من دون كتابي ديفيد شتراوس ولودفيغ فويرباخ «حياة المسيح» (1835) و«جوهر المسيحية» (1841) ما كان للماركسية أن تولد. حطّم شتراوس وفويرباخ أسس إلحاد القرن الثامن عشر الموجود عند المادية الميكانيكية الفرنسية، والتي كانت تتناول الدين من منطلقات ومساطر «العلم» و«المحسوس» و«المنطق».
اعتبر شتراوس أنّ «الله» فكرة يجب تناولها بوصفها تمثل كائناً حمله البشر في تاريخ معين وبالتالي لا تجب دراسته ماورائياً، بل عبر دراسته كمحمول بشري لفكرة كائن ما وراء طبيعي. أيضاً، قال شتراوس بأن الأساطير والمعجزات لا تعالج علمياً أو من خلال المنطق ولا من خلال الشك الفلسفي، فهي ليست قصصاً للوعي أو مبالغات لحوادث واقعية بل هي رموز تخيلية لا تعبّر عن وقائع بل عن حالة الذهن البشري في مرحلة تاريخية محددة. فالدين لا يقدم الحقيقة عبر المفهوم المجرد بل عبر الرمز والأسطورة التي هي تعبير عن الخبرة التاريخية، وعن مزاج موجود في لحظة تاريخية محددة، كالمسيح الذي هو استمرار لمزاج خلاصي من حالة القهر وللوصول للتحرر التي كانت موجودة عند اليهود تجاه السيطرة الرومانية. بعبارة أخرى، شتراوس يرى الدين، كحالة تاريخية، يجب معالجته، كفكرة ماورائية، من خلال وظيفيته الاجتماعية عند حوامله البشريين في مكان وزمان معينين. في المقابل، اعتبر فويرباخ أنّ «الله» هو البديل التعويضي المثالي لنقص العالم الواقعي وأن الدين يحيل كل ما هو كامل ومرغوب إلى الكائن الأعلى، وهو يصل من خلال ذلك بأننا لا يمكن أن نعالج «الله» كفكرة إلا من خلال وعبر تاريخ حمولة الانسان لها، وبالتالي فإن الأفكار لا تعالج بذاتها، ولا من منطلق هيغل بوصف الفكرة منطلقاً للواقع، بل بالعكس: الواقع هو منطلق الفكرة، أي الواقع الملموس والطبيعة كمبدأ أول وليس الفكر.
ما زال الماركسيون العرب
سجناء في قفص المادية
الميكانيكية الفرنسية

لا يعرف الماركسيون العرب ذلك حتى الآن (والآخرون أيضاً من الاتجاهات الفكرية – السياسية المختلفة)، إذ ما زالوا سجناء في قفص المادية الميكانيكية الفرنسية أثناء تناولهم للدين، والسبب إنجلز ولينين وستالين ومنتوجات موسكو السوفياتية في «المادية التاريخية» و«المادية الجدلية»، وهما مصطلحان لم يستخدمهما كارل ماركس بتاتاً. في كتاب الدكتور صادق جلال العظم «نقد الفكر الديني» عام 1969 ليس هناك مبارحة للقرن الثامن عشر وحتى في تصوره للمادية والتاريخ بكتابه بالثمانينيات: «دفاعاً عن المادية والتاريخ» ليس هناك اقتراب من ماركسية كارل ماركس بل من ماركسية فريدريك إنجلز، التي عادت وارتدت، بعد وفاة ماركس عام 1883، إلى مادية القرن الثامن عشر، وإلى استنباط أفكار لم نرها عند ماركس مثل «حزبية الفلسفة بين معسكري المادية والمثالية». مع انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991 عاد أمثال الدكتور العظم إلى الحضن الأول، وخاصة في ظل المد الديني، حتى انتهى منذ عام 2012 للتنظير إلى فكرة «السنية السياسية» بالتضاد مع ما يسميه بـ «العلوية السياسية».
