داوود خير الله*إن الذي اغتال الرئيس رفيق الحريري أراد إشعالَ الفتنة الداخليّة في لبنان. هذا ما تؤكده الوقائع التي أعقبت عملية الاغتيال بأبعادها جميعاً. فالانقسام السياسي والمذهبي الذي انفجر حادّاً إثر عملية الاغتيال، لا يزال يتفاعل حتى يومنا هذا، والإجراءاتُ القضائية الدولية التي اتُّخذت حتى اليوم لم تساعد في وأد الفتنة كما قد يتوقع المرء عندما تأخذ العدالة مجراها. لا بل إن تلك الإجراءات قد عمّقت الخلافات الداخلية وزرعت الشكوك وأوقعت الظلم، كما حصل حين اعتُقل الضباط الأربعة الكبار لمدة أربع سنوات نتيجةَ إفادات شهود الزور الذين عدّت المحكمة الدولية نفسَها غيرَ مسؤولةٍ عن ملاحقتهم، وغير ذات صلاحية في ذلك.
الجريمة المروّعة التي أودت بحياة الرئيس رفيق الحريري ورفاقه ليست من جرائم الحرب ولا الجرائم بحق الإنسانية، وبالتالي هي ليست جريمةً بحق المجتمع الدولي بعامة، بل هي جريمةٌ بحق المجتمع اللبناني أساساً، وخاصة أن مفاعيلها كانت ولا تزال تُنذر بفتنةٍ داخلية تهدد السلم الأهلي في لبنان. فلبنان، بأطيافه كافةً، لا بالنسبة إلى أولياء الدم فقط، له الحق، لا بل عليه واجبٌ وطني بأن يقوم بكل المستطاع لكشف الجناة أياًَ كانوا، ووأد الفتنة. ونطرح في ما يأتي اقتراحاً لعلَّ فيه محاولةً لبلوغِ هذا الهدف.
لقد أخذنا في الاعتبار المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، بكل ما عليها وما لها سلباً وإيجاباً. وكذلك أخذنا في الاعتبار الالتزامات الدولية للبنان مع افتراض قانونيتها، وهذا أمرٌ مشكوك فيه. ويأتي الاقتراح في ضوء المصلحة الوطنية التي يمثّل بلوغ العدالة ركناً أساسياً من أركانها، وبالنظر إلى الشكوك التي تسود لبنان بشأن صدقية المحكمة الدولية، وخاصةً لجهة التحقيق ومرحلة ما قبل المحاكمة، وهي شكوكٌ يكفي لتبريرها اتهام مسؤولين في الحكم واعتقالهم لمدة أربع سنوات بناءً على شهاداتٍ كاذبة لشهود زور لم يُلاحقوا أو يُحقَّق معهم لجهة الأطراف المحركة لهم. وكذلك في ضوء القرائن والأدلة التي أعلنها الأمين العام لحزب الله بشأن ضلوع إسرائيلي في عملية الاغتيال، فضلاً عن مجموعة من العملاء الذين شغّلتهم إسرائيل، ومنهم من كان يَشغل مواقعَ حساسة، وخصوصاً في قطاع الاتصالات، حيث يمكن التلاعب بسجلات المكالمات الهاتفية. أضف إلى ذلك أنّ الإجراءات القانونية التي اعتمدتها المحكمة تضمن عدم الكشف عن مصدر المعلومات والأدلة الجرمية إذا لم يسمح المصدر بذلك.
من هنا، بهدف تبديد الشكوك في صدقية المحكمة الدولية واستقلالها عن المآرب السياسية لبعض القوى ذات الدور الأساس في إنشائها، وكذلك سعياً لرأب الصدع القائم في لبنان منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري حول تجرّد الإجراءات القضائية التي اتُّبعت في التحقيق الدولي وكمال هذه الإجراءات وعدالتها، وملاحقة المسؤولين عن تلك الجريمة، نطرح الاقتراح الآتي:
تأليف هيئة وطنية قوامها أفرادٌ مشهودٌ لهم بالنزاهة والكفاءة، وتتمثل فيها الأطراف المعنية باغتيال الرئيس رفيق الحريري، مهمتها جمع القرائن والأدلة المتوافرة وتقديمها كوثائق أو مقترحات للمدعي العام لدى المحكمة الدولية الخاصة بلبنان الذي يتولى العمل عليها بموجب منهجيةٍ وإجراءات يُصار إلى الاتفاق عليها بين الهيئة الوطنية والمدعي العام لدى المحكمة الدولية بهدف إجراء تحقيقٍ شامل تتوافر فيه كل عناصر الموضوعية والمهنية بُغيةَ الكشف عن الجهة أو الجهات المسؤولة عن اغتيال الرئيس رفيق الحريري. إن إنشاء مثل هذه الهيئة يمثّل سبيلاً لاستعادة بعض السيادة التي تنازل عنها لبنان بتخلّيه عن حقه الحصري في التحقيق وملاحقة كل مرتكب جريمة على أرضه ومقاضاته، وذلك ابتغاءً للعدل ودرءاً لإشعال فتنةٍ وُضع عودُ ثقابها في أيدٍ خارجية، وهي أيدٍ تُظهر الوقائع أنها تفتقر إلى الضمانات لبلوغ العدالة أو لدرء الفتنة.
