يُقبل العالم بأسره على مشاهدة أحداث مونديال أفريقيا 2010. وفيما نتلهّى بالانتصارات الملوّنة للفرق التي نحبّها، ننسى أنّ الفريق الوحيد الخاسر في المونديال هم الجنوب أفريقيون السود الذين يواجهون فريقاً من نوع آخر، مكوّناً من الثلاثي القاتل: «الدولة الجنوب أفريقية ــ الفيفا ــ الشركات المتعددة الجنسيات»
خليل عيسى *
ينبهر الجميع بالأهداف الجميلة التي تهزّ الشباك في الملاعب الجنوب أفريقيّة الخمسة، المقامة خصيصاً من أجل كأس العالم 2010. لقد جاء وقع «المونديال الأفريقي» في أذهان المشاهدين تماماً كما أراده المسؤولون الجنوب أفريقيون. فهم يريدون من الحدث تغيير الانطباع السائد عن جنوب أفريقيا وتخليص القارة الأفريقية ممّا سمّي «نمطية التشاؤم الأفريقي» (Afropessimism)، أي تغيير صورة «أفريقيا المجاعة والفقر والكوارث» أمام العالم، متناسين أنّ وراء ترويج صورة جذابة كهذه، تكمن حقيقة بشعة هي السياسة الاقتصادية النيوليبرالية التي انتهجتها حكومات جنوب أفريقيا بعد انتهاء فترة الفصل العنصري منذ عام 1994 حتى اليوم. وذلك في مجتمع زاخر بعدم المساواة تحوّل من نظام فصل عنصري بائد إلى «نظام فصل طبقي» متجدد، كما يحلو للباحث باتريك بوند تسميته.
إنّ المونديال نفسه ليس إلّا توريةً هائلة لواقع البلاد الاجتماعي والاقتصادي المهترئ من جهة، وتحقيقاً جديداً لهذه السياسات من جهة أخرى، مما يطرح إشكاليات أخلاقية عدة على المتابع (المستهلك) لهذا الحدث. ومن المفيد تبيان المسافة بين حقيقة جنوب أفريقيا عشية كأس العالم، وبين تسويق ماركة «جنوب أفريقيا الجديدة» التي تظهّرها شاشات التلفزة.

مجتمع في ملعب النيوليبراليّة

ظنّ الجميع يوم 27 نيسان 1994 عند انتخاب المناضل الأممي نيلسون مانديلا رئيساً، أنّ جنوب أفريقيا قد تخلّصت من نظام الفصل العنصري نهائياً. إلا أنّ ما تبيّن بوضوح لاحقاً هو أنّ كل عناصر نظام الأبارتهايد التي خرجت من الباب، عادت لتدخل من النافذة. فقد تحالفت النخبة «السوداء» التي يمثلها المؤتمر الوطني الأفريقي (م.و.ا) والحزب الشيوعي الجنوب أفريقي مع النخبة البيضاء التي سيطرت إبان فترة الأبارتهايد، على حكم الطبقة الكادحة ــــ السوداء بأكثريتها الساحقة ــــ من السكان البالغ عددهم 47 مليون نسمة، والذين يعيش ربعهم على أقل من 1.25 دولار في

كلفة المونديال على اقتصاد جنوب أفريقيا هي أكثر من 4.1 مليارات دولار

اليوم. وكما حدث في الكثير من البلدان الثلاثقارية (آسيا، افريقيا واميركا اللاتينية)، هكذا حصل في جنوب افريقيا. فحركة التحرّر التي كانت تنادي في الأصل بالمبادئ الاشتراكية، اعتنق أعضاؤها اللاهوت النيوليبرالي للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي. وكانت أولى البشائر قد لاحت عام 1993، مع قبول الدولة الجنوب افريقية قرضاً بقيمة 850 مليون دولار من صندوق النقد الدولي تحت شروط سرّية كُشف عنها لاحقاً، تمثّلت في ما سميّ بالتكيّف الهيكلي (Structural Adjustment)، كالخفض الكبير في حجم النفقات العامة والاقتطاع من أجور القطاع العام، الخصخصة وإزالة الحماية الجمركية. إلا أنّ مجيء ثامبو مبيكي رئيساً عام 1999 كان الإيذان الأكبر لقدوم جحيم النيوليبرالية «السوداء»، وذلك من خلال خصخصة قطاعات المياه والكهرباء والاتصالات. وقد بدا الجانب الأكثر سواداً من الكارثة عشية رفع شعار محاربة «ثقافة التخلّف عن الدفع» عند اعتماد شركات المياه العالمية العاملة في جنوب أفريقيا سياسة «استرجاع الكلفة 100%»، وذلك بطلب من البنك الدولي، مما يعني قطع المياه عن المتخلفين عن الدفع فوراً. وقد أسفر قطع المياه المتكرر والكثيف عن المناطق الأكثر فقراً، عن نتائج كارثية في آب 2000، مع أسوأ انتشار لوباء الكوليرا عرفته القارة الأفريقية على الإطلاق. وفي عام 2003، ومع ارتفاع الأسعار ارتفاعاً هائلاً، قُطعت المياه عن أكثر من عشرة ملايين شخص، ولا يزال سكان منطقة سويتو الفقيرة يحاولون إخراج شركة المياه العالمية (السويس) من العمل في جوهانسبورغ حيث إنّ المواجهات مع الشرطة تخلّف أعداداً متزايدة من الجرحى والقتلى. لكنّ تبعات التكيّف الهيكلي في منتصف التسعينيات ستكون كارثية إلى درجة أنّ 73% من السكان اعتبروا أنّ ظروف العيش أيّام الفصل العنصري كانت أفضل!

