سعد الله مزرعاني*في تلخيص لسيناريو القرار الظني المتوقّع صدوره، وفق ما سُرّب وما رُوّج إسرائيليًا له، أن يُتّهَم «حزب الله» عبر عناصر منه، بالمشاركة في اغتيال الرئيس رفيق الحريري. سيثير ذلك ردود فعل مذهبية و«سيتدهور» الوضع في لبنان كما توقّع وأمل رئيس الأركان الإسرائيلي. سيغرق هذا التدهور «حزب الله» في أتون اضطراب وربما احتراب أهلي يصرفه عن دوره في التصدّي للعدوّ الإسرائيلي. قد يكون ذلك، إذا سمحت الظروف، مقدّمة لتدخّل إسرائيلي مباشر من أجل المساهمة في تغذية الصراع في لبنان، وتوجيه ضربة عسكرية إذا أمكن، لحزب الله، تحقق ما تعذّر تحقيقه في عدوان تموز 2006.
جدية هذا السيناريو، في أنّه مدعوم من قوى متصهينة في الإدارة الأميركية ومن بعض قوى «الاعتدال» العربي. وخطورته الأساسية في مقوّماته المحلية، وفي شقيها: السياسي العام بما هو صراع على النفوذ والسلطة والدور... و«السياسي الخاص»، بما هو الأدوات والغرائز المذهبية والطائفية المستخدمة في هذا الصراع.
في مجرى تحوّلات معروفة في المنطقة، يمكن الاعتبار أنّ العامل الأساسي المعوّل عليه في مشروع الفتنة، إنما هو، حاليًا، العامل الداخلي اللبناني. من هنا ينبع الخطر، وإلى هنا يجب أن تتوجّه المطافئ والمعالجات وحتى التسويات!
في هذا السياق تُطرح عناوين عدّة. أوّلها الحفاظ على السلام الأهلي. وثانيها الحفاظ على المقاومة. وثالثها الحفاظ على المؤسسات. ورابعها السعي لتطوير المواجهة مع العدو وحماته وشركائه والمتواطئين معه.
طبيعي أنّ هذه العناوين منفصلة ومتصلة في آن واحد. وكلّ عنوان قد يتحوّل إلى أولوية في مرحلة من المراحل، وخصوصًا عنواني الحفاظ على السلم الأهلي وعلى المقاومة.
غير أنّ الأساسي في التعامل مع العناوين الأربعة المذكورة آنفًا، إنّما هو الانطلاق من العنوان الأخير فيها، الذي هو تطوير المواجهة مع العدو وحماته وشركائه وعملائه. إنّه المنطلق الذي يجب أن يحكم توجّه قوى المواجهة الوطنية وخطة عملها ومواقفها، حيال البنود الأخرى في انفصالها واتصالها، في الوقت عينه.
ويمكن القول إنّ تطوير المواجهة ضدّ العدو ومشاريعه، إنما يستتبع، بالضرورة، أمرين، أوّلهما الحفاظ على السلم الأهلي، وثانيهما الحفاظ على المقاومة وسلاحها وجهوزيتها. ويتصل بذلك، حتمًا وحكمًا، منع انهيار مؤسسات الدولة، وعدم تعميق الانقسام اللبناني ــــ اللبناني الذي هو الوجه الآخر لأمرين متداخلين أيضًا: تفاقم التدخل والنفوذ الخارجيين في الحياة السياسية اللبنانية، وتعزّز البنى التقسيمية، أي الدويلات التي تمعن في التطوّر والتمدّد على حساب الوحدة الوطنية وعلى حساب الدولة ووحدتها وحصانتها وسيادتها جميعًا!
إنّ الافتقار إلى امتلاك خطة وطنية شاملة هو ثغرة خطيرة في مسار العمل الوطني والعمل المقاوم في لبنان. وليس خافيًا أنّ قوى عديدة يفترض أن تجتمع على توجّه وطني واحد وواسع، تعاني راهنًا التشتّت، كما تعاني شيئاً من التخبّط الذي يسهل معه استدراج بعضها إلى ما يُنصب لها من فِخاخ، أو تهميش بعضها الآخر ليبقى وجه الصراع وشكله طائفيًا ومذهبيًا على وجه التحديد.
