لقد تردّدت قبل كتابة هذا الردّ الثاني على حملة أسعد أبو خليل عليّ أكثر بكثير مما تردّدت قبل كتابة ردّي الأول، وذلك لبلوغ المذكور حداً من السخافة في تعقيبه جعلني أميل إلى الامتناع عن الإجابة. غير أن عدداً من الأصدقاء حثّني على الردّ على أبو خليل مرة ثانية، طبعاً بدون الانجرار إلى مستوى الابتذال والتهكّم (البائخ جداً) الذي ميّز ردّه. فقرّرتُ أن أستجيب لنصيحتهم، آملاً أن تكون هذه هي المرة الأخيرة التي يفرض عليّ أبو خليل معركة جانبية بمثل هذا المستوى
جلبير الأشقر *
كنتُ قد أنهيت ردّي الأول على أسعد أبو خليل بالدعوة إلى الكفّ عن المزايدات، ونبذ الجهل والعنجهية كي نُحكم «المعركة التي نخوض أمام الرأي العام العالمي ضد أعدائنا المشتركين». غير أن أبو خليل آثر أن يخصّص مقالاً ثانياً بكامله للهجوم عليّ، بل فتح عليّ جبهتي هجوم جديدتين، بادئاً محاجّته بالقول: «يتبدّى الخلاف بيني وبين جلبير الأشقر في الأسطر الأولى من ردّه، عندما كاد أن «يزلغط» ابتهاجاً بردّ الفعل العالمي على المجزرة الإسرائيليّة في عرض البحر: إنه يرى أنّ الاستنكار العالمي كان «عظيماً»، فيما أنا أراه باهتاً هزيلاً وضعيفاً ومحدوداً». ويرى أبو خليل في ذلك اختلافاً في «الأساليب في كيفيّة تحرير فلسطين، بل في رؤية التحرير بحدّ ذاتها، وحتى في تحليل طبيعة المجتمع الإسرائيلي». ثم يضيف، مفصحاً عن ازدراء عجيب حيال أولئك المناضلين الشجعان الذين جازفوا بتحدّي الدولة الصهيونية محاولين فكّ الحصار عن غزة بحراً بواسطة «أسطول الحريّة» (فريدوم فلوتيلّا): «جلبير الأشقر يهلّل لردّ الفعل العالمي، وأنا أراه هزيلاً وحافزاً للاعتماد العربي على الذات وعلى الكفاح المسلّح، ويمكن «الفلوتيللا» أن تبحر بالرجل الأبيض أنّى تشاء». وأترك للقراء أن يقدّروا بأنفسهم إذا ما كان دعاء أبو خليل إلى الكفاح المسلّح (وهو لا يعدو المزايدة المجّانية) أجدى للقضية الفلسطينية من قيام الناشطين «البيض» (والعديد منهم، بالمناسبة، أكثر سماراً من أبو خليل بكثير) بتنظيم القوافل إلى غزة.

خصّص أمين الحسيني أربع صفحات كاملة في مذكّراته للتقريظ بهاينرش هِملر والافتخار بالصداقة التي جمعتهما
والحال أن أبو خليل يُفتي في عدم جدوى أي نشاط غير الكفاح المسلح، في الوقت الذي أخذت فيه حملة التضامن العالمي مع الشعب الفلسطيني تتصاعد فعاليتها تصاعداً ملحوظاً، لا سيما بفضل حملة المقاطعة العالمية التي أطلقتها لجنة وطنية فلسطينية تمثّل شتى مكوّنات الشعب الفلسطيني. أما عن ردّ الفعل العالمي على حادثة أسطول الحريّة، فقد صدف أن وزّعت وكالة أسوشييتد برس يوم صدور تعليق أبو خليل بالذات، أي في 19 حزيران، تقريراً لمراسلها في تل أبيب جاء فيه: «يبدو أن إسرائيل في طريقها إلى خسارة المعركة العالمية ضد عزلها. وقد تفاقمت تلك العزلة بعدما نفّذت إسرائيل هجوماً بحرياً على أسطول حاول خرق حصار غزة، وأدى الهجوم إلى عنف نتج منه قتل تسعة ناشطين أتراك. فاستدعت كل من أكوادور وأفريقيا الجنوبية وتركيا سفيرها إثر الغارة وقطعت نيكاراغوا علاقاتها الدبلوماسية، كما ألغت فييتنام زيارة لرئيس إسرائيل، بينما ألغت اليونان مناورة عسكرية مشتركة، وقرّر عمال المرافئ السويدية مقاطعة السفن والبضائع الإسرائيلية لمدة أسبوع. وحتى الولايات المتحدة، أقرب حلفاء إسرائيل، انتقدت الغارة وأجبرت إسرائيل على إنشاء لجنة تحقيق ضمّت مراقبين أجنبيين. وقد توصّل العديد في إسرائيل، بمن فيهم أناس في قيادة البلاد، إلى خلاصة أن إسرائيل قد خسرت معركة كسب تعاطف الرأي العام العالمي...».