النتائج الاقتصاديّة للنيوليبراليّة «السوداء»

حصل الوطنيون السود على السلطة ظاهرياً مع السيطرة السياسية لـ(م. و. أ)، لكن البيض أصحاب الشركات والاحتكارات في فترة الفصل العنصري، نقلوا شركاتهم ورؤوس أموالهم الى الخارج بعد فترة حرجة من الركود الاقتصادي بسبب التراكم الزائد لرأس المال (overaccumulation) وانخفاض القدرة على الربح، وخصوصاً بعد أزمة اقتصادية في أيلول 1985 أبعدت قطاع رجال الأعمال عن دعمه المطلق للنظام السياسي الحاكم، ممّا سهّل الطريق لاحقاً لوصول (م.و.أ) الى الحكم. تساوت الأقلية البيضاء والأكثرية السوداء في الحقوق المدنية في جنوب افريقيا «الجديدة»، إلا أنّ الأمر نفسه لم يصح على صعيد إعادة توزيع الثروة والحقوق المتساوية في الاقتصاد الوطني. ومن سخرية القدر، أنّ هروب رؤوس الأموال الى الخارج سمح لهذه النخبة بزيادة مداخيلها بعد سياسة التحرير الاقتصادية التي سادت في بداية التسعينيات عبر الخفوضات الضريبية على أرباح الشركات المتعددة الجنسية، التي بلغت نسبة 14% بين 1994 و1999. ولذلك، فإنّ لائحة «عجائب» النيوليبرالية، «السوداء» هذه المرّة، على الاقتصاد الوطني الجنوب افريقي تبدأ ولا تنتهي مع انهيار العملة الوطنية (الراند) خمس مرّات منذ نهاية الأبارتهايد حتّى اليوم. وقد ترافق كلّ ذلك مع معدّل سنوي لخسارة في عدد الوظائف يتراوح بين 1% الى 4% منذ أوائل التسعينيات حتى اليوم، لتصل نسبة العاطلين من العمل اليوم الى رقم قياسي في العالم بلغ 43% في بلاد يحصل النصف الأفقر من السكان فيه على أقلّ من 10% من الناتج المحلي. كلّ ذلك يعني أنّ النتائج كارثية على مجتمع يصفه الخبراء بأنّه على وشك الانهيار.