في المقابل، كان كتاب الدكتور حسين مروة «النزعات المادية في الفلسفة العربية الاسلامية» عام 1978 تطبيقاً لمقولة إنجلز عن «حزبية الفلسفة»، ولكن لتطبيقها على تاريخ اسلامي فكري بين «تقدمية ومادية فكر الأقليات الاسلامية» و«رجعية ومثالية فكر الأكثرية الاسلامية»، في متابعة لنمط من المعالجة كان كتاب أدونيس: «الثابت والمتحول» عام 1973 أحد أشكالها البارزة. على الأرجح كان مهدي عامل وهو يرثي حسين مروة عقب استشهاده في شباط 1987، وهو يصفه بـ«الشيوعي الشيعي»، مدركاً لبعد كتابه عن الماركسية واقترابه من شيء آخر في موروثه، مثله مثل أدونيس، ولكن عبر غلالة رقيقة من الماركسية في حالة مروة وأخرى «حداثوية» عند أدونيس، لا تخفي أو تمنع رؤية بنيتهما الفكرية المعاكسة العميقة. هنا، ربما ساهمت لحظة الثورة الايرانية، التي تزامنت معها صدور كتاب حسين مروة، في الترويج لكتابه أثناء فوران مزاج عام، شمل حتى حازم صاغية وأنور عبدالملك وأيضاً رياض الترك لفترة قصيرة لم تتجاوز أشهراً في حالة الأخير، لانشاء مزاوجة بين الماركسية و«الاسلام التقدمي» المنتصر في طهران.
نزعة لادينية تجتاح المواقع
الإلكترونية تظن نفسها
فكراً فلسفياً

لا يمكن لهذا أن يحصل في برلين وباريس: عندما انتصرت الستالينية في الأحزاب الشيوعية العالمية منذ مؤتمر الكومنترن عام 1928 وجدت مقاومات فلسفية ماركسية لها عند جورج لوكاتش وكارل كورش وهنري لوفيفر وروجيه غارودي. في العالم العربي كان من حاول ذلك، مثل الياس مرقص وعبدالله العروي، في حالة عزلة شديدة بين الماركسيين أو يعيشون حالة من انعدام فهم الآخرين لهما لما تحويه أفكارهما من مضامين سابقة لزمنهما. على الأرجح أن عبارة العروي عن «فلاسفتنا المزعومين... كُتب أولئك الباحثين هي جميعاً إما محاضرات مدرسية للطلبة أو محاولات أدبية» («الأيديولوجية العربية المعاصرة»، دارالحقيقة، بيروت 1970، ص215) تفسر تلك الحالة من الضعف الفلسفي التي كانت عامة في الفكر العربي الحديث يمينه ويساره في القرن العشرين مما انعكس في الثقافة والسياسة وأولاً في عملية صناعة الفكر.
خلال ربع قرن من هزيمة التجربة السوفياتية وضعف اليسار، وأوله الماركسيون، زاد الانفصام بين الفلسفة والفكر والثقافة وبين السياسة. اختلط الحابل بالنابل: أصبحت حالة كتاب «نقد الفكر الديني»، على ضعفها الفلسفي، عالية جداً بالقياس إلى ما يتم تداوله من أفكار في عصر المواقع الالكترونية وصفحات الفيسبوك. أمام ظاهرة توحش «داعش»، وبداية تراجع الموجة الدينية الأصولية الاسلامية الإخوانية العالمية منذ سقوط حكم جماعة الاخوان المسلمين في مصر عام 2013، هناك موجة إلحادية جديدة، أو نزعة لادينية مع نزعة لاأدرية دينية، تجتاح المواقع الالكترونية وصفحات الفيسبوك تظن نفسها فكراً فلسفياً، وهي واقعياً ليست أكثر من رد فعل، يلبس لبوس ثقافة وفكر، على فشل الاسلاميين وارتطامهم بالحائط. وهي تظن أن الدين والتدين يمكن تناولهما عبر مقاييس «العلم» و«القوانين العلمية» و«المنطق» و«المحسوسات»، وأن الدحض المعرفي والفكري لهما يتم عبر هذه المقاييس، إضافة إلى نبش خبايا ومكنونات تاريخ وحاضر الدين والمتدينين. هي شبيهة بحالة مادية فرنسية في القرن الثامن عشر التي أتت كرد فعل فلسفي - فكري على تسلط الكنيسة الكاثوليكية على الثقافة والحياة العامة أثناء تحالفها مع آل بوربون من ملوك فرنسا الذين كانوا يحكمون وفق نظام الملكية المطلقة.
ولكنها ضعف المحتوى والمضامين ليس فقط بالقياس لما قدمه أصحاب مادية القرن الثامن عشر الفرنسية بل أيضاً بالمقارنة مع كتاب الدكتور العظم. كذلك في هذه النزعة الإلحادية العربية المعاصرة يمكن بسهولة تلمس السيلوفان الرقيق العلماني - الحداثوي وحتى اليساري الذي يغلف المحتوى الأقلياتي الديني والطائفي لهذه النزعة أثناء توجهها ضد محتوى محدد ومعين من الاسلام هو «الاسلام السني»، مما يجعل هذا «الإلحاد» ليس إلحاداً ضد كل دين بل إلحاداً طائفياً فئوياً ضد حالة دينية محددة ومخصوصة.
* كاتب سوري