Strong>عصام العريان *رغم كل الأزمات العسيرة التي تمر بها مصر ويواجهها الشعب المصري من مختلف فئاته وطوائفه، التي أشرنا إلى أهمّها سابقاً، فإنّ أخطر ما تتعرّض له، وأبرز ما يدل على ذلك، هو حال المعارضة المصرية وتفرّقها وتشرذمها.
لقد نجح النظام المصري عبر آلته الأمنية وإرادته السياسية المزيّفة في خلق معارضة رسمية وصل عدد أحزابها إلى ما يزيد على 22 حزباً مرخّصاً لها، معظمها لا يعرفها المواطن المهتمّ بالشأن السياسي ولا يحفظ منها إلّا أسماء 4 أو 5 أحزاب.
وهذه التعددية الحزبية فشلت تماماً في إقناع المصريين بالمشاركة في عضويّتها أو أنشطتها الضعيفة.
الدليل على ذلك هو حصيلة تلك الأحزاب في البرلمانات المصريّة منذ نشأت حتى يومنا هذا، ولنا في ذلك ملاحظتان جديرتان بالاهتمام:
أولاً: انحسار تمثيل المعارضة الحزبية بعد كل انتخابات حتى وصلت إلى أرقام هزيلة جداً لا تتجاوز العشرة مقاعد من أصل 444، وبالتالي قبلت أحزاب معارضة فضيحة التزوير في آخر انتخابات للتجديد النصفي في مجلس الشورى (التجمع اليساري، والناصري العربي) بجانب قبولها التعيين في المجلسين منذ عقود تعويضاً عن عدم قدرتها على النجاح بإرادة الشعب.
ثانياً: بروز حركات سياسية جديدة خارج الأطر الحزبية التقليدية، من غمار التيارات السياسية والفكرية التي تمثّلها تلك الأحزاب، وخاصةً التيار اليساري والتيار الناصري القومي، بل حتى التيار الليبرالي مثل حركات «كفاية» و«شباب 6 أبريل» و«الاشتراكيين الثوريين» وحركات من أجل التغيير.
طبعاً كان للإخوان المسلمين ومشاركتهم السياسية منذ منتصف الثمانينات حتى الآن أثر بالغ في تركيبة الحياة السياسية والحزبية في مصر.
فقد أسهم الإخوان خلال انتخابات 1984، 1987، في بعث الحياة في الأحزاب التي تحالفت معها انتخابياً كالوفد ثم العمل والأحرار. وفشل حزب التجمع في الحصول على أيّ مقعد خلال تلك الفترة.
وعندما غاب الإخوان مقاطعين عام 1990، وبالقهر الأمني عام 1995، لم تفلح أحزاب المعارضة في تعويض غياب المعارضة عن مجلس الشعب فكان تمثيل المعارضة هزيلاً جداً لا يتجاوز 15 مقعداً من كل الأحزاب.
ونجح الإخوان في عامي 2000 و2005، في إبراز المعارضة من جديد في البرلمان المصري، ممّا أربك حسابات النظام المصري ومن يؤيّده في الخارج، حيث ازدادت شرعية الإخوان الواقعية والسياسية والمجتمعية بينما وصلت أحزاب المعارضة الرسمية إلى طريق مسدود، وزاد من حيرتها أن النظام فرض عليها إجباراً عدم التنسيق مع الإخوان وخوّفها وأرهبها من مجرد الاقتراب من الإخوان.
صاحَب تلك الفترة، وخاصةً من أعوام 2004 ـــــ 2007 حراك سياسي شديد وصاخب شهد ولادة مبادرات عديدة للإصلاح منها مبادرة مرشد الإخوان محمد مهدي عاكف، وولادة حركة كفاية ثم صحوة القضاة وحركة استقلال القضاء المصري بسبب تزوير المرحلتين الثانية والثالثة في انتخابات 2005.
المشهد السياسي اليوم ومصر في هذه الحال من التحوّل والحراك الشديد يقتضي من المعارضة المصرية كلها ـــــ بما فيها الإخوان ـــــ وقفة للتأمّل والمراجعة وجرد الحسابات.
فدون أي إصلاح حقيقي وتغيير جاد في بنية النظام السياسي وقواعد العمل السياسي، لن تستطيع لا المعارضة ولا الشعب تحقيق تقدّم أو نهضة أو تنمية بشرية واقتصادية واجتماعية.
الأزمات التي أشرنا إليها من قبل تدلّ على مدى تدهور أداء المؤسسات الكبرى المهمّة التي يعوّل عليها الوطن والمواطنون في الحفاظ على الأمن الوطني والقومي مثل: أزمة مياه النيل مع دول حوض النيل، وأزمة فلسطين وإدارة الصراع مع العدو الصهيوني، وأزمة السودان في دارفور وحلايب وشلاتين واستفتاء انفصال الجنوب بجانب أزمة بدو سيناء التي هي انعكاس لأزمتنا مع العدو الصهيوني.
هذا التدهور في الأداء وضعف الكفاءة هما النتيجة المباشرة للانسداد السياسي وتقلّص الحريات العامة وانعدام تكافؤ الفرص، وسيادة المحسوبية والوساطة حتى في أخطر الهيئات والمؤسسات.
الفرز الحقيقي الآن بين صفوف المعارضة المصرية يجب أن يجري بعد تحديد الهدف بدقّة شديدة، وهو: إجبار النظام المصري على التراجع عن تصلّبه وعناده، والبدء الفوري في حزمة إصلاحات سياسية ودستورية توفّر:
الفرز الحقيقي بين صفوف المعارضة يجب أن يجري بعد تحديد الهدف بدقّة: البدء الفوري في حزمة إصلاحات
ـــــ إنهاء حالة الطوارئ.
ـــــ ضمانات حقيقية لانتخابات حرّة ونزيهة تحقّق تمثيلاً للإرادة الشعبية.
ـــــ محاسبة جادّة للفاسدين والناهبين لثروات مصر والمجرمين في حالات التعذيب والتزوير.
هذا الهدف يمكن تحقيقه إذا لاحظنا التراجع الذي حدث في قضية مقتل خالد سعيد وجزيرة آمون وبدو سيناء.
ثم تأتي بعد ذلك ضرورة تحديد الوسائل التي تسلكها المعارضة لتحقيق هدفها النبيل. هذه الوسائل تشمل كل صور الضغط الشعبي السلمي وذلك عبر المؤتمرات والمسيرات الحاشدة والوقفات الاحتجاجية المستمرة الطويلة المدى والندوات والتظاهرات السلمية والتوقيعات على الحملات الإلكترونية والتنسيق المشترك في الانتخابات العامة لضمان حرية الانتخابات بالوقوف ضد التزوير ومقاومة البلطجة والتصدي للآلة الأمنية.
هنا يجب علينا أن نستحضر دروس التاريخ المعاصر والحديث بحيث تتوقّف المعارضة المصرية عن التفكير فى أيّ من الاحتمالات الآتية بل يجب أن تعلن رفضها التام لها وهي:
1ـــــ رفض الاستقواء بالخارج أو استدعاء الأجانب للتدخل في بلادنا تحت أيّ ذريعة ولأيّ سبب في العراق وأفغانستان والصومال وباكستان العبرة والعظة.
2ـــــ رفض الثورة والفوضى والانجرار إلى المجهول عبر التهييج المستمر والإثارة الغوغائية التي قد تدفع مجموعات الغاضبين من العشوائيات والدهماء إلى تحطيم كل شيء.
3ـــــ البعد عن المعارك الجانبية بشأن البرامج التفصيليّة والتصوّرات الثقافية أو هدم وحدة المعارضة لأيّ سبب، بل يجب علينا فى ظل تلك الظروف القاسية الاتفاق على القواسم المشتركة والحد الأدنى الذي يحقّق وحدة المعارضة ضد الاستبداد والفساد والنهب المنظّم لثروات البلاد.
الاتفاق الأساسي بين المعارضة يجب أن يكون على بناء نظام ديموقراطي سليم يتيح أكبر قدر من الحريات والمقوّمات الأساسية للبلاد كي تستعيد مؤسسات الدولة المصريّة دورها للحفاظ على مصر موقعاً وكياناً وريادة للمنطقة، وذلك لن يكون إلا إذا استعاد المواطن المصري ثقته بنفسه وقدراته لتنمية جادّة وحقيقية، وإلّا إذا جرى إحياء التماسك الاجتماعي بين أبناء مصر جميعاً بمختلف طوائفهم وجهاتهم وأديانهم وثقافتهم.
المطلوب هو أن يتمسّك كلٌّ بدينه وعقيدته فلا إكراه في الدين.
