لا زلت أذكر وأنا تلميذ جامعي قبل 25 عاماً هنا في كندا كيف سخر بعض الشباب اللبناني من غناء فيروز كما سخروا من الأرزة ومن رموز لبنانية أخرى. ووصلنا اليوم إلى منحدر لا يرى البعض في هذه المرأة العبقرية سوى أنّها «تعاقر الخمر».
أمّا أنا فلا أزال أعتبرها أمّي الثانية، فهي السبب الأول والنقي لانتمائي ومحبتي للبنان. هي التي تحوّلت من مشاركِة في كورس الإذاعة اللبنانية في الخمسينيات إلى آلهة الفولكلور والهويّة اللبنانية خلال أقل من عقدين من الزمن. وهو إنجاز نادر بين الأفراد، لم تستحوذه حتى أم كلثوم في مصر والتي قد تكون كوكب الشرق ولكن الهوية المصرية المعاصرة لم تتأسّس على الفن الكلثومي كما تأسّست إلى حد كبير الهوية اللبنانية على مشروع فيروز والأخوين الرحباني. فقد أعطت فيروز والمؤسّسة الرحبانية لبنان أكثر مما أعطاه عبدالوهاب وأم كلثوم لمصر.
وجود فيروز انتشر في كل البلدان كأيقونة وكسفيرة النجوم. ارتبطت أولاً بإذاعة الشرق الأدنى في فلسطين وبالقضية الفلسطينية بعد حرب 1948، وكذلك بإذاعة «صوت العرب من القاهرة» وبإذاعة دمشق لأكثر من 12 عاماً. فقد ذهبت إلى القاهرة بعد زواجها من عاصي عام 1955 بعقد لمدّة ستة أشهر لتقديم أغنيات وأناشيد للقضيّة الفلسطينية ومنها مغناة راجعون وأغنيات عن القدس وفلسطين انتشرت ونجحت بفضل إذاعات مصر ولبنان وسورية، وبقيت كلاسيكيات خالدة وخاصة بعد صعود العمل الفدائي الفلسيطيني في الستينيات.
لدرجة أنّ الصحافي في جريدة «النهار» ميشال أبو جودة كتب أنّ فيروز والرحابنة هم «آباء العمل الفدائي». أمّا محمود درويش فقد رأى أنّ فيروز والرحابنة قدّموا للأغنية الفلسطينية أكثر من أي مبدع آخر. وحتى اليوم وعلى مدى نصف قرن لا تزال إذاعات فلسطينية تفتتح برامجها وتختمها بأنشودة «راجعون». وقدّمت فيروز أغاني سيّد درويش فلاقت نجاحاً باهراً، حتى أنّ جمعية سيّد درويش في مصر قدّمت لفيروز عضوية فخريّة لنشر أغاني سيّد درويش وابقائها حيّة في الإذاعات والتسجيلات وبقيت تغني «زوروني كل سنة مرّة» لسيّد درويش في كل حفلة.
وجود فيروز انتشر
في كل البلدان كأيقونة وكسفيرة إلى النجوم

أمّا في لبنان فقد ارتبط اسم فيروز خاصة بمهرجانات بعلبك الدولية منذ 1957، ومن هناك حقّقت قفزة دراماتيكية وذاع صيتها في الدول العربية وأنحاء العالم، كفنانة لبنانية تقدّم لبنان للخارج، كما كانت فرقة البولشوي وفريق الجيش الأحمر للموسيقى يقدمان روسيا. وكانت الصفحات الثقافية في جرائد بيروت اعتبرت فيروز العمود السابع في قلعة بعلبك العريقة. وكتبت خالدة السعيد أنّ «فيروز هي ظاهرة فريدة من نوعها أصبحت رمزاً لبعلبك وفيروز هي تلك المرّات النادرة التي يتحوّل فيها الفنان رمزاً لأمّته... أصبحت رجاءً للبنان يوتوبي مثالي».