أما الجبهة الجديدة الثانية التي فتحها أبو خليل في هجومه عليّ، فتتعلّق بمسألة قبولي بإجراء صحيفة إسرائيلية مقابلة معي. فبينما لم يكن أبو خليل قد لامَني على ذلك في هجومه الأول ـــــ ولم يكن تعليقي على الأمر في ردّي عليه سوى انتهاز للمناسبة، كما ذكرتُ ـــــ يبدو أنه ظنّ أن الديماغوجية السهلة جداً في هذه المسألة قد تعوّض عن ضحالة حججه في موضوع هجومه الأصلي (أي أمين الحسيني) الذي سأعود إليه بعد قليل. فيأخذ عليّ أبو خليل في صدد المقابلة تأكيدي على أن المقاطعة المفيدة لنا والمضرّة بعدوّنا لا تكون برفضنا «فرصة نادرة في الدفاع عن قضيتنا في صحيفة إسرائيلية». في ردّي الأول، خمّنت أن تشويه أبو خليل كلامي ناتج من أنه لم يفهمه بسبب «حالة من التعب وانخفاض الصفاء الذهني»، فأغاظه ذلك التخمين، وبقي أمامي بالتالي احتمالان لتفسير تشويهه الأمور، هما عجزه الفطري عن الفهم أو تعمّده التشويه. وسأتلطّف عليه بالاكتفاء هنا بالاحتمال الأخير وأقول إذاً إن أبو خليل تعمّد غضّ الطرف عن موضوع «الدفاع عن قضيتنا» في الجملة التي اقتبسها عن مقالتي، فردّ عليّ: «لا يعلم، أو يدّعي الأشقر أنه لا يعلم، أن هذه الفرصة تحدث دائماً لفريق من المُطبّعين العرب» ـــــ أو ربّما قصد أبو خليل أن «المُطبّعين العرب» إنما يدافعون عن قضيتنا؟ وتابع ذاكراً أسماء بعض العرب المتعاونين مع الصهيونية الذين ترحّب بهم الصحافة الإسرائيلية، وكأنّه يجهل أن أمثال إدوارد سعيد ومحمود درويش، بل اسماعيل هنيّة نفسه (الأخير في «هآرتس» الصادرة يوم الأول من شباط 2006)، أعطوا هم أيضاً مقابلات للصحافة الإسرائيلية.
وفي ردّه التهريجيّ، يقارن أبو خليل بيني وبين أنور السادات أكثر من مرّة، جاعلاً من مخاطبتي الرأي العام الإسرائيلي من خلال صحيفة إسرائيلية دفاعاً عن الفلسطينيين والعرب (بل حتى عن الرئيس الإيراني) ـــــ مرادفاً لمخاطبة السادات للإسرائيليين من منبر الكنيست اعترافاً بالدولة الصهيونية وتمهيداً لصفقته معها على حساب الفلسطينيين وسائر العرب. وبوحي من هذا المنطق العجيب، قد يساوي أبو خليل بين مخاطبة السادات للكنيست ومخاطبة عزمي بشارة للمؤسسة ذاتها طوال سنوات (واستمرار رفاقه بمخاطبتها، كما فعلت الجريئة حنين الزعبي أخيراً بعد عودتها من ركوب أسطول الحرية مع من يسمّيهم أبو خليل «الرجل الأبيض»). بل قد يستخلص أن بشارة أسوأ بعد من السادات، إذ إن الأخير لم يدخل قط في عضويةالكنيست! والحال أن هناك حفنة من القومجيّين المتشنّجين ترى مثل ذلك، فتتعاطى مع الأمر بمنطق التحريم التكفيري، عاجزة عن التمييز بين العضوية في الكنيست بغية استخدامه منبراً لمكافحة الصهيونية والدفاع عن حقوق الفلسطينيين، والعضوية فيه تواطؤاً مع الصهيونية. وهذا المنطق التكفيري هو عينه الذي أفصح عنه أبو خليل في ردّه عليّ، ويفسّر إعلانه الاختلاف معي في «الأساليب في كيفيّة تحرير فلسطين، بل في رؤية التحرير بحدّ ذاتها، وحتى في تحليل طبيعة المجتمع الإسرائيلي».