نحو مجتمع فصل جغرافي منكوب

لقد اختفت قوانين التمييز العنصري في بلاد المونديال الأفريقي، وحلّت مكانها قدسية الملكية الفردية، معطوفة على هجمة نيوليبرالية مستجدة. كان ذلك هجوماً سافراً على محاولات بناء مجتمع مختلط عرقياً في التسعينيات بعد معاناة السود خلال فترة نظام الفصل العنصري. ولعلّ أوّل تخريب لتلك المحاولات جاء من خلال نصائح البنك الدولي في عدم تطبيق سياسة الإسكان العامة وتسلّم الشركات الخاصة لذلك، فانتهى الأمر ببناء علب سردين أصغر من منازل الإسكان التي كانت تقدّمها دولة الأبارتهايد. بنت تلك الشركات وأصحابها من النخبة الحاكمة تلك المنازل في مناطق نائية عن المدن (وفرص العمل والمواصلات) من أجل تجنب انخفاض أسعار منازلها وعقاراتها. ومن المثير للانتباه هنا أنّ جو سلوفو، وهو رئيس الحزب الشيوعي الجنوب افريقي حينها، كان المستمع الأكبر للبنك الدولي في هذا الشأن، وفي ذلك تحوّل مثير من برنامج شيوعي يتمحور حول الطبقة العاملة الى برنامج نيوليبرالي يتخصص في حماية الطبقة الرأسمالية المسيطرة. أما أسعار تلك العلب البشرية، فقد ارتفع 4 أضعاف منذ عام 1998 حتى اليوم، وذلك بسبب المضاربات العقارية الهائلة، مما يجبر كلّ يوم كميّة متزايدة من الناس على السكن في الأحياء الفقيرة المتوسعة جغرافياً (Slums). لكنّ ما لا يعرفه الكثيرون هو أنّ جنوب افريقيا هي بلد السيدا قبل أن تكون بلد المونديال، وذلك مع 5.7 ملايين مصاب يموت منهم ربع مليون شخص سنوياً. وقد أسهم في نشوء هذا الواقع ثامبو مبيكي من خلال سياسة «إنكار وجود السيدا»، وهو الذي صرّح عام 2003 في مقابلة مع «نيويورك تايمز» أنّه ليس على علم بوجود شخص توفي بسبب الفيروس، أو حتى حامل له! وقد أدّت «سياسة الإنكار» الرسمية هذه إلى الإحجام عن تقديم المضادات الحيوية المجانية من أجل السيطرة على الوباء، مما يحوّل الأمر تطهيراً عرقياً أكثر منه وباءً، وخصوصاً أنّ متوسّط العمر المتوقّع للذكور هو 49 عاماً فقط.

النخبة الجنوب أفريقيّة في خدمة الفيفا

يفرح المشاهد العربي عند مشاهدته المونديال، فيتحسّر على عدم حصول مونديال عربي. ولا تزيد من حسرته إلّا التحليلات الثقافوية الرائجة عن كون المونديال يعيد إنتاج «الهوية الأفريقية»، ويمسح «صورة الألم والتشاؤم الأفريقي» عن أفريقيا، كما صرّح الكثير من المسؤولين داخل جنوب افريقيا وخارجها. وقد ذكر بعض المعلّقين العرب في نوع من الكتابات الاقتصادية الليبرالية المسطّحة وغير المدعومة بأدلّة، أنّ المونديال هو فرصة لزيادة عائدات جنوب أفريقيا عبر السياحة والإنعاش الاقتصادي. فكتب حمدي عبد الرحمن على موقع «الجزيرة» أنّه «على صعيد جنوب أفريقيا، يمثل هذا الحدث لحظة تحول فارقة تحمل إمكانيات صعود لأمة قوس قزح لتصبح قوة لا يستهان بها. كما أنها خلقت روحاً وطنية لا تضاهى». يهمّنا الإشارة في بادئ الأمر، بعيداً عن الرومانسيات التي لا تجدي نفعاً، إلى أنّ الأحداث الرياضية العملاقة كانت دوماً خاسرة اقتصادياً للبلد المضيف. فقد انتهت بلدية مونتريال على سبيل المثال، من دفع تكلفة الألعاب الأولمبية التي أقامتها عام 1976، بعد ثلاثين سنة. فإذا ما استثنينا الألعاب الأولمبية في بكين 2008، ليس هناك حالة واحدة تمكّن فيها البلد المضيف من الربح اقتصادياً، مع أنّ أكثر تلك الأحداث جرت في بلدان غنية تستطيع توفير الأموال المناسبة من دون المساس بمستوى حياة الفرد الاقتصادية والاجتماعية.
فهل يصحّ قيام المونديال في بلد كجنوب افريقيا لديه أعظم قدر من عدم المساواة في العالم؟ إنّ كلفة المونديال على اقتصاد جنوب افريقيا هي أكثر من 4.1 مليارات دولار، وهو رقم قياسي في تاريخ كؤوس العالم. فقد بُنيت خمسة ملاعب جديدة، وجُدّدت خمسة أخرى لن تُستعمل بعد المونديال على الإطلاق. فملعب «النقطة الخضراء» في كايب تاون بُني ليتّسع لـ65000 مقعد، وقد كلّف 580 مليون دولار، علماً بأنّه كان بالإمكان تجهيز ملعب «أثلون» للروغبي، إلا أنّ عنصرية الفيفا كانت السبب في هذا الهدر، إذ أفتى أحد تقاريرها بأنّ «ملياراً من المشاهدين لا يريدون رؤية هذا القدر من الأكواخ والفقر». إنّها ردّة فعل كولونيالية لتجهيل الواقع المزري للسكّان (العمّال) على حساب عدم خدش مشاعر المشاهدين (المستهلكين). كذلك ليس من المناسب مثلاً تذكير المشاهدين المأخوذين باللعب في استاد «نلسبرويت»، أنّ بناء ذلك الوحش الهندسي قد تمّ بعد هدم المدرستين الرسميتين الوحيدتين في المنطقة. أما ملعب «موسى مَبهيدا» العملاق المقام في دوربن مع 70000 مقعد، والذي كلّف 380 مليون دولار، فقد كُنّي باسم مناضل شيوعي معروف ضد حكم الأبارتهايد. لكن طوقاً من 1.5 كلم ضُرِب حول الملعب من أجل منع الفقراء من الاقتراب، أي الأشخاص أنفسهم الذين ناضل من أجلهم مَبهيدا. إنّ فقراء جنوب أفريقيا الذين لا يحصل أكثر من 10 ملايين منهم على الكهرباء، قد هُجّروا أيضاً من أجل بناء الملاعب وتحقيق الأرباح الخيالية لشركات البناء. فقد طُرد 600 شخص من منازلهم التي هُدِمت من أجل بناء الملعب في كايب تاون، وها هم يخيّمون حالياً على أطراف المدينة. والجدير بالذكر أنّ عمليات طرد السكان ليست غريبة على هذا النوع من الأحداث الرياضية. فقد طُرد 700000 شخص في أولمبياد سيول 1988. وفي بكين 2008، وصل الرقم إلى 1.5 مليون شخص. أما في جنوب أفريقيا، فقد تعدَّوا 20000 شخص. كما أنّ كلفة بناء مطار شاكا الدولي بلغت 1.1 مليار دولار، وقد أنشئ خصيصاً من أجل استقبال السيّاح، ما مثّل هدراً مريعاً للمال العام الجنوب الأفريقي. لكنّ المثير للسخرية، هو أنّ الأفارقة أنفسهم لم يستطيعوا مشاهدة المباريات التي تقام على أرضهم. فمن أصل ثلاثة ملايين تذكرة، مئة ألف فقط كانت من نصيبهم. إذ إنّ كلفة التذكرة الرسمية تتراوح ما بين 55 و275 يورو، بينما ربع الجنوب افريقيين يعيشون على دولار واحد في اليوم، مما يفسّر الفراغات التي نراها على المدرّجات خلال المباريات. لذلك فإنّ النداء المنافق لمحاربة العنصرية، الذي أذيع قبل بدء مباراة الربع النهائي بين ألمانيا والأرجنتين، لن يستطيع تغطية الاستغلال الهائل للجنوب افريقيين الذي قام به احتكار تحالف الفيفا والشركات العالمية، الى جانب حكومة جنوب أفريقيا.