لقد تتالت أعمال فيروز الليل والقنديل، هالة والملك، جسر القمر، يعيش يعيش، أيام فخرالدين، جبال الصوان، لولو، المحطة، ناطورة المفاتيح، بترا، سهرة حب، ميس الريم وموسم العز حيث كانت فيروز هي لبنان نفسه، وخاصة خاتمتها عندما يخاطب رجل طاعن فيروز أنّ عليها أن تُنشأ أولادها بالمحبة والإيمان: «قولي لهم إنّو بعد الله لازم يعبدوا لبنان». وهكذا خلال 15 سنة تقريباً، قدّم الرحابنة وفيروز أعمالاً جعلت لبنان بوصلة فنية عربية ومحطة عالمية في الانتاج الموسيقي.
كان امتداد صيت فيروز عارماً في فلسطين والأردن، ولكنّه كان سائداً في سورية خاصة التي وجدت في فيروز مطربتها الوطنية الأولى المفضّلة. حتى أنّ أهل دمشق اعتبروا أغنية «نحن والقمر جيران» تخصّهم وكأنّها نشيد ثان لسورية، بعدما بدأت فيروز سلسلة حفلات في معرض دمشق الدولي منذ 1963، كما قدّمت للأردن مسرحية وطنية هي «بترا».
وساهمت خلفية فيروز العائلية في امتداد الشعور المشرقي، فقد اختلطت على الناس جذورها العائلية إلى درجة حق فيها للبنانيين والسوريين والفلسطينيين ادّعاء «ملكيتها» لبلادهم. فالبعض يقول إنّ والدها وديع حداد هو من حلب والبعض الآخر أنه فلسطيني من الجليل حلّ في الدبيّة في الشوف وتزوّج ليزا البستاني ابنة إحدى العائلات المارونية الكبيرة. وإذ طغى المضمون اللبناني في كلام أغاني ومسرحيات فيروز، فإنّ كميّة ليست بضئيلة كانت مخصّصة لسورية وفلسطين ولبلدان عربية أخرى.
في عام 1962 قدّمت فيروز «عودة العسكر» رسالة واضحة حول المواطنية اللبنانية والولاء للبنان وتحيّة الجيش ما أضاف إلى مهرجانات بعلبك حول مهمة لبنان الحضارية والتاريخ العريق والتعايش والمحبة والسلام. كما قدّمت الليل والقنديل» في بيروت وعلى مسرح كازينو لبنان، ثم «بياع الخواتم» في مهرجان الأرز عام 1964 حيث حضر 72 ألف شخص خلال ثلاث ليالٍ. بعد ذلك، برز قصر البيكاديلي في بيروت ومعرض دمشق الدولي كمكانين دائمين لأعمالها الجديدة، وأصبحت تقدّم أعمالاً أضخم من سابقتها بأنواع من الغناء والموسيقى وأهمها أيام فخرالدين في بعلبك.
وهكذا عام بعد عام ومهرجان تلو مهرجان، ساهمت فيروز في بناء الهويّة اللبنانية، تُبلّغ بأغانيها من لا يعلم داخل لبنان وخارجه ماذا يعني أن يكون المرء لبنانياً وما هو تراثه وما هي ثقافته وتقاليده. ولا غضاضة في ذلك كما يشير أنسي الحاج المُعجب الأول بفيروز. نعم، إنّ الحياة ليست مريحة وجميلة كما في مسرحيات وأغنيات فيروز، ولكن هذا لا يُضعف أعمالها بل يعطي الحياة بُعداً فريداً فيه الخيال والحلم، «ويسمح لنا أن نقارن ما نحن عليه وما يمكن أن نحلم أن نكونه».
وأصبحت أعمال فيروز خارقة للطوائف ليس في لبنان فحسب بل في سائر المشرق، ثم في المغرب وتونس والجزائر حيث باتت المطربة المفضّلة لأجيال المغاربة منذ الستينيات والسبعينيات. أمّا المواطن اللبناني العادي الذي – حسب الكاتبين طه الوالي ومحمد أبي سمرا – الذي لم «يسجّل» هويّته الوطنية والثقافية بعفوية كما قد يفعل ابن الجبل – فقد تعلّم مما قدّمته فيروز مع الوقت أن يفعل ذلك وينخرط في الهوية اللبنانية. وهذا برهان على سطوة فيروز والرحابنة في أن يلجأ اللبنانيون إلى الفن لتسجيل «لبنانيتهم».
