شهد لبنان، على امتداد الأسبوعين الماضيين، تحركّات شعبيّة ذكّرت بالتحرّكات الجماهيريّة الشعبيّة، التي وسمت لبنان في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات، والتي ولّدت «الحركة الوطنيّة اللبنانيّة»، وإن لم تلامس حدودها وآفاقها. والحركة كانت، في عماد منها، نتاج نضالات جماهريّة، وتحضيرات استمرّت على مدى عقود، وتقاطعت مع نضال الشعب الفلسطيