أخيراً خرج الشّارع اللبناني في «حراك» لا نملك أمامه غير أن نكون «محكومين بالأمل»، خاصّة وقد بدأ انتشاره في المناطق. يحكمنا الأمل بقدرة هذا الحراك على إحداث اختراق في النظام الطائفي المقيت، المتحكم برقابنا منذ الاستقلال (وليس فقط منذ أربعين عاماً)، والمتحدّر من نظام العائلات «المقاطعجية» اللبنانية التي لُزّمت حكم الطوائف، والمناطق من قبل السلطنة العثمانية.
فالحراك الذي بدأ ببضع عشرات من الشباب الذين تحلّقوا حول حملة «طلعت ريحتكم»، سرعان ما كبر، ككرة ثلج، وأصبح أكبر من هذه الحملة، ومن منظّميها، الذين تفاجأوا بهذا النجاح، الناجم عن تلاقي الحملة مع القرف، وإحساس المواطنين بالإهانة الشخصية من استسهال جميع «ملوك الطوائف» لطمرهم بالنفايات، عندما اختلفوا، علانية، على تقسيم الأرباح الناجمة عن احتكار جمعها. والأمل حقيقيّ هذه المرّة، بسبب طبيعة الحراك، وتدرّجه، وقدرته على التطوّر، حتى وصل إلى ما وصل إليه في تظاهرة 29 آب، وما بعدها. فهذه هي المرّة الأولى التي يتمكن فيها تحرك من هذا النوع من مغادرة الهامش، والاتجاه بقوة دفع، مكّنته من اقتحام قلب المجتمع اللبناني. وقوة الدّفع هذه نتجت، ليس فقط من القرف والإهانة الشخصية التي أحس بها المواطن اللبناني، ولكن أيضاً بسبب تصدي قيادات من طينة شربل نحاس، وحنا غريب، ونزار صاغية، للانخراط في هذا التحرك، والاشتراك في تنسيقه.
ويستفيد التحرّك، هذه المرّة، من تراكم الوجع من الجرائم المرتكبة بحق جميع اللبنانيين، وهو يختلف عن التحركات السابقة لمواجهة النظام الطائفي ومحاولة اختراقه، من نواح عدة. ففي تحرّك «هيئة التنسيق النقابية» في عام 2013، تمكنت الهيئة يومها، بقيادة حنا غريب، من الخروج عن الهامش، ولكنها لم تتمكن من الدخول إلى قلب المجتمع اللبناني بأسره كما يحصل الآن، بسبب فئوية المطالب يومها، واضطرار التحرك آنذاك إلى الاعتماد على جماهير زعماء الطوائف، بسبب الطبيعة الزبائنية للتوظيف في القطاع العام.

يستفيد التحرّك، هذه
المرّة، من تراكم الوجع من الجرائم المرتكبة بحق جميع اللبنانيين

وقد سببت هذه الطبيعة نجاح الانقلاب الذي نُفّذ، في ما بعد، على حنا غريب في هيئة التنسيق، عندما «عادت كل عنزة إلى قطيعها» بين أطراف الهيئة التابعة للأحزاب الطائفية، القابضة على القطاع العام ووظائفه في لبنان. ولكن بالرغم من ذلك، فقد كان التحرّك يومها ومضة أمل حقيقية، لأنها كانت المرة الأولى التي لا يتورّع فيها «ملوك الطوائف» عن الوقوف علانية، وبشكل مباشر ضد شريحة معينة من الناس تضمّ «جماهيرهم» الذين وظفوهم في دوائر الدولة. وبالتالي صار من الممكن عدم تجهيل الفاعل، كما كان يحدث في كلّ مرّة عند اصطدام «الدولة» بمصالح الناس، وبالتالي من الممكن أن يرى أتباع «ملوك الطوائف» أنّ ملوكهم بالذات يقفون ضدهم، وضد مصالحهم المباشرة.