ثنائي الاستغلال المونديالي: الفيفا والشركات

الفيفا مسجلة في سويسرا على انّها «مؤسسة لا تبغي الربح»، لكنّ النص شيء والواقع شيءٌ آخر. فلعبة كرة القدم التي عُرِفت دائماً على أنّها لعبة الفقراء، حوّلتها اللعبة الرأسمالية التي أتقنتها الفيفا الى صناعة عالمية تؤمن لها الأرباح الهائلة. لقد أتقن الاتحاد العالمي لكرة القدم الخطة النيوليبرالية هذه المرّة من أجل حماية الشركات العالمية الشريكة له مثل كوكا كولا، سوني، أديداس،الخطوط الإماراتية وهيونداي ــــ كيا موتورز، التي دفعت كلّ منها للفيفا 125 مليون دولار. لم تشترط الفيفا عدم بناء الملاعب في المناطق الفقيرة فقط، بل أيضاً عدم دفع ضرائب على أرباحها، وهذه سابقة ستؤمن لها 3.1 مليارات دولار من الأرباح الصافية معظمها من جرّاء بيع حقوق البث الحصرية. وللمقارنة فقط، بلغت أرباح الفيفا في المونديال الماضي في ألمانيا 1.8 مليار دولار فقط! كما قرّرت الفيفا منع أيّ طرف غير شركائها الرسميين من البيع حول الملاعب وصولاً الى البائعين الجوّالين، ما ينفي حتى إمكانية تسرّب بعض الأرباح الطفيفة الى المجتمع الجنوب أفريقي. وفرضت الفيفا قيوداً على الصحافيين الذين سمحت لهم بالتغطية، حتى لا يتحدثوا عن تلك الوقائع لأنهم يقومون حينها «بتخريب سمعة كأس العالم». وقد مُنع حديثاً عرض الفيلم الوثائقي «فهرنهايت 2010» الذي يتحدّث عن مجازر الفيفا الاقتصادية في المونديال. كما تمّ «تأهيل» الأجهزة الأمنية عبر صرف 6 ملايين دولار، لتسخيرها، حسب شروط الفيفا، من أجل حماية استثمارات الشركات وإزاحة الأولاد من حول الملاعب تحت