تُستغلّ الآن نقطة الضعف المذهبية في البنية التعبوية لحزب الله. ولا ينفع في تدارك نقطة الضعف هذه التلويح باستخدام القوة في الدفاع عن المقاومة. إنّ الانتقال إلى استخدام القوة في ظروف كالظروف الراهنة هو ما يرمي إليه مخططو مشروع الفتنة. هم لا يسألون عن النتائج لجهة المنتصر في النزاع العسكري والاحتراب الأهلي، ما دام المطلوب إغراق المقاومة في حمأة الاحتراب الداخلي الطويل والمكلف!
بديهي أنّ إحداث تحوّل على مستوى التعبئة لدى حزب الله لن يكون أمرًا سهلاً. لكن يبقى، مع ذلك، أمرًا ضروريًا، وحتى مصيريًا، في لحظات ومراحل حرجة كالتي يجتازها الصراع في لبنان حاليًا. وبات من الواجب التأكيد أنّ ما كان نقطة قوّة في مرحلة سيصبح نقطة ضعف في مرحلة ثانية. نعني بذلك إضفاء صيغة مذهبية على الصراع بحيث تبدو إيران و«الشيعية السياسية» هي العدو، في مواجهة جبهة تمتدّ من واشنطن وتل أبيب و«شرم الشيخ» وصولاً إلى زواريب «طريق الجديدة»، و«برج بو حيدر»، و«جبل محسن» و«باب التبانة» في طرابلس!

ما كان نقطة قوّة في مرحلة سيصبح نقطة ضعف في مرحلة ثانية

ومن جهة ثانية، يتبلور أكثر عجز القوى الوطنية التقليدية عن بلورة توجهات وعلاقات وسياسات ومواقف تصلح لأن تصوّب المواجهة نحو هدفها الحقيقي. تبدو هذه القوى في حالة غياب أو التحاق أو تخبّط ما بين الشعارات: فمن جهة، التحذير من المساس بالسلم الأهلي. ومن جهة ثانية، المطالبة بتطوير الفرز وتجذير الانقسام وصولاً إلى إطاحة الحدّ الأدنى من التواصل والتفاعل الداخلي الممثل في الحكومة الراهنة وفي المؤسسات الرسمية. أما بعض القوى الأخرى، فيعبّر دائمًا عن أولويات خاصة، فئوية أحيانًا، وتنافسية أحيانًا أخرى، ومحكومة بالحفاظ على الواقع الطائفي والمذهبي (مع تعديل توازناته)، في كلّ الأحوال. هل يمكن حقًا الحفاظ على السلم الأهلي وعلى المقاومة، وكذلك منع انهيار الدولة والمؤسسات؟ إنّ الجواب هو نعم. وذلك ممكن فقط من خلال تطوير المواجهة فلا تقتصر على الشق العسكري الذي تحققت فيه قفزات وإنجازات مدهشة، باعتراف العدوّ نفسه. لكنّ هذه الإنجازات، وكما ثبت بالتجربة المتكرّرة والقاسية غالبًا، معرّضة للضياع ما لم تنتظم في نطاق خطة شاملة تستقطب تأييد الأكثرية الساحقة من اللبنانيين، وتلبّي في الوقت عينه، مصالح كلّ اللبنانيين في عدم الانزلاق نحو الفتنة وفي الحفاظ على قوة المقاومة في مواجهة الاحتلال والعدوانية الصهيونيين.
المطلوب هو بناء خطة مواجهة وطنية تمثّل امتدادًا وتطويرًا لتجارب الشعب اللبناني الفذّة، التي حملت عناوين الإصلاح، والعروبة الديموقراطية، والمقاومة الشعبية في كلّ صيغها وأسمائها... وخطة تستلهم أيضًا تجارب الجبهات الوطنية، وأبرزها «الحركة الوطنية» وبرنامجها في شقيه: مواجهة المخططات الأميركية والصهيونية من جهة، والتخلص من النظام الطائفي ــــ المذهبي، بعد توفير الضمانات لقيام بديل ديموقراطي ركائزه المساواة والعدالة والديموقراطية، من جهة ثانية.
* كاتب وسياسي لبناني