والمطلوب أن يتسلّح الجميع بالتسامح والقسط والبر من أجل العيش المشترك الهادئ. وأيضاً أن تتّفق الفصائل المطالبة بالتغيير جميعها على القواسم المشتركة والحد الأدنى الذى تسعى إلى تحقيقه. وأن يقبل الجميع في النهاية الاحتكام إلى الشعب في انتخابات دورية حرّة ونزيهة بحيث يتحمّل الجميع مسؤولية البناء الجاد والتعب الحقيقي الذي سيبدأ إذا حدث التغيير لأنّ حجم الدمار الذي أصاب مصر خطير جداً ويوشك أن يهدّد سفينة المجتمع بالغرق، وهو ما لا يجوز أن نسمح به أبداً ثم يقبل الجميع أن يتركوا مواقعهم رضىً وطواعيةً إذا صوّت الناس ضدهم في الانتخابات الدورية النزيهة.
قد تلزم الظروف المعارضة المصرية بالتشارك في حكومة إنقاذ وطني، وهنا يجب الاتفاق على برنامج إنقاذ وطني لفترة انتقالية يعود بعدها الجميع إلى صناديق الانتخابات، ولنا في دول الجوار العظة والعبرة.
هذا الاتفاق بين قوى المعارضة ليس لمجرد تداول السلطة، وهو حق لكل القوى السياسية في أيّ نظام ديموقراطي، بل جوهره هو العمل على بناء مصر دولة عصرية قوية مرجعيتها يحدّدها شعبها، ونظامها السياسي يحقّق آمال أبنائها جميعها، يتحقّق فيها السلم الأهلي والتماسك المجتمعي، وتطلق طاقات أفرادها ومواطنيها جميعاً للعمل والإنتاج، وتضمن العدالة الاجتماعية والحد الأدنى من الحياة الكريمة للطبقات المعدمة الفقيرة.
في مصر اليوم تشهد الساحة انطلاقة جديدة للجميعة الوطنية للتغيير وتنشيط قوى لحملة التوقيعات الإلكترونية لبيان البرادعي «معاً سنغيّر»، وتتواصل فعاليات الجمعية الوطنية للتغيير في المحافظات المصرية من مكان إلى مكان ووقفاتها الاحتجاجية ضد التعذيب وكذلك نشاطات الدكتور محمد البرادعي نفسه، الذي يزور الإخوان وبعض الأحزاب ويرعى الجمعية الوطنية ويتحرك من أجل التغيير مدعوماً بمكانته الدولية وقلادة النيل المصرية والتفاف الشباب حوله ونظرة الناس إليه كرمز آثر العمل والتصدى للاستبداد بدلاً من القعود أو البقاء في الخارج.
كذلك تشهد الأحزاب الرسمية الضعيفة حراكاً ضد قبول قادتها التزوير الفاضح والانضواء تحت جناح الحزب الحاكم، بينما يريد حزب الوفد أن يستعيد مكانته القديمة وتاريخه الطويل بعد انتخاب رئيس جديد له فى تحول ديموقراطي أنعش الآمال بإمكان تجدد حيوية الوفد، وهو متردد بين الأحزاب الضعيفة، والنظام الذي يريد ضمه إليه، وبين الإخوان المسلمين والجمعية الوطنية للتغيير.
سيتزايد هذا الحراك خلال الشهور القليلة المقبلة استعداداً لانتخابات مجلس الشعب، التي يبدو أنها ستكون أكثر الانتخابات سخونةً عندما يصرّ الجميع على مقاومة التزوير بكل الطرق الممكنة، وهو التحدي الحقيقي لفرض إرادة الشعب المصري على النظام الذي شاخ في مكانه ويصرّ على حماية الفساد وتكريس الاستبداد.
مصر تلك بعد المخاض والتحوّل ستقود قاطرة المنطقة كلّها وتملأ الفراغ الذي نشأ بعد إبعاد مصر عن المنطقة بمعاهدة كامب ديفيد. وبذلك ستتصدّى للمخاطر الأجنبية التي تعصف بالمنطقة العربية، وتتصدّى للعدو الصهيوني وللاحتلال الأجنبي الذي دمّر دول المنطقة العربية والإسلامية بصورة لم يسبق لها مثيل، ممّا أوجد فراغاً في القيادة والمشاريع الكبرى تحاول دول أن تملأه.

* قيادي في جماعة الإخوان المسلمين في مصر