فقد كتب أبو خليل: «تحليل الأشقر يضفي ليبراليّة مثاليّة على الكيان الغاصب، كأن إسرائيل هي مجتمع مفتوح حيث تتصارع فيه الآراء وتتناقض إلى أن يسود فيها الأفضل. يتجاهل الأشقر تجذّر الصهيونيّة في إسرائيل، كما أنه يصوّر دون أن يدري الشعب الإسرائيلي تصويراً يقترب من التصوير الدعائي في تلك الأفلام المُقزّزة التي تروّج لإسرائيل وجرائمها. إنّ الشعب الإسرائيلي مُشارك في جرائم الحرب المتعاقبة التي وسمت التاريخ المعاصر لدولة الكيان الغاصب. هل هكذا يفهم الأشقر بنيان الحكم العنصري في إسرائيل؟ هل يظن أنّ خطاباً محكماً أو مقالة موثّقة تستطيع أن تقضي على الصهيونيّة في إسرائيل؟».
طبعاً، إن معظم ما ورد في هذا التعليق لا يستحقّ الردّ عليه لشدّة سخفه، بما في ذلك السؤال الأخير. لكن ما يهمّنا هنا هو منطق المزايدة القومجية التكفيرية لدى أبو خليل، الذي يتعامى عن كون المجتمع الإسرائيلي ليبرالياً (إزاء أصحاب جنسيته اليهود، وبدرجة أقل إزاء العرب)، مثلما كانت معظم المجتمعات الاستعمارية ليبرالية ـــــ الأمر الذي لا يتناقض مع كونها فرضت أبشع أنواع الاضطهاد على الشعوب المستعمَرة، بل مارس بعضها أنواعاً من الإبادة.
وبما أن أبو خليل يُخبرنا بثقة المخطِّط الاستراتيجي الفذّ للكفاح المسلح أن «نشر الصحافة العربيّة ترجمات عن العبريّة لا يعني التطبيع بأيّ صورة من الصوّر، واستقاء المعلومات عن العدوّ هو جزء لا يتجزأ من الحروب ومن الإعداد للحروب» (بالمناسبة، أنا لم أنتقد قط نشر الصحافة العربيّة لترجمات عن العبريّة بالمطلق، فلست تكفيرياً على طريقة أبو خليل، بل قادر على التمييز بين المغزى من نشر مثل تلك الترجمات في صحيفة «تطبيعيّة» والمغزى من نشرها في «القدس العربي» على سبيل المثال، خلافاً لتبرئة أبو خليل لنشرها بالجملة والمطلق «بأيّ صورة من الصوّر»)، فلا بدّ أنه قرأ مقالات أميرة هاس في «هآرتس»، مثلاً، أو مقالات الراحلة تانيا راينهارت في «يديعوت أحرونوت»، وهي مقالات وزّعها ويوزّعها أنصار الشعب الفلسطيني على نطاق واسع. ولا بدّ أن يكون أبو خليل قد اطّلع أيضاً على كتابات المناضلين اليهود المعادين للصهيونية داخل إسرائيل أمثال إيلان بابي (قبل انتقاله إلى بريطانيا عام 2007) أو ميخائيل فارشفسكي، على سبيل المثال لا الحصر. فهؤلاء اليهود الإسرائيليون المعادون للصهيونية يحيلوننا إلى كون المجتمع اليهودي الإسرائيلي قابلاً للتشقّق مثله مثل أي مجتمع آخر، ولو بصعوبة أكبر لأسباب جليّة.