إن إنشاء هذه الهيئة الوطنية هو بمثابة تصحيح لخطأ التسرّع في التنازل عن السيادة وفي إقامة المحكمة قبل أن تنهي لجنة التحقيق الدولية عملها وتضع تقريرها النهائي الذي كان يعود إلى القضاء اللبناني أن يتبناه أساساً لقرارٍ اتهامي. ذلك أن لجنة التحقيق الدولية، بموجب قرار مجلس الأمن الرقم 1595 الذي أنشأها، كانت تعمل في ظل السيادة اللبنانية وتقوم بدورٍ مساعد للسلطات اللبنانية في التحقيق. إن مبدأ الفصل بين التحقيق والمحاكمة هو في صلب ضمانات بلوغ العدالة في القضاء الجنائي. لذلك لا يمكن الزعم أن في استعادة بعض السيادة اللبنانية في مرحلة التحقيق افتئاتاً على صلاحيات المحكمة أو طعناً بنزاهتها، وخاصةً أن الناطقين باسم المحكمة طالما أعلنوا أن جهاز التحقيق وكل ما يقوم به المدعي العام منفصل ومستقلٌ كلياً عن سلطة المحكمة.
وإذا كان لبنان مشاركاً ويمارس رقابةً على مجريات التحقيق، فليس لديه ما يخشاه من المحكمة الدولية لأن المحاكمة علنية وتتوافر فيها عادةً الضمانات اللازمة لمحاكمةٍ عادلة.
إن ما يدعو إلى القلق ويبرر الشك، وخاصة في ضوء ما خبِرَ لبنان من تجاوزات وعدم التقيّد بمبادئ أساسية في التحقيق الجنائي، يكمن بالدرجة الأولى في مرحلة التحقيق، وذلك لأن التحقيق يخضع لمبدأ السرية. وفي وضع المحكمة الخاصة بلبنان، لا يخضع القيّمون عليه لأيّةِ مساءلة أو رقابة قضائية أو إدارية أو سياسية سوى رقابة اللجنة المالية الممثِّلة للدول الممولة للمحكمة، الأمر الذي يضيف علامة استفهام كبرى حول استقلالية التحقيق. يُضاف إلى ذلك أن المدعي العام، والذين يعملون معه جميعاً، يتمتعون بحصانة حيال أيةِ مساءلةٍ أو مراجعةٍ قضائية بالنسبة إلى أي عملٍ مخالفٍ للقانون يمكن أن يأتوه إبان القيام بعملهم. إنّ التحقيق هو المرحلة التي تُكوّن خلالها الأدلّة وتُجمَع التهم وتُحَدَّد، ودور المحكمة يكاد يُقتصَر على قبول الأدلة أو ردها وتثبيت التهم أو نفيها.
إن للبنان مصلحةً جوهريةً، لا بل لديه واجبٌ وطني في إقامة هيئةٍ هدفها مساعدة التحقيق ومراقبته على النحو الذي تقدم. فإذا رفض المدعي العام لدى المحكمة الخاصة بلبنان الدخول مع السلطة اللبنانية في اتفاقٍ أو مذكرةِ تفاهم بشأن الإجراءات الواجب اتباعها لإعطاء فاعليةٍ للاقتراحات والأدلة المقدمة من الطرف اللبناني بحجة أن ذلك يستدعي تعديلاً للاتفاقية التي تمثّل الأساس القانوني للمحكمة، فعلى الحكومة اللبنانية عندئذ أن تطلب هذا التعديل. إن في ذلك مناسبةً لإزالة بعض الشوائب التي تهدد قانونية المحكمة من طريق الموافقة على الاتفاقية المعدّلة بحسب

مهمة الهيئة جمع القرائن والأدلة المتوافرة وتقديمها كوثائق أو مقترحات للمدّعي العام الدولي

الأصول الدستورية اللبنانية، بما في ذلك موافقة مجلس النواب على الاتفاقية المعدّلة، الأمر الواجب دستورياً، الذي لم يحصل بالنسبة إلى الاتفاقية القائمة حالياً بين لبنان والأمم المتحدة. وهذا أمرٌ بمنتهى الأهمية إذا أردنا للعدالة أن تأخذ مجراها وأن تتمكن المحكمة من إصدار أحكامها بصورةٍ قانونية. إنني على يقين من أن الطعن بقانونية المحكمة لدى المحكمة نفسها أمرٌ مؤكد من أي متهم، وهو سيلقى نصيباً كبيراً من النجاح بسبب العيوب الفادحة التي شابت إنشاء هذه المحكمة، بما في ذلك مخالفة القانون الدولي العرفي والوضعي، وبخاصة المادة 46 من اتفاقية فيينا بشأن المعاهدات الدولية. لقد اعتبرت محاكم جنايات دولية خاصة أن لها اختصاصاً للنظر بقانونية إنشائها. أما إذا رفض مجلس الأمن تعديل الاتفاقية المنشئة للمحكمة الدولية الخاصة بلبنان بحيث يعيد إلى لبنان سيادةً تتمثل في دورٍ مساعدٍ على سد الثُّغر في التحقيق ومراقبة مجرياته، وهذا ما يُرجّح حصوله، وخاصةً إذا أدركت الدول المنشئة للمحكمة الدولية أن أصابع الاتهام يمكن أن تشير إلى إسرائيل فينكشف بذلك الهدف الأساس من إنشاء المحكمة الدولية، فعلى الحكومة اللبنانية عندئذ أن تعلن انسحابها من الاتفاقية المنشئة للمحكمة الدولية، بما في ذلك الامتناع عن دفع المبالغ المترتبة عليها وسحب قضاتها من المحكمة واستعادة الدولة اللبنانية سيادتها الكاملة في تطبيق القانون اللبناني على أراضيها إن لجهة التحقيق أو المحاكمة، وأن تعطل بعملها هذا الهدف الأساسي من اغتيال الرئيس رفيق الحريري، ألا وهو تحويل هذا الاغتيال إلى فتنةٍ داخلية.
* أستاذ في القانون الدولي
بجامعة جورج تاون في واشنطن