يحث أتباعه على الخوض في مسائل أعمق وأكثر أهمية من حكم المستنجي وطريقة الدخول إلى بيت الخلاء.
لذلك لم يكن السيد تقليدياً في معالجته قضايا المجتمع ومشاكل السياسة، بل كان دائماً ذلك الباحث عن مخرج لمقلّديه، على أساس أن «الإسلام دين يسر وليس دين عسر»، وأن «الأصل في الأحكام الإباحة». وأن القاعدة الأساسية هي حفظ الإنسان وتطويره وتنميته. فكان فقيهاً من أجل الإنسان.
هو العالم الجريء الذي لا يمكنه إخفاء رأيه حتى لو خرج عن إجماع الفقهاء، فكان العالم الشيعي الذي يؤيد روايات وأحاديث موجودة لدى أهل السنة ويرفض أخرى موجودة لدى أهل الشيعة بدعوى عدم وجود سند قوي لها، مثل رفضه ادعاء بعض علماء الشيعة أن الخليفة عمر بن الخطاب سبّب إجهاض فاطمة ووفاة جنينها «المحسن»، ومثل حديث الإفك بحق زوجة الرسول عائشة، وصولاً إلى تطبير الرؤوس وأذى النفس في ذكرى عاشوراء.
لعلّ أكثر ما أتذكّره من السيد، مقولة كان يرددها دائماً: «لنقتل هذا البدوي فينا»، انطلاقاً من هذا البدوي الذي يقفز بين حين وآخر في فكرنا وسلوكنا كان السيد يحارب التخلف.
مقولة كان يرددها دائماً: «لنقتل هذا البدوي فينا»
وكان العلامة فضل الله قادراً على مخاطبة الآخرين بلغة فلسفية سهلة ممتنعة، تصل إلى الكبير والصغير، المتعلم والأمي. وكان كل همّه أن تتطور الأمة في محيطها المتنوع من دون أي ظهور لجدالات بيزنطية لا حاجة لظهورها أصلاً. لذلك كان فضل الله يحاول الاجتهاد لمصلحة تضييق هوة التناقضات بين السنة والشيعة، وبين المسلمين والمسيحيين، وبين الشرق والغرب.
ففي محاضرة ألقاها في الجامعة الأميركية أواخر التسعينيات، تحدث عن السيد المسيح ورؤية الإسلام له. أذكر يومها عبارة شهيرة قالها بما معناه «إذا كان المسيح بنظر المسيحيين قد صلب وطلع إلى السماء، وإذا كان المسلمون يؤمنون بوجوده حياً في السماء، فلنتفق على أنه طلع إلى السماء ولنترك جانباً خلافنا على صلبه».
هكذا كانت ذهنيته الحوارية المنفتحة تبحث عن مواطن اللقاء وتترك الخلافات جانباً. انطلاقاً من هذه الذهنية، برزت فتاواه الجريئة التي أدهشت الآخر وأزعجت أهل المذهب الذين ما كانوا ليتنازلوا عن الكثير من المقولات «حفاظاً على هوية المذهب وخصوصيته وعدم ذوبانه بالمذاهب الأخرى».
لعلّ أهم فتوى برزت لدى السيد، كانت حول الرجوع إلى علم الفلك في تحديد بداية الشهر الهجري ونهايته. وحين أفتى بجواز الإفطار حسب توقيت أهل السنة. كأنه كان يريد لهذه المجموعات البشرية المتناحرة في لبنان أن تلتقي على كلمة سواء. فكان ذلك العالم الذي يسعى إلى جلب المصلحة ليس فقط للمسلمين بل لكل اللبنانيين ويدرأ عنهم المفاسد الطائفية التي كسرت ظهر بعيرهم.
غالباً ما كنت أقصده في منزله بحارة حريك، حين أواجه معضلة فقهية أو فكرية. وخلال الوقت المخصص للمواطنين كان يستقبلني في صالونه المتواضع، حيث كان المضيف يقدّم الشاي اللذيذ لضيوفه ومريديه. كان يجيبني بكل رحابة صدر عن أي سؤال مهما كان محرجاً أو جريئاً أو ذا طابع نقدي للدين، ويستمع إلى وجهة نظري برحابة صدر.
لم يكن السيد حزبياً لأنه كان يعتقد أن الحزب وسيلة للوصول إلى تحقيق العدالة، وكان يرفض تحوّل الحزب إلى غاية كما حصل مع الكثير من الأحزاب الإسلامية. ولم يكن ديماغوجياً يطرح أفكاره من دون أن ينظر إلى إمكان تحققها في الواقع. كان ذلك الواقعي والمبدئي في آن. الشخص المرشد المتجاوز لحدود الحزب ودوغمائيته. من هنا كان طرحه دولة الإنسان في لبنان معتقداً أن القيم لدى المسيحيين والمسلمين كفيلة بتشكيل منظومة تضمن إقامة دولة رائدة قائمة على الأخلاق.
هو العالم الشيعي الذي حمل همّ اللبنانيين جميعاً، والجنوبي الذي حلم بفلسطين محررة من كل قيد، واللبناني الذي تمنى للعرب أن يكونوا بالفعل خير أمة. لذلك كان تمسكه بقضايا الأمة أكبر من خلافاته السياسية مع التيارات المقاومة، فبقي على دعمه القوي للمقاومة الإسلامية في لبنان رغم خلافه العقائدي مع قيادتها، وتميز بدعمه للمقاومة العراقية رغم تقاربه مع بعض التيارات التي وقعت أسيرة الاحتلال الأميركي هناك، محرّماً خدمة هذا الاحتلال بأي شكل من الأشكال.
كان فضل الله كما عرفته وعرفه الكثيرون، ذلك الشاعر الذي طبع فكره بنداوة الأدب، وأعطى لآرائه السياسية طراوة الشعر حتى تصبح أكثر سلاسة وقدرة على اقتحام العقول حتى المتحجرة منها. لذلك كان كل من يلتقيه من عرب أو عجم ومن مفكرين أو سياسيين أو شخصيات على تنوعها، يخرج من عنده مشدوهاً بقدرته على التعبير وسعة أفقه وجدّيته في خوض الحوار؛ هو الذي كان يقول دائماً «لا مقدسات في الحوار».
هذا هو السيد فضل الله الذي غادرنا بالأمس، في نظر شاب عرفه عن قرب وتابعه، رغم اختلاف المشارب والخلفية المذهبية والرؤى الفلسفية. هو السيد العاقل في نظر متشيّع سابق خارج إلى رحاب العقل وقيم اليسار والعدالة الاجتماعية.
لا مجال لإخفاء حجم الخلاف الجذري مع السيد في مواضيع عديدة، لا سيما اختلاف النظرة إلى البعد الماورائي للدين والجانب الأسطوري من اللاهوت. بيد أن هذه الذهنية المتّقدة بالحوار والمتميزة بالقدرة على الانفتاح على الآخر هي حاجة يسارية أيضاً حتى لا يتحوّل اليسار إلى الوقوع في تهويمات الأيديولوجيا ودوغمائيتها.
* من أسرة «الأخبار»