وثمة دلائل عدّة على عفوية الرحابنة الوطنية، إذ أنّ مطلق انسان لا يمكنه أن يتهمّهم بالانعزالية والايديولوجية والجنوح السياسي، بل ارتبطوا في ذهن الناس بالوحدة الوطنية ورمز الوطن، وكانوا الأوائل فنيّاً ووطنياً في سورية وفلسطين ولبنان. وقد يشاهد المرء فيلم سفربرلك ويسرّ به وبأغانيه ومناظر طبيعة لبنان. ولكن مضمونه الإيديولوجي واضح: هي قرية لبنانية مسيحية جبلية تواجه الحصار والاحتلال التركي، فمن هو المنقذ؟ مقاومة لبنانية أتت من بيروت بقيادة المسلم السنيّ «أبو أحمد» (لعب الدور عاصي رحباني) والمسيحي الأرثوذكسي «الحاج نقولا». وأنقذ الجبل من المجاعة مجموعة من السوريين بقيادة «أبو درويش» (لعب الدور رفيق سبيعي «أبو صياح»). وعندما يحار «سالم» (إحسان صادق) خطيب عدلى (فيروز) بين أن يعود إلى خطيبته أو ينضم إلى الثوّار، يشجّعه «أبو أحمد» ليلتحق بهم بقوله: «امشي على ما يقدّر الله - والكاتبُه ربّك بيصير». وعندما طوّق الجيش التركي مجموعة مقاومين لبنانيين، اشتركوا مع مجموعة سورية في القتال ضد الاتراك. فهو فيلم يُبرز تماسك اللبنانيين من كل الطوائف ضد الاحتلال ويُبرز السوريين كأخوة يمدّون المعونة ويقاتلون مع اللبنانيين ضد العدو.
لم يكن لبنان لبنانيّاً كما أصبح منذ الستينيات لولا فيروز والرحابنة في خلق هوية وطنية تعوّد عليها اللبنانيون أنّها تاريخهم وفولكلورهم وفنّهم. وهي ظاهرة شهدتها دول أخرى في العصر الحديث، حيث تتمكّن نخبة بفنّها وإبداعها من تكوين هويّة جامعة لشعبها. وهذا ما فعلته فيروز وفعله الرحابنة. ورغم أنّ العمل الرحباني هو صورة فنيّة عن لبنان، مهما بعُد العمل الفنّي عن الحقيقة الاجتماعية والانتربولوجية، فهو اللبنان الذي شاهده العالم في بعلبك وما نشأت عليه أجيال من اللبنانيين، إلى حدّ أنّ علماء اجتماعيين رأوا أنّ العمل الفني والمسرح الغنائي تفوّق على الواقع الاجتماعي واقتنع الناس أنّه هو حقيقتهم ومصيرهم.
أم كلثوم كانت أيضاً تشدّد على هويّة بنت البلد في شخصيتها وحضورها وعملها الفني لا ينفصل عن نهضة مصر ويصب في المجهود الوطني الأكبر. هذه إذاً كانت الوصفة الصحيحة التي انطبقت على فيروز والتي برزت في مشروع الرحابنة. فالمرأة بمعناها الرمزي هي خزّان الشرف والكرامة والعَرض في الوطن وهي «الأم وجه الأمة»، وحتى فيروز صرّحت مراراً أنّ ما تقدّمه على المسرح ليس تمثيلاً بل هي أدوار قريبة جدّاً من حياتها الشخصية. وفي مسرحيات الأخوين رحباني الشخصيات النسائية الرئيسية هي الأم أو الابنة أو الحبيبة، وثمّة عامل تضحية ذاتية، فهي ستنجب الأولاد وتربّيهم على عبادة الله ولبنان.
ولئن كان دور فيروز هائلاً في صنع الهويّة اللبنانية والأسطورة المكوّنة للأمّة، كان مهماً أن تكون صورتها في حياتها الخاصة، كزوجة وأم، مطابقة لشخصيتها العامة على المسرح وفي المهرجانات. تظهر مع أولادها أو بعد الولادة في المستشفى، وعادةً ما يصف الجمهور فيروز بأنّها «الأم التي تتكلّم باسمنا جميعاً»، أو «عروس الوطن الذي يشعر كل مواطن أنّه عريسها». ولكل هذا فهي أمي... بعد أمي.
* أستاذ جامعي