أحدث توقيف بعض الشباب اللبنانيين بسبب آراء أدلوا بها على موقع فايسبوك، صدمة لدى الرأي العام اللبناني. فالقضية لا تتعلّق بحرية الرأي وحسب، بل أيضاً باستسهال توقيف هؤلاء المواطنين من دون انتظار أي محاكمة. فهل دخلنا في زمن «العقوبة الفورية»؟
نزار صاغيّة*
مع توقيف شبان ثلاثة بتهمة التعرض لمقام رئيس الجمهورية على أحد مواقع الفايسبوك، دار جدل واسع بهذا الشأن. فتأييداً لمبدأ التوقيف والملاحقة، صرّحت النيابة العامة التمييزية بأنه قانوني ما دام الإنترنت مساحة عامة يمثّل القدح والذم من خلالها جرماً يخضع لقانون العقوبات. وأضافت إلى ذلك رئاسة الجمهورية اعتبارات أخرى: فتصرفات هؤلاء «يندى لها الجبين»، وتالياً لا بدّ من توقيفهم من باب تربيتهم. وفي المقابل، استهجن كثيرون التوقيف لأنه يمس بحرية التعبير وتحديداً على الإنترنت، ولأنه يدخل لبنان في دائرة الدول القمعية ذوداً عن «سيادة الرئيس». وقانوناً، انقسمت هذه الآراء المعارضة إلى قسمين: ففيما رأى بعضها أن الشبكة غير مذكورة صراحة في قانون العقوبات مما يمنع ملاحقة المخالفات المنشورة عليها عملاً بمبدأ أن لا عقاب من دون نص (...)، رأى البعض الآخر ضرورةً في إعمال القياس بين الإنترنت والمطبوعات، مما يحظر التوقيف الاحتياطي في جرائم مماثلة تماماً كما هي حال جرائم المطبوعات كلها.
والواقع، أنه بمعزل عن أهمية هذا الحدث بحد ذاته، وأبعد من كرامة رئيس الجمهورية، ثمة أسئلة لا تقل أهمية هي: على فرض جواز الملاحقة أو حتى التوقيف الاحتياطي، فما هو السبب الملحّ الذي يستدعي توقيف هؤلاء الشبان في قضية مشابهة من دون انتظار المحاكمة؟ أوليس السبب الوحيد وجود إرادة بإنزال «عقوبة فورية» بحقهم؟ وما يزيد هذه الأسئلة إلحاحاً أن هذا التصرف يأتي تبعاً لسلسلة من الأحداث تعكس كلها توجهاً رسمياً نحو إعمال العقوبة الفورية في المجالات المتصلة بحرية الرأي أو التعبير، وعلى نحو يوحي بضيق صدر إزاءها ولكن أيضاً إزاء إجراءات المحاكمة التي قد تطول مؤكداً. وقد تجلت هذه الظاهرة، ليس فقط في الملاحقات القضائية، بل أيضاً، وأكثر وضوحاً، من خلال مشاريع

