عبد العلي حامي الدين *إحدى عشرة سنة مضت من حكم الملك محمد السادس. عشرات المقالات والتحليلات والتقارير المفصّلة، المحلية والدولية، كتبت لتقويم حصيلة هذه الفترة بإنجازاتها وإخفاقاتها وإكراهاتها وانتظاراتها. تقويم حصيلة عمل رئيس الدولة في النظام الملكي يختلف عن تقويم حصيلة الرؤساء الذين وصلوا إلى السلطة عن طريق الانتخاب، لأن محطة الانتخابات تكون لتجديد الثقة أو سحبها حسب نوعية الحصيلة.
في المغرب لا أحد يطرح تقويم الحصيلة في سياق المحاسبة، بل في سياق الأمل بغد أفضل في ظل ملكية دستورية ديموقراطية.
عشر سنوات من الحكم في ظل دستور يعود إلى سنة 1962 عُدّل أربع مرات في سياقات سياسية مختلفة ليعبّر عن إرادة الجالس على العرش وليستقر في شكله الحالي منذ تعديلات 1996، وهو يعبّر في نهاية المطاف عن نظام سياسي قائم على ملكية تنفيذية ذات طابع رئاسي تهيمن على جميع المؤسسات وترجع لها الكلمة الأخيرة في اتخاذ القرارات المهمة للدولة المغربية.أغلب المراقبين في الداخل والخارج يسجلون بإيجابية ما تحقق في المغرب خلال فترة حكم الملك محمد السادس من إنجازات على الصعيد السياسي والاقتصادي والاجتماعي والحقوقي، إنجازات لم تخف ملاحظات العديدين لمجموعة من الإخفاقات والتعثرات...
فعلى مستوى الإنجازات:
ـــــ تدشين مسلسل الإنصاف والمصالحة والنظر في الانتهاكات الجسيمة التي عرفها المغرب منذ 1956 إلى 1999 وجبر الضحايا والكشف عن جزء معتبر من حقيقة الاعتقالات التعسفية والاختفاءات القسرية التي حصلت في المغرب، لكنّ توصيات الإنصاف والمصالحة لم تأخذ طريقها إلى التنفيذ بعد مرور أكثر من خمس سنوات على تصديق الملك عليها.
ـــــ إقرار مدوّنة الأسرة والاعتراف القانوني بمجموعة من الحقوق التي لم تكن في السابق.
ـــــ انطلاق مجموعة من الورشات الاقتصادية الكبرى التي عمّت البنية التحتية والمشاريع المهيكلة الكبرى.
ـــــ انفتاح إعلامي واضح لم يستقر بعد كسلوك راسخ للدولة تجاه حرية التعبير، وما زال هناك سقف من الإكراهات والممنوعات التي تعرقل قيام الصحافة والإعلام بوظائفهما الطبيعية في المجتمع الديموقراطي.
أما انتظارات المغاربة فتتطلع إلى قضايا أخرى:
ـــــ إصلاح القضاء وتحقيق استقلاليته عن السلطة التنفيذية وعن لوبيات المصالح، والارتقاء به إلى سلطة حقيقية فوق الجميع وتحرص على مصالح الجميع في إطار سيادة القانون ولا شيء غير القانون.
ـــــ توفير تعليم عمومي منتج وكسب رهان الجودة فيه وذلك عبر إعادة النظر في مؤسساته ومناهجه وتوفير الشروط الضرورية الكفيلة بتنزيل برامج الإصلاح.
ـــــ الحد من الفساد المالي والإداري ومحاصرة ظاهرة الرشوة وتعزيز أدوات الرقابة والشفافية ووضوح مسالك صرف المال العام، وضخّ جرعات جديدة في مجال تخليق الحياة العامة.
ـــــ الحدّ من الفقر وتوفير حد أدنى من العيش الكريم ومحاولة ردم الهوة الساحقة بين الأغنياء الذين يزدادون غنى والفقراء الذين يزدادون فقراً ويكتوون بغلاء الأسعار وارتفاع كلفة المعيشة.
إن التقويم الذي أنجز لهذه المرحلة ينتهي إلى خلاصات متعددة، من أبرزها أن الـ11 سنة الأخيرة كانت مليئة بالمفارقات والتناقضات، فما تحقق في مجال التنمية الاقتصادية رافقه تراجع واضح في مجال التنمية الاجتماعية واتساع الهوة بين الفقراء والأغنياء وتقلص الطبقة الوسطى، كذلك فإن الشجاعة التي فتح بها ملف الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، لم تعقبها شجاعة موازية لإغلاقه إلى الأبد ووضع الآليات الضرورية لمنع تكرار ما حصل في الماضي، وذلك عبر تفعيل توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة، القاضية بضرورة إقرار إصلاحات مؤسساتية عميقة، وإصلاح القضاء، وإصلاح نظام الشرطة والسجون، وتحقيق درجة من الحكامة الأمنية تمنع انتهاك حقوق الإنسان في مخافر الشرطة، وتنهي مرحلة المعتقلات السرية التي يُستنطق فيها المتهمون في ظروف غير قانونية، وتُنتزع فيها الاعترافات بواسطة التعذيب، وخاصة بالنسبة إلى الملفات المرتبطة بمكافحة الإرهاب.
السؤال الذي ربما لم ننتبه إليه جميعاً هو: هل نموذج التنمية «من فوق» الذي يُعتمد اليوم سيكون على حساب المؤشرات الديموقراطية؟ وهل دخلنا في مرحلة يتبنّى فيها المغرب معادلة «التنمية بدون ديموقراطية»؟
مقترح الحكم الذاتي والمبادرة الوطنية للتنمية البشرية وعدد من المشاريع الاقتصادية الكبرى كلها مبادرات ملكية صرفة، وهناك اهتمام شخصي من قبل الملك بتتبّع عمليات الإنجاز والتقويم المرتبطة بهذه المشاريع. بل إن الاهتمام الملكي انصبّ على تدشين بعض المشروعات الخدماتية البسيطة في مختلف مناطق المملكة. وهو ما يعني أننا بصدد ترسيخ نموذج تنموي ينطلق من الأعلى ويحصر جميع المبادرات النوعية في أعلى قمة هرم الدولة، وهو ما سيسهم في المزيد من الاعتقاد بأن هناك مؤسسة واحدة هي التي تشتغل في البلاد بينما يغطّ الجميع في نوم عميق !!
إن «نظرية التنمية من الأعلى» تطرح إشكالاً مؤسساتياً عميقاً بشأن دور باقي المؤسسات وباقي الفاعلين، وتؤثر بالتالي في صورتهم بالنسبة إلى المواطن العادي.
إن ما تحقق من إنجازات على الصعيد الاقتصادي والتنموي لا ينبغي أن يُخفي عنا ما يرافقه من تراجع على مستوى ثقة المجتمع بالمؤسسات التمثيلية من حكومة وبرلمان ومجالس جماعية، وهو ما تعكسه النسب المتدنية للمشاركة في الانتخابات، وهو موقف يتأسس على كون الانتخابات تنتج مؤسسات بدون قيمة سياسية حقيقية.

هل نموذج التنمية «من فوق» سيكون على حساب المؤشرات الديموقراطية؟
من المؤكد أن الخطاب الرسمي يرى أنه لا تراجع عن الخيار الديموقراطي، لكن من المؤكد أيضاً أن جميع المؤشرات المرتبطة بالديموقراطية تعرف تراجعات مقلقة. فالانتخابات لم تخرج عن سياق الضبط والتحكّم رغم تراجع أسلوب التزوير المباشر، وذلك بالاحتفاظ بثغر التقطيع الانتخابي، والتلكّؤ في مراجعة اللوائح الانتخابية، واعتماد نمط اقتراع لا يقطع مع خيار البلقنة، والحرص على عدم اعتماد بطاقة التعريف الوطنية في التصويت. والأخطر من هذا كله هو الاستمرار باعتماد قاعدة «الحزب الأغلبي» الذي يتأسس عشية الانتخابات ويحصد الرتبة الأولى من حيث النتائج.
كذلك فإن النيّات الطيبة التي جرى بها الحديث عن إصلاح القضاء خلال الإحدى عشرة سنة الأخيرة استنفدت أغراضها وأصبح المغاربة يتطلعون إلى إجراءات ملموسة تعيد إليهم الثقة بالعدالة التي تكون مستأمنة على حقوقهم وعلى مصالحهم وعلى ثرواتهم، على قاعدة المساواة أمام القانون بين الجميع.
كذلك فإن التقدم الحاصل في مجال حقوق الإنسان لا يلغي التجاوزات المرتكبة في هذا الباب، وخاصة بالنسبة إلى المعتقلين على خلفية «مكافحة الإرهاب»، ومن أبرزهم معتقلو ما يسمّى «السلفية الجهادية» والمعتقلون السياسيون الستة ومن معهم.
لكن من الإنصاف أن نقول إن الاختلالات ذات الطابع المؤسساتي ليست مسؤولية الدولة وحدها، بل هي مسؤولية الأحزاب السياسية أيضاً، وهو ما يستدعي نقاشاً عميقاً في طبيعة الإصلاحات المؤسساتية والسياسية والقانونية المطلوبة في المرحلة المقبلة.
* باحث، وعضو المجلس الوطني
لحزب العدالة والتنمية المغربي