والقائلون بحلّ الدولة الواحدة، أكثر بعد من القائلين بحلّ الدولتين، إنما يراهنون على تضافر النضال الجماهيري الفلسطيني مع حملة التضامن العالمية مع الشعب الفلسطيني ومع المجهود الأيديولوجي العربي واليهودي المضاد للصهيونية، يراهنون على أن يكون ذلك التضافر قادراً على سلخ جزء هام من اليهود الإسرائيليين عن الصهيونية، بما يفتح الطريق أمام تفكيك بنى الدولة الصهيونية وإقامة دولة واحدة في فلسطين من البحر إلى النهر يتعايش فيها العرب واليهود (لديّ تحفّظ رفاقيّ على هذا التصوّر، لكن لا مجال هنا لمناقشته وقد عبّرت عن رأيي في مجلة «الآداب»، 9/10/2009). أما الاستراتيجية التي أفصح عنها أبو خليل في ردّه عليّ والتي تعتمد الكفاح المسلح وسيلة وحيدة وتحتقر التضامن العالمي، كما ترفض مخاطبة الإسرائيليين بحجة أن «الشعب الإسرائيلي مُشارك في جرائم الحرب المتعاقبة» (منطق قومجي معهود يبرّر القتل العشوائي)، إنما هي بالمحصّلة عين استراتيجية أمين الحسيني ومؤدّاها في أحسن الأحوال «رمي اليهود في البحر»، أو بكلام المفتي، طرد جميع اليهود الذين وصلوا إلى فلسطين بعد عام 1917. هل ذلك، يا ترى، هو ما يفسّر كون ما قلتُه عن الحسيني قد أغاظ أبو خليل إلى حدّ شنّه هجوماً عليّ في جريدة «الأخبار»؟ أميل شخصيّاً إلى تفسير آخر هو أن ما أسماه فرويد «نرجسية الفروق الصغيرة» قد جرّ أبو خليل إلى تعميق الهوّة بيننا إلى حدّ اعتناقه منطق المفتي ـــــ دون أن يدري (كما قال عنّي).
فلنعُد إذاً إلى موضوع أمين الحسيني. وقد أخذتُ في ردّي على أبو خليل أنه «لم يكلّف نفسه عناء قراءة كتابي، وهو الذي يفتخر بكثرة قراءاته وسرعتها، ولم يمنح نفسه بضعة أيام إضافية كي تتسنّى له فرصة قراءته قبل كتابة هجوم على مؤلفه». فأجاب كاتبنا بمنطقه الفريد: «يعيب عليّ الأشقر أنني لم أقرأ كتابه بعد، كأنني زعمت يوماً أنني قرأت كل الكتب المنشورة في العالم». وكأن في ذلك تبريراً لمناقشة كاتب ما دون قراءة كتابه! أو ربّما امتنع أبو خليل عن قراءة كتابي لأسباب تكفيرية، سواء الطبعة الإنكليزية المنشورة لدى دار «متروبوليتان» التي يُخبرنا أنها رفضت أن تنشر كتاباً لجوزف مسعد، بينما يتجاهل أن الدار نفسها نشرت كتاباً لعلي أبو نعمه، صاحب موقع «الانتفاضة الإلكترونية»، إلى جانب كتب عديدة أخرى ناقدة لإسرائيل وللخطاب الصهيوني، ناهيكم بتخصّصها بنشر الكتب الناقدة للإمبريالية الأميركية ــــــ أو الطبعة العربية المنشورة لدى دار الساقي التي يصفها أبو خليل بأنها «تطبيعيّة لا تمتّ بصلة إلى العمل المُقاوم أو حتى إلى نقد إسرائيل»، وهي التي نشرت مذكّرات جورج حبش وسهى بشارة. وإذا كان أبو خليل حريصاً مثل هذا الحرص على مقاطعة المنابر التطبيعيّة، فلماذا، يا ترى، لا يضيّع أي فرصة في تلبية دعوات قناة «الجزيرة» له؟ وهي التي قال عنها ردّاً على إشارتي إلى أنها تستضيف المسؤولين والمثقفين الإسرائيليين الصهاينة: «أمّا استضافة قناة «الجزيرة» المملوكة من العائلة الحاكمة في قطر، فهي تعني الحكومة القطريّة ولا تلزم إلا نفسها، إلا إذا كان الأشقر يرى أن السلالة القطريّة الحاكمة تُعدّ قدوة في التعاطي مع الشأن الفلسطيني، مع أن قطر بادرت إلى التطبيع مع إسرائيل منذ التسعينيات».
ثم ينطلق أبو خليل، جرياً على طريقة ضعيف الحجّة الذي يحاول طمس موضوع النقاش الأصلي، في تعليق طويل على كلمة واحدة عرضية في ردّي عليه عندما ذكرتُ أن أمين الحسيني «روى في مذكّراته أن صديقه هاينرش هِملر أخبره بما سمّاه النازيون «الحل النهائي» في تموز 1943». فيكتب أبو خليل أن «وصف الأشقر لهملر كـ«صديق» للحاج أمين يعني شيئاً واحداً: أنه لم يعدّ لكتابه عن المحرقة إعداداً محكماً، لأن الإشارة تنمّ عن جهل بطبيعة العقيدة النازيّة، وبشخصيّة القائد النازي هذا الذي جمع بين عنصريّة متطرّفة وشعوذة غريبة. أن يظن الأشقر أنّ هملر يمكن أن ينشئ صداقة مع عربي مُسلم يعني أنه يحتاج إلى مزيد من القراءة عن النازيّة وشخصيّاتها». مرّة أخرى يؤدي ادّعاء أبو خليل المفرط إلى كشف جهله المطبق، سواء تعلّق الأمر بالحسيني أو بتاريخ موقف النازيين من العرب والمسلمين (وانقلاب هذا الموقف لأغراض انتهازية مع بداية الحرب العالمية الثانية). والحال أن أبو خليل لم يقرأ حتى مذكّرات أمين الحسيني، ناهيكم بالدراسات العلمية حول هذه المواضيع (التي تختلف اختلافاً شديداً عن كتابات الدعاية الصهيونية). وقد خصّص أمين الحسيني أربع صفحات كاملة في مذكّراته للتقريظ بهاينرش هِملر والافتخار بالصداقة التي جمعتهما والأيام التي أمضاها في ضيافته كل سنة، ملتقياً إياه «في مواعيد الغداء والشاي والعشاء عدا اللقاءات الخاصة»، واصفاً الأحاديث التي كانت تدور بينهما والتي أبدى خلالها قائد وحدات س. س النازية تعاطفه مع الإسلام والمسلمين إلى حدّ تأسفه، حسب رواية المفتي، على دور الألمان التاريخي في صدّ الزحف العربي من الأندلس والزحف العثماني من الشرق، بما أدّى الى «حرمان أوروبا من النور الروحي والحضارة الإسلامية الزاهرة»!
أما أبو خليل فيكتب: «لا نفهم سبب مبالغة الأشقر إلى درجة أنه اختلق صداقة بين الحسيني وهملر، ولا يهمّ هنا وصف الحاج أمين نفسه، الذي أثبت في أكثر من مرّة غباوته الشديدة وقصر نظره». إذاً من يستشهد بوصف أمين الحسيني لصداقته مع هِملر إنما «يختلق»، إذ إن شهادة المفتي لا قيمة لها في نظر أبو خليل إلى حدّ أنه لم يقرأها! والطريقة نفسها غير اللائقة بمن يدّعي صفة المثقف، وكم بالأحرى بأستاذ جامعي، هي التي يعقّب أبو خليل بها على إيرادي نموذجاً من خطابات الحسيني (العديدة جداً، إذ إنه أمضى أكثر من ثلاث سنوات متنقلاً بين برلين وروما مُلقياً الخطبة بعد الخطبة من إذاعتي الدولتين) ردّاً على جزم أبو خليل في هجومه الأول عليّ الذي كتب فيه: «هل نستطيع أن نتهم بناءً على القرائن والوثائق، المفتي الحسيني بمعاداة اليهود، أو باعتناق عقيدة معادية لليهود؟ الجواب سلبي». فيقول أبو خليل إن الخطاب الذي اقتبست منه دحضاً لادعائه هو «محض صياغة نازيّة، والحاج أمين سمح لهم على الأرجح بوضع اسمه على دعايتهم»! كان أشرف بكثير لأبو خليل أن يقرّ بجهله بدلاً من هذا الردّ السخيف. وهو لم يفطن أن الاقتباس كان من خطبة ألقاها الحسيني بصوته من إذاعة برلين، ناهيكم بجهل أبو خليل الكامل بأن مثل هذا الخطاب المعادي لليهود والملتقي مع خطاب اللاسامية الأوروبية صاغه الأب الروحي لأمين الحسيني، رشيد رضا، قبل وصول النازيين إلى السلطة بسنوات (وقد بيّنت ذلك في كتابي). فلم يكن الحسيني أبداً بحاجة لأن يصوغ النازيون خطبه في ما يتعلّق باليهود، كما يخمّن أبو خليل «على الأرجح»، عاجزاً عن تمويه جهله.

ليس تناولي للحسيني سوى حلقة بين حلقات عديدة في دحضي للمرويّات الصهيونية ولتشويهها التاريخ العربي الحديث
وقد رأى أن يستتر وراء باحث محترم، فأضاف: «لا، ليس هناك من دليل واحد على وجود علاقة تحالف عميق بين الحاج أمين والحكم النازي. ولقد تأكّدت من ذلك بعدما راجعت المؤرّخ فيليب مطر، الذي أفنى حياته الأكاديميّة في التنقيب عن كل وثيقة وقصاصة ومعلومة عن الحاج أمين». ها هو أبو خليل يستشهد بكاتب لم يقرأه في مناقشة كتاب لم يقرأه! ولو قرأ حقاً كتاب فيليب مطر حول أمين الحسيني لعلم، أولاً، أن طبعته الأولى صدرت سنة 1988 (والثانية المنقّحة سنة 1992)، ولم ينشر مطر بعد ذلك أي كتاب حول الموضوع، وهو حيّ يرزق. وثانياً، أن الكتاب صغير الحجم لا يزيد عن 190 صفحة، منها ثماني صفحات فقط عن سنوات الحسيني في ألمانيا النازية، يُنهيها مطر متمنّياً أن يكتب أحدٌ غيره دراسة معمّقة عن سلوك الحسيني في تلك السنوات بالاستناد إلى الوثائق الألمانية التي لم يتسنّ له الاطّلاع عليها.
ولو كان أبو خليل أكثر معرفة بالأمور، لعلِمَ أن «الزميل فيليب»، كما أسماه، ردّ على مؤرخ صهيوني أخذ عليه تخصيصه مساحة صغيرة جداً لموضوع تعاون الحسيني مع النازيين ـــــ وذلك في مقال نشره مطر في «مجلّة التاريخ الإسرائيلي» (عدد ربيع 1997) بتأكيده أنه «لا يجوز أن يكون ثمة شكّ في عداء المفتي لليهود»، دون أن يعني ذلك بالطبع أن المفتي اعتنق النازية. وأعاد مطر تأكيد ما قاله في كتابه من «أن الكتّاب الصهاينة كانوا متلهّفين لمحاكمة المفتي كمجرم حرب إلى حدّ أنهم بالغوا في وصف نشاطاته، بينما كان العرب منشغلين في تبرير أفعاله في بلدان المحور إلى حدّ أنهم تجاهلوا الواقع الغامر (overwhelming) في أن المفتي قد تعاون مع أكثر الأنظمة بربرية في التاريخ».
أخيراً، فلو قرأ أبو خليل كتابي لأدرك أن مجهودي مكمّل لمجهود فيليب مطر بالاستناد إلى الدراسات والوثائق (بما فيها الألمانية) التي صدرت خلال العشرين سنة المنصرمة منذ صدور كتابه. ولأدرك أبو خليل أيضاً أن كتابي ليس مكرّساً لموضوع أمين الحسيني كما يظنّ، بل ليس تناولي الحسيني فيه سوى حلقة بين حلقات عديدة في دحضي المرويّات الصهيونية وتشويهها للتاريخ العربي الحديث. وفيما أخذت الأبواق الصهيونية تشنّ هجومات دنيئة عليّ على المواقع الإلكترونية، آسف لأن يكون أبو خليل، وهو كاتب عربي محسوب على اليسار، قد أضاع من وقتي في الردّ عليه.
* أستاذ جامعي