والمختلف أيضاً، هذه المرّة، هو عدم تقبّل منظمي الحراك لاشتراك أيّ حزب من الأحزاب الطائفية، المستفيدة من المشاركة في السلطة، في هذا الحراك، وفي محاولة استغلاله، وركوب موجته. وكان هذا الأمر قد أجهض حراك «إسقاط النظام الطائفي» الذي حصل في عام 2011 عند اندلاع الثورات العربية. وقد نزل ممثلو الأحزاب الطائفية يومها إلى «الخندق» مع الناس الذين تحرّكوا لإسقاط نظام هذه الأحزاب ذاتها، واستطاع هؤلاء تفريغ التحرّك من محتواه، واستيراد النزاعات الطائفية إليه. أمّا هذه المرّة، فقد عبّر أطراف السلطة الطائفية، جميعهم، عن ضيقهم من الحراك، وتهجّموا عليه، محاولين تشويه صورة القائمين به. وقد كان عجيباً فعلاً اتهام تيار المستقبل، ومستكتبيه (من أمثال علي حمادة) لسرايا المقاومة بالوقوف خلف التحرّك، واتهام بعض أطراف فريق 8 آذار لمنظمي الحراك بالعمالة للسفارة الأميركية. ولكن كان جميلاً مشهد طرد الوزير، الياس أبو صعب، الذي حاول النزول إلى ساحة الحراك، واستجداء لقطة تلفزيونية مع المعتصمين (وكان ذلك طبعاً قبل أن يتّخذ ميشال عون موقفه النهائي من التحرّك). وكان أجمل من ذلك اضطرار وليد جنبلاط إلى سحب محازبيه، الذين أرسلهم في بدايات التحرّك، واضطرار نبيه بري إلى الدفاع عن نفسه، عند اتهامه بإرسال من يخرّب المظاهرات، وإلى تأكيد عدم إرساله أحد من محازبيه. أما الهجوم الأكثر كاريكاتورية، فقد أتى من ميشال عون، الذي عبّر عن أسفه لسرقة الحراك لشعاراته. تلك الشعارات التي كان قد رفعها، ثم خبأها، ثم رفعها من جديد، ليعود ويبيعها في بازار الرئاسة، ومن ثم ليحاول استعادتها عندما قُضي الأمر، وتأكد من أنه لم يبق أحد، في لبنان والخارج، لم يضحك عليه، ويأخذه إلى البحر ويعيده عطشاناً أكثر إلى رئاسة لن تأتي.
لذلك كلّه، الأمل حقيقي هذه المرّة. لكن رغم الأمل، لا يمكن المرء أن ينسى أن ميزان القوى بيننا، وبين «ملوك الطوائف» لا يقارَن إلّا بميزان القوى بين العرب وإسرائيل، من شدّة ميلانه إلى مصلحة هؤلاء الملوك. ومسؤولية منظّمي التحرّك كبيرة جداً، من حيث الإبقاء على الزخم الذي اكتسبه هذا التحرك في 29 آب، عبر الإبقاء عليه كتحرك موحّد، وجامع لكلّ القوى والاتجاهات والأفراد، المتفقة على محاولة التخلص من نظام «ملوك الطوائف» اللبنانية. والحقيقة أن التمسك بوحدة التحرك هو العامل الأكثر أهمية في تحديد إمكانية نجاحه في إحداث الخرق المطلوب في جدار النظام الطائفي في البلد. ونتمنى أن يتمكّن القائمون على الحراك من الحفاظ على هذه الوحدة، عبر الاتفاق على آليات العمل، واتخاذ القرارات، وعبر ترحيل الخلافات حول بعض المواقف إلى مرحلة لاحقة. فالمعركة طويلة جداً، وصعبة جداً، وتتطلّب تجميع كل الطاقات المستعدة للانخراط فيها، حتى لو لم تتفق هذه القوى على كل شيء. فالمطلوب اليوم هو الاتفاق، بالحدّ الأدنى، على واجب العمل للتخلّص من النظام الطائفي، ومن ملوكه. أما باقي الأمور، فيمكن قبول الاختلاف حولها، ونقاشها ديموقراطياً، لكون ميزان القوى في هذه المعركة لا يحتمل غير ذلك، خاصةً أن الحراك يعاني من الأخطار المحيطة به من عدة جهات وجوانب. فالهجمات الإعلامية «الغوبلزية» تشنّ عليه من جميع الجهات