صالح عبد الجواد2ــــ جزء كبير من الشخصيات المستقلة، بمن في ذلك جزء كبير ممن أوردنا أسماءهم أعلاه، سبق لهم أن كانوا مؤطرين حزبيين. لكن ما اعتبروه تجربة حزبية عقيمة قادتهم لاحقاً للعمل المستقل بعيداً عن فئوية الأحزاب والفصائل، ولهذا يمكن النظر إلى مرحلة الاستقلالية في حياتهم كمرحلة أعلى وأسمى. وحتى في أوساط الحزبيين، نلاحظ أيضاً علاقة طردية بين ضعف الفئوية والتعصب، والفعالية والاحترام. فالأقل فئوية منهم كانوا أرفعهم مكانة في أعين الناس كأبو ماهر اليماني (الجبهة الشعبية) وفيصل الحسيني (فتح) والشهيد جمال منصور (حماس).
3ــــ عند تفحص موقف قيادة م ت ف من المستقلين يجب أن نفرّق بين مرحلتين: الأولى، مرحلة الشقيري 1964ــــ1967 الذي شجع المستقلين وآزرهم؛ والثانية، مرحلة عرفات وأبو مازن 1968ــــ2010 اللذين «استوعبا» المستقلين.
الفراغ الناجم عن تراجع شعبية الفصيلين لا يبدو أنه مرشح لأن يملأه المستقلون
الشقيري شجع المستقلين، لأنه هو نفسه شخصية مستقلة غير حزبية، اعتبر نفسه موضوعياً، وفي الوقت نفسه اعتبرهم شبكة دعم له في مواجهة التنظيمات والفصائل (حركة القوميين العرب، حزب البعث، حركة فتح الصاعدة) ولذلك نجده يعطيهم مكانتهم التي يستحقونها داخل مؤسسات منظمة التحرير كاللجنة التنفيذية والمجلس الوطني الفلسطيني. أما في عهد عرفات فقد تراجع دور المستقلين إلى حد بعيد وانحسرت نسبة المستقلين الحقيقيين، إذ إن غالبية الشخصيات فقدت استقلالها الحقيقي حين اتخذت مواقف ذيلية لحركة فتح. ونلاحظ أن عرفات كان معنياً بأن يستمر هؤلاء المستقلون المزيفون في الانضواء تحت عنوان المستقلين، إذ حافظ هذا العنوان على احترامه رغم ما شابه من تآكل وضمور، ولأنه كان يسمح بالالتفاف على الكوتا المحددة لفتح داخل مؤسسات م ت ف.
4ــــ على عكس ما تدّعي «الرواية الفلسطينية الرسمية»، وهو ادعاء ساد في الكتابات السياسية الفلسطينية والغربية بما يشبه الإجماع، فإن جهود عرفات في إضعاف الشخصيات المستقلة وتهميشها في الضفة والقطاع (وخصوصاً قيادة البلديات1967ــــ1980 كبسام الشكعة وعبد الجواد صالح) لم يكن بسبب فزاعة «القيادة البديلة» التي كانت تلوح بها إسرائيل، بل لكونهم قيادة منتخبة من شعبها وعلى أرضها تمتعت بجذور اجتماعية قوية، تحوي في طياتها الطاقات الكامنة لمنافسة زعامة المنظمة، رغم أنها لم تطمح لهذه المنافسة. وقد كانت زعامة المستقلين أكثر تمسكاً بالثوابت، وكانت إزاحتهم من الطريق شرطاً ضرورياً من شروط الطريق الذي قاد إلى أوسلو وما بعد أوسلو من تنازلات و..، ولهذا ليس من الغريب أن تتطابق مواقف المنظمة وإسرائيل وأطراف عربية أخرى منذ عام 1979 على إضعاف قيادة المستقلين في الضفة والقطاع.
5ــــ مشكلة زعامة المستقلين اليوم هي الفردية وحب الزعامة الذي يسود في أوساط بعضهم. مثال مهم: النواب المستقلون من أعضاء المجلس التشريعي لعام 1996 (حيدر عبد الشافي، حنان عشراوي، عبد الجواد صالح، معاوية المصري، عزمي الشعيبي، حسن خريشة ، فخري تركمان، راوية الشوا) رغم اتفاقهم على معارضة السلطة التنفيذية وهيمنتها ونقدهم الفساد وغياب سيادة القانون، إلا أنهم، لاعتبارات شخصية أكثر منها سياسية، لم يستطيعوا أبداً أن يشكلوا قوة سياسية «موحدة منظمة وبديلة» داخل المجلس التشريعي تكون لها انعكاسات وتداعيات في الشارع.
6ــــ تشير كل الاستطلاعات التي أجريت أخيراً في الضفة الغربية وقطاع غزة إلى أن جزءاً كبيراً من الجمهور لم يعد ينظر لأي من الفصيلين الرئيسيين (فتح وحماس) كقيادة موثوقة له بعد بلوغ مشروع وبرنامج الفصيلين المتناقضين إلى طريق مسدود، ورغبته في وجود طريق ثالث بديل، طريق يرفض المفاوضات كهدف بحد ذاته ويحبذ مقاومة مدروسة تتماشى ومقدرات الشعب. ولهذا فإن الغالبية الساحقة من هذا الجمهور تريد وتستعجل، حسبما توضح استطلاعات الرأي، انتخابات تشريعية متزامنة في الضفة والقطاع. وتتفق قيادة السلطة وقيادة حماس على قراءة التحليل نفسه. هذه القراءة هي السبب الرئيسي في تأجيل أبو مازن الانتخابات البلدية لأجل غير مسمى، وعدم رغبة حماس في إجراء هذه الانتخابات من أصله في قطاع غزة. علماً بأن كثيراً من قوائم فتح التي كانت ستخوض الانتخابات كانت بقيادة «مستقلّي فتح».
7ــــ الفراغ الناجم عن تراجع شعبية الفصيلين لا يبدو حتى الآن أنه مرشح لأن يُملأه المستقلون الذين يمثلون تيارات سياسية وفكرية تقدمية وليبرالية متنوعة، فأزمة هذه التيارات بسبب النزعة الفردية لقياداتها وعدم الاتفاق على برنامج واحد بقيادة شخصية مركزية لا تقل تفاقماً عن أزمة الفصيلين. لذا فإن المستقلين اليوم أمام خيارين لا ثالث لهما: الاتفاق على قيادة نظيفة وبرنامج واحد، أو أن يكونوا مجرد حلم لسحابة صيف عابرة!!
* عميد كلية الحقوق في جامعة بيرزيت