طُرد عشرون ألف جنوب أفريقي من منازلهم من أجل بناء الملاعب
عنوان «تنظيف الشوارع»! وقد أوقفت امرأتان هولنديتان كانتا تروّجان لماركة ألمانية من البيرة خلال مباراة هولندا ــــ الدنمارك عبر ارتدائهما قميصين يحملان الماركة المذكورة. كما أوقف رجل آخر بحوزته ثلاثون تذكرة، ولما لم يعط تفسيراً مقنعاً لذلك، حكم عليه بالسجن 3 سنوات خلال 24 ساعة. فالفيفا التي تخرق السيادة الجنوب افريقية بجدارة، اشترطت قيام سلسلة من المحاكم المستعجلة التي تعمل على مدار الساعة طوال الأسبوع من أجل الحكم في أيّة شكوى من المتفرجين الأجانب، وخصوصاً من جرّاء معاداة الأجانب التي وصلت أخيراً الى معدلات غير مسبوقة.
لكنّ الفقراء في ذلك البلد يكافحون أيضاً في سبيل لقمة عيشهم، مستغلّين وجود المونديال في ديارهم. فقد تظاهر عمّال ملعب مدينة دوربن بعد مباراة ألمانيا ــــ أستراليا احتجاجاً على عدم دفع رواتبهم (20 دولاراً)، ونجحوا في انتزاعها بعد معارك طاحنة مع الشرطة استخدم فيها الغاز المسيّل للدموع. أما الألفا عامل في ملعب مدينة جوهانسبورغ، فقد أضربوا عن العمل قبيل مباراة البرازيل ــــ كوريا الشمالية. هذا الواقع الاقتصادي والاحتماعي المهترئ ينبئ بلا شكّ بانفجار قريب.

الكارثة مقبلة: استنتاجات وتحذيرات

من نوافل القول إنّه إذا ما نسينا الأوهام والأحلام بقيام صورة «متفائلة» ما بعد المونديال للقارة الأفريقية، فإنّه من السهل التنبّؤ بأنّ تأثير هدر الأموال من جانب الحكومة سوف يكون كارثياً، وخصوصاً حين يقارب العجز في الخزينة 80 مليار دولار من دون حساب كميّة الأموال الهائلة المعفية من الضرائب التي ستخرج من البلد عبر الفيفا والشركات العالمية، وعندما نعلم أنّ ما خسرته جنوب افريقيا من وظائف منذ 2008 حتى اليوم يقارب المليون وظيفة. وكما كانت الألعاب الأولمبية في أثينا عام 2004 أحد العوامل المؤثرة جداً في اندلاع الأزمة الاقتصادية الأخيرة في اليونان، فليس من المستبعد أن يسبّب المونديال الأفريقي أزمة مماثلة، وذلك مع كلّ الصور الحقيقية عن الواقع الأفريقي التي سنراها ساعتئذٍ واحتمال جدّي لانهيار العملة الوطنية (الراند) للمرّة السادسة على التوالي في مجتمع الفصل الطبقي السائد هناك. إنّ كلّ ذلك يعني أنّ محاولات بعض الدول العربية الحثيثة من المغرب، قطر، مصر وليبيا لاستضافة كأس العالم، ستكون كارثية على شعوبها واقتصادها، وإن كان بعضها يمتلك أموال الريع النفطي، وخصوصاً أنّ بعضها الآخر يمتلك «فصلاً طبقياً» لا يقلّ حدّة عن جنوب أفريقيا، كمصر مثلاً. لذلك، فلا شيء يبرر هدر الأموال الهائلة على حملة علاقات عامة للبلد المضيف بدل أنّ تصرف هذه الأموال في سياق أولويات الشعوب.
أمّا بالنسبة للمستهلك ــــ المشاهد، فإنّ الموقف الأخلاقي لا يفرض عليه مقاطعة المونديال وحسب، بل أيضاً حماية نفسه من تحالف «نخبنا» العربية مع الشركات المتعددة الجنسية من أجل تجنّب مصير مماثل لمصير الأفارقة.
* باحث لبناني