الطائفية، حيث تستخدم الإمكانات الإعلامية الهائلة في فبركة الأكاذيب حول قيادات الحراك، وحول التحركات اليومية على مدار الساعة. والحقيقة أنه إذا كان الهجوم المنظّم على التحرك، من قبل الزعامات الطائفية في البلد، القديمة منها والمستحدثة، مفهوماً ومتوقعاً، فممّا يصعب فهمه هو بعض الهجمات من جهات لا تمتّ إلى الطوائف والطائفية بصلة (مثل الصديق عامر محسن على صفحات «الأخبار»). وقد استُلّت في هذه الهجمات بعض المقاييس الشديدة التزمّت يسارياً، وجرى قياس التحرك، والقائمين عليه، والمشتركين به على أساسها، بحيث أُعطوا جميعهم علامة راسبة بناءً على ذلك من أول الطريق، ومن دون إعطاء أي أهمية لانعدام التوازن في موازين القوى بيننا وبين أركان النظام الطائفي المتحكّم بنا. والنقاش الصريح ضروري في هذا الأمر، فإذا كان الحرص على المقاومة هو من دوافع هذه الهجمات، فإنّ هذا الحرص – الذي نتشاركه مئة بالمئة مع الحرصاء على المقاومة – لا يكون بالضيق من الحراك، بل بالانحياز إلى مواطني هذا البلد. فـ»حزب الله» جرّب بناء الحصون لحماية المقاومة، بواسطة جميع أنواع التحالفات مع مختلف القوى الطائفية في البلد. لكن عصفورة الـ»ويكيليكس» أخبرتنا أن جميع هذه القوى – بمن فيهم أقرب الحلفاء للحزب – كانت مستعدة لتركه لمصيره في تموز 2006، لو قدّر له أن ينهزم في الحرب يومها. ومن لم يتآمر ويحرّض على المقاومة مباشرةً من هذه القوى، كان يعمل جاهداً لحفظ «خطوط العودة» بواسطة مبعوثيه من الصفين الثاني والثالث للدبلوماسيين الأميركيين في بيروت. فطبيعة القوى الطائفية الحاكمة في لبنان ما زالت هي ذاتها منذ أيام حكم العائلات «المقاطعجية» أيام السلطنة العثمانية، والقاعدة الثابتة الوحيدة لديهم هي الاتجاه كيفما اتجهت الريح الدولية من حول لبنان.
إذاً فالحماية الحقيقية للمقاومة لا يمكن أن تأتي من هذه القوى، بل من القوى الحيّة في المجتمع اللبناني، التي تشعر بالعداء «الطبيعي» تجاه إسرائيل. و»حزب الله» مُطالب باتخاذ قرار تاريخي بوقف تغطية فساد حلفائه من القوى الطائفية، من داخل بيئته المذهبية ومن خارجها، على حدٍّ سواء، وبالانفتاح على جميع القوى الحية المشتركة في الحراك الحالي، والتعاون معها للخلاص من النظام الطائفي المقيت. فالفرصة السانحة اليوم، بوجود قيادات من أمثال شربل نحاس وحنا غريب، اللذين وقفا مع المقاومة من دون مقابل، وبقيا مع المقاومة حتى بعد أن انحاز «حزب الله» ضدهما، في المعركتين المطلبيتين اللتين خاضاهما، واشترك مع باقي القوى الطائفية فى إطاحتهما، ليس من السهل أن تتكرر.
يبقى أن نقول: إن المواجهة ما زالت في بداياتها، والامتحان الحقيقي يكون يوم يتمكّن الحراك من الوصول إلى إحداث اختراق حقيقي للآراء العامة المذهبية في البلد، وتحويل هذه الآراء العامّة من التبعية لـ»ملوك الطوائف» والقفز بها إلى الجهة المقابلة. فيوم يفقد ملوك الطوائف القدرة على إيصال أي «عصا» إلى البرلمان، ويوم يفقدون القدرة على إنزال «جماهيرهم» إلى الشارع، واستعمالهم في التهديد بحرب أهلية ساعة يشاؤون، يكون الانتصار الحقيقي في هذه المعركة. وغنيٌّ عن القول أننا بغاية الشوق إلى هذا النهار.
* كاتب لبناني