أخطر ما في هذا التوجه هو أنه يناقض أحد أبرز مكاسب الصحافة اللبنانية التي تحققت تدريجياً
قوانين متفرقة (مشروع قانون المعلوماتية 2010، مشروع قانون المس بهيبة القضاء الذي أعدّته وزارة العدل بناءً على طلب مجلس القضاء الأعلى في 2008 ألخ..) أو حتى في تصرفات غير قانونية (استدعاء المواطن خضر سلامة للتحقيق لدى استخبارات الجيش بحجة التعرض لرئيس الجمهورية على أحد المواقع الإلكترونية في آذار 2010). ففي حالات معينة (ولا سيما عند التعرض لمقامات رفيعة)، لا فائدة من انتظار المحاكمة، لا فائدة من منح حق الدفاع عن النفس، لا بل إن التريث على هذا الوجه معيب: ثمة حاجة لعقاب فوري ومباشر في موقف يذكّر الجميع بأن التطاول على هذه المقامات خط أحمر، أنه دوس في عالم المحرّمات.
فإذا كان ذلك ممكناً قانوناً، فإن القيام به يصبح واجباً تطبيقاً للقانون! وإلا فلنتجاوز القانون أو إذا أردنا احترامه، فلنغيره بهدف تجويز العقوبة الفورية (الحبس الاحتياطي في قضايا التعرض للقضاء مثلاً)! وهكذا، يسوّغ قلب القواعد القانونية أو إعادة ترتيبها: فيصبح إعلان مسؤولية الأشخاص المعنيين وكَيْل الاتهامات لهم من منابر يفترض أن تكون عامة (القصر الجمهوري في حالة الفايسبوك) واتخاذ عقوبات بحقهم قبل أي محاكمة أمراً مندوباً... فيما يصبح أي تريّث للقيام بذلك بحجة قرينة البراءة، بمثابة تأخير للعدالة وتشجيع على توجهات مماثلة إضافية، بل ربما أيضاً تشكيكاً إضافياً بهيبة المقام الذي سوّغوا لأنفسهم «الصغيرة» التطاول عليه وتالياً انتهاكاً جديداً لها. كما نستشف إلى حد ما التوجه نفسه مع توسع القضاء المستعجل في التدخل في قضايا حرية التعبير عن طريق منع نشر أمر معين أو عرضه تحت طائلة تسديدها غرامة إكراهية تستحق فور ثبوت المخالفة (قضية الرحباني ضد MTV ونضال الأحمدية، والرحباني ضد الحياة والأخبار والجرس)، مما يوسع دائرة الأقوال الخاضعة لما يشبه العقوبة الفورية (الضريبة الفورية).
والواقع أن أخطر ما في هذا التوجه (الظاهرة) هو أنه يناقض أحد أبرز مكاسب الصحافة اللبنانية التي تحققت تدريجياً، كردة فعل على فترة الانتداب الفرنسي وأول عهود ما بعد الاستقلال: فهكذا، وعلى وقع تذكر تجاوزات الانتداب الفرنسي، آل قانون المطبوعات تدريجياً إلى استبعاد التعطيل الإداري للصحف، ومن ثم إلى استبعاد التعطيل القضائي قبل انتهاء المحاكمة. كما آل تدريجياً إلى حصر الحالات التي يجوز فيها إنزال الحبس الاحتياطي في جرائم المطبوعات لينتهي إلى منعها منعاً كاملاً في 1974. وبذلك، منح المشرِّع الصحافة، من موقع تقديره لحرية التعبير، حق الدفاع عن نفسها أمام محكمة متخصصة من دون اتخاذ أي إجراء بحقها قبل انتهاء المحاكمة.
وما يريده هذا المقال إذاً هو التنبيه من خطورة هذه الظاهرة التي قد تمثّل، في حال رسوخها وتناميها، خارطة طريق لنسف هذه المكاسب. ولهذه الغاية، لا بد بداية من إبراز أهم خصائص العقوبة الفورية، على ضوء تجارب أمكنني رصدها، وبالأخص على ضوء تجربة الفايسبوك الحديثة العهد التي تبقى في تفاصيلها فائقة الدلالة.

الخصوصية الأولى: الردع قبل «المحاكمة» أو عبر تجريد حرية النشر من حماية «المحاكمة»

بالطبع، إن الخصوصية الأولى لنظام العقوبة الفورية وربما الأهم، تكمن في انعكاساتها على الحماية القانونية التي يقرها قانون المطبوعات لحرية النشر. فبخلاف الوضع حين تحدد المسؤوليات بعد انتهاء المحاكمة، يؤدي فتح المجال أمام اتخاذ عقوبات فورية (احتجاز حرية، تعطيل منبر إعلامي..) إلى تجريد حرية النشر من جزء مهم من الضمانات القضائية يزداد أو يقل شأناً وفق طبيعة الإجراء الممكن اتخاذه وهوية المرجع المخوّل بذلك. وهكذا، فإن النيابة العامة (وهي لا تتمتع بضمانات الاستقلالية القضائية لأنها خاضعة للتسلسل الإداري والهرمية وترتبط بوزير العدل) هي التي أوقفت بداية الشبان المتهمين بالتعرض لرئيس الجمهورية قبل إحالتهم إلى قاضي التحقيق، كما أن مشروع قانون المعلوماتية ذهب إلى حد السماح لهيئة إدارية بوقف أي موقع إلكتروني عند وجود مخالفات معينة من دون تمكين القيمين عليه من الدفاع عن أنفسهم أو حتى إبداء آرائهم بهذا الشأن. وهكذا، تصبح المسألة على النحو الآتي: «في البدء المعاقبة بدرجة أو بأخرى، ومن ثم، يفتح الباب أمام الدفاع عن النفس». والأمر نفسه، يصبح متوقعاً في حال توسّع القضاء المستعجل في اتجاه فرض غرامات إكراهية في حال القيام بأي عمل مستقبلي مخالف للقانون (إساءة مثلاًومن هذه الزاوية، تبدو دعوة مجلس القضاء الأعلى والجمعية العمومية للقضاة في تموز 2008 إلى تسويغ التوقيف الاحتياطي في قضايا التعرض للقضاء أمراً ذا دلالة كبرى على خطورة التوجه ـــــ موضوع هذا المقال، بقدر ما هو عبثي. فوفق هذا المنطق، تتأتى هالة القضاء الجديرة بالحماية من ذاتها ولا بأس إذاً من التضحية بوظيفة القضاء، لجهة ضمان قدسية حق الدفاع وبمرجعيته لجهة تحديد الحقوق والمسؤوليات، على مذبح هذه الهالة!
ومن الطبيعي إذ ذاك أن تزداد احتمالات التعسف ومعها قوة الردع بدرجة أو بأخرى، وأن يصبح تالياً النظام اللبناني من حيث مفاعيله في مكان وسط قد يكون أكثر قرباً من الرقابة المسبقة منه إلى نظام حرية النشر التي تبدو، إذ ذاك، وكأنها باتت مجردة من حماية المحاكمة العادلة.

الخصوصية الثانية: تعزيز الجهة التي تم التعرض لها أو مفهوم «الترضية الفورية»

هنا أيضاً نلحظ أن إعمال العقوبة الفورية أو المطالبة بها غالباً ما يرتبط بإرادة في تعزيز مكانة (عفواً هيبة) الجهة التي يتخذ الإجراء على خلفية التعرض لها. ففي حالات معينة، يمثّل التعرض لمقام معين تعرضاً لقيمة عليا في النظام القانوني اللبناني، و«تطاولاً» (الحظوا معنى هذه الكلمة الشائعة التي تصور السلطة على رأس الهرم)، فلا يمكن أن نتصور أن يترك مرتكبه حراً طليقاً بعد ارتكابه: فكيف نتركه طليقاً بعدما قال ما قاله، بعدما تفوّه بما تفوّه به، وكأن شيئاً لم يحدث؟ ومن هنا، فإن أي بشائر لتوجه كهذا لحماية هذا المقام أو ذاك، تبرز في كل مرحلة أولويات السلطة المبادرة أو مدى حساسيتها في هذا المجال.
وهذا ما نستشفه بوضوح كلي في قضية الفايسبوك، بحيث ترافق توقيف الشبان مع سعي إلى إعلاء شأن رئاسة الجمهورية التي يمثّل أي تعرّض لها جرماً بالغ الخطورة، «يندى له الجبين». وهذا أيضاً ما نلحظه في مشروعي قانون العقوبات (2009) وقانون المطبوعات (2010) الصادرين عن لجنة تحديث القوانين النيابية واللذين ذهبا إلى حد رفع العقوبة المترتبة على التعرض لهذا المقام، فارتفع الحد الأقصى لعقوبة الحبس مثلاً من سنتين إلى ثلاث سنوات.
وهذا أيضاً ما نقرأه بوضوح كلي في بيان الجمعية العمومية للقضاة (تموز 2008) حيث بُرّرت المطالبة المشار إليها أعلاه بأن «للقضاة هيبة قرروا ألا يفرّطوا بها»، وأيضاً في تضمين هذه المطالبة في مشروع قانون عنوانه «المس بهيبة القضاء». وقد ترافق هذا الأمر أيضاً مع رفع عقوبة القدح والذم بالقضاء في مشروعي القانونين المذكورين أعلاه.
وفي الاتجاه نفسه، أمكن إطلاق حملة اعتقالات 7 آب 2001 على خلفية اليافطات المسيئة للرئيس إميل لحود التي رفعها شبان من تيارات سياسية معينة أثناء زيارة المصالحة التي قام بها البطريرك صفير إلى «الجبل»، علماً بأن هذه الاعتقالات ترافقت مع تعليق صور الرئيس لحود في محيط قصر العدل على نحو يوحي بأن العدل يبقى تحت سقف «الهيبة»!
وإثباتاً لذلك، لا بأس من استقاء إحدى أهم الدلالات «الخطابية» من محضر إحدى الجلسات النيابية في 1962 والمنعقدة للبحث في مشروع قانون يسوّغ إمكان تعطيل المطبوعة إدارياً في حال التعرّض لرؤساء أجانب. فردًّا على الآراء التي دعت إلى تجنب آلية التعطيل الإداري التي غالباً ما استخدمها الانتداب الفرنسي لقمع الصحف المعارضة، جاء رد وزير الخارجية بأن هذه الآلية ضرورية لتمكين الحكومة من إعطاء السفراء المحتجين ضد الانتقادات الموجهة إلى رؤساء دولهم «ترضية فورية». فـ«عندما تقع تلك الإساءة ويأتي سفير تلك الدولة شاكياً وبيده المطبوعة، أتعتقدون، عقلياً، ومنطقياً، أن ذلك الرئيس سيكتفي بقولنا له إننا سوف ندعي على تلك المطبوعة وسوف نحيلها إلى المحكمة، وسوف يصدر الحكم بعد شهر أو شهرين، أو بعد سنة أو سنتين؟ وفي هذه الأثناء تستمر تلك المطبوعة في كتابة ما تكتب إذا كانت تقصد الإساءة وإذا لم يشأ صاحبها أن يرتدع، اسمحوا لي بأن أقول إن هذا لا يمكن أن يعتبر ترضية لذلك الشاكي، بل يجب أن يعطى له ترضية فورية، فنقول له، نعم إن هذه الكتابة تتضمن الإساءة ونحن كحكومة سنوقف هذه المطبوعة عن الصدور كذا يوماً عقاباً لها». وبالطبع، إن مجرد طرح قانون مماثل يمثّل إعلاءً لشأن كرامة الرؤساء الأجانب وفق ما أشار إليه عدد من النواب الذين ذكروا أن المشرّع يعاملهم على هذا النحو معاملة أفضل من معاملة رئيس البلاد، تجنباً لغضب دولهم. وإذا استغرب القارئ ورود مقطع من محضر قارب عمره الخمسين سنة لإثبات ظاهرة تحصل حالياً، يكفيه وضع هذه الكلمات نفسها في أفواه كل الذين يعمدون إلى تطبيق عقوبة فورية. فمن منّا لا يذكر مداهمة استوديو تلفزيون الجديد أثناء تصوير حلقة من برنامج «بلا رقيب» بناءً لقرار «المنع الاحترازي» الصادر عن النائب العام التمييزي عدنان عضوم (2003)، على أساس أنّها «تسيء إلى علاقة لبنان بالمملكة العربية السعودية؟».

الخصوصية الثالثة: الحد من التخاطب العام بشأن المادّة المخالفة

الخصوصية الثالثة للعقوبة الفورية، هي بالطبع الحد من التخاطب العام بشأن المادة المخالفة. فعدا احتمال إخراس المنبر الإعلامي المعني، كما سبقت الإشارة إليه، وتهديد أي منبر آخر بمصير مشابه، فإن الشخص المعني أو المؤسسة المعنية يصبحان أكثر انشغالاً واهتماماً بوقف مفاعيل العقوبة الفورية المتخذة بحقهما مما هو في إعداد مرافعتهما دفاعاً عن مشروعية نشر المادة موضوع الملاحقة.
وعلى هذا المنوال، يصب عامل الوقت في مصلحة الجهة المستفيدة من العقوبة الفورية التي تستغل كل دقيقة توقيف أو تعطيل لإخضاع المتهم بالتعرض ضدها. وتالياً، بقي دفاع شبان الفايسبوك عن أنفسهم خافتاً في ظل تضرّعات أمهاتهم الموجهة إلى رئيس البلاد بمعاملتهم كأب يرأف بأبنائه، فيما الكل سمع اتهام القصر الجمهوري لهم بانتهاك أصول التربية اللبنانية!
بل أهم من ذلك، فإن إنزال العقوبة الفورية غالباً ما يجعل المحكمة من دون طائل بنظر السلطة المتضررة بعدما نالت ما تريده. وهكذا، غالباً ما ترى الجهة المتضررة في هذه الحالات غير متحمسة لاستمرار الادعاء العام أو المحاكمة، ما يحرم أحياناً الجهة «المعتدية» من منبر المحكمة للدفاع عن نفسها، ما يحد هنا أيضاً من إمكان التخاطب العام بشأن المخالفة. وهذا ما يفسر ربما أن بعض العهود التي أكثرت إعمال التدابير الإدارية السابقة للمحاكمة (عهد شارل الحلو) هي نفسها التي أقرت أكبر عدد من قوانين العفو عن جرائم المطبوعات (أربعة في غضون ست سنوات).

الخصوصية الرابعة: الإخضاع

الخصوصية الرابعة تكمن في ميل الجهة المتضررة للاستفادة من العقوبة الفورية وما تستتبعه من أضرار أو ضغوط معنوية لإخضاع الجهة التي تجرأت على التعرض لها.
وفي هذا الصدد، نلحظ المناشدات التي وجهها ذوو الشبان المحتجزين في قضية الفايسبوك إلى رئيس الجمهورية للإفراج عنهم. وقد بدت تصريحات القصر الجمهوري كأنها تعلن عن تمام إخضاع الأهل: فبعدما أعلنت الرئاسة «أبوّتها العامة» تجاوباً مع طلب الأهالي بمعاملتهم بروح أبوية، سارعت إلى القول إن ما تفوّه به هؤلاء الشبان «يندى له الجبين» وإن أهاليهم بالطبع يوافقون على أن ما قاله هؤلاء الشبان يخالف تماماً أصول التربية التي نشأوا عليها وإن ثمة ضرورة لإعمال القانون بحقهم لإعادتهم إلى الطريق الصحيح. وهذه هي أيضاً الكلمات التي نقلتها الصحافة غداة استقبال الأمهات في القصر الجمهوري حين جئن يستسمحن للإفراج عن أبنائهن. وبالطبع، لم يصدر أي بيان عن الأهل بتكذيب هذا الخبر الذي أظهرهم أحلافاً مع رئيس الجمهورية في مكافحة آفة «قلة التهذيب» التي طالت أبناءهم. ولعل خير دليل على هذه الخصوصية، هو أن قرار قاضي التحقيق بالإفراج عن الشبان جاء بالتزامن مع الزيارة التي قامت بها الأمهات للقصر الجمهوري.
كذلك فإن استخدام العقوبة الفورية بهدف الإخضاع بدا واضحاً في قضايا سابقة. ففي قضية الحق العام ضد صحيفة «الشرق الأوسط» على خلفية نشر خبر محاولة اغتيال الرئيس لحود، سارعت المديرية العامة للأمن العام، خلافاً لرأي وزير الإعلام وللقانون، إلى منع توزيع جريدة «الشرق الأوسط» في لبنان. وإزاء ذلك، سارعت الجريدة إلى تقديم الاعتذار تلو الآخر. وإذا تغيّب في ما بعد المدير المسؤول عن الجريدة عن المحاكمة، أُدين بالإساءة إلى رئيس الجمهورية عبر نشر خبر كاذب عن محاولة لاغتياله، وبالحكم عليه غيابياً بسنة حبس (وهي من أشد العقوبات التي أنزلتها محكمة المطبوعات في العقد الأخير). فإذا عاد وظهر في المحكمة، أصدرت المحكمة نفسها في غضون أقل من شهرين حكماً بإبطال التعقبات بعدما فطنت أن الجريدة أوضحت في متن الخبر نفسه أن «الرئيس لحود قد نجا منها»، وأنها تالياً لم ترتكب أي مذمة بحقه ما دام القول بنجاته يعني أن الله والشعب راضيان عنه (!!). والواقع أن هذا التحول يجد تفسيراً من اثنين: فإما أن المحكمة اكتشفت حقاً خبر النجاة كمن يكتشف أن عبارة «إلا الله» سقطت سهواً فأعلن إيمان الشخص بعدما أعلن كفره، وهذا الأمر مستحيل ما دام خبر النجاة كان بارزاً في العنوان العريض، وإما أنها استخدمت علم الخطابة لإبطال التعقبات ليس بسبب اكتشاف عبارة جديدة، بل مكافأة لإتمام فروض (طقوس) الخضوع (2002)!
ولعل الدلالة الأكبر على هذا التوجه هي «مذكرة الإخضاع» التي يكون للمدير العام للأمن العام حق إنزالها بإرادته المنفردة، سنداً لتعليمات داخلية لمديريته، وبمعزل عن أي سند قانوني أو ضوابط، ومن دون منح الجهة «المتمردة» حق الدفاع عن نفسها أو حتى من دون إبلاغها فحوى القرار، وقد طبقت هذه المذكرة أخيراً في مواجهة قيمين على مطبوعة تجرأت في عرض صور مسيئة للدين برأي هذه المديرية. علماً بأن هذه المذكرة تمنع الشخص المعني من دخول مراكز الأمن العام والقيام بأي معاملة فيها، بما فيها معاملة تجديد جواز السفر! وهكذا، تبدو هذه المذكرة وكأنها تهدف إلى معاقبة المتمرد بغية إعادته إلى بيت الطاعة (وبالطبع، نلحظ هنا التشابه المنطقي مع التوجه التربوي الذي أعلنت عنه رئاسة الجمهورية)!

الخصوصية الخامسة: التسييس


لفهم ما جرى في قضية موقوفي الفايسبوك ينبغي العودة إلى محضر إحدى الجلسات النيابية في 1962

هذه الخصوصية تكاد تكون حصيلة للخصائص المبينة أعلاه. والواقع أن مناقشتها تفرض ذاتها في ظل إعلان رئيس الجمهورية أن توقيف شبان الفايسبوك هو أمر قانوني وليس سياسياً. وهذه الخصوصية تتأتى بالواقع من اعتبارات ثلاثة:
الأول، أن إعطاء الأولوية لرد الاعتبار لـ«مقامات مختارة» وتغليبها على حق الدفاع عن النفس وأحياناً على حريتي الإعلام والنشر، هو سياسي بامتياز. وهكذا، وفيما تبدي بعض المقامات احتراماً لحرية النقد في فترات عزها وقوتها (وهذا ما نستشفه مثلاً من تعهد الرئيس لحود غداة انتخابه في 1998 بعدم ملاحقة أي صحافي على خلفية التعرض له)، فإنها تبدو شديدة الحرص على إعمال العقوبة الفورية في المراحل التي تتعرّض فيها مشروعيتها للاهتزاز (وهذا ما نستشفه من وقف توزيع جريدة «الشرق الأوسط» وأيضاً من أحداث 7 آب 2001). وكذلك الأمر على ما يبدو بشأن القضاء الذي تضاعفت الحاجة إلى صونه إزاء الانتقاد في فترة التجاذب السياسي بشأن التشكيلات والمناقلات، ولكن أيضاً في ظل الأسئلة الكبرى بشأن استمرار احتجاز الضباط الأربعة. ومن أهم الأدلة الخطابية على هذا التوجه، البيان الصادر عن الأمن العام تبريراً لمنع إدخال صحف أجنبية غداة وفاة الرئيس حافظ الأسد: فإذا أقر البيان بأن الرقابة عاجزة عن منع دخول الأفكار في عصر الإنترنت، فقد أعلن أن ممارستها ترتبط بالتزام الرقيب المواقف الوطنية الأساسية، وأنها تهدف قبل كل شيء إلى اعتماد القصاص المعنوي ضد الذين يسيئون عمداً إلى تلك المواقف خدمة للعدو أو لأحقادهم (مراجعة صحف 19/6/2000).
الثاني، أن التسييس يزداد حضوراً أيضاً مع إناطة صلاحية إنزال العقوبة الفورية بهيئات إدارية تغلب لديها بطبيعة الحال الاعتبارات السياسية بمعزل عن حقوق الدفاع، كما هي الحال في مشروع قانون المعلوماتية وأيضاً مع إعطاء الأمن العام صلاحية إصدار مذكرات الإخضاع، وعلى نحو أو آخر بقدر ما تتوسع صلاحيات النيابات العامة في هذا الإطار.
الثالث والأخير، أن العقوبة الفورية تؤول إلى تغليب النظرة السائدة التي تفرض ذاتها على الرؤى المعارضة لها، والتي غالباً ما تتوسل المحاكمة والتخاطب العام للتعبير عن تطلعات مغايرة!
* محامٍ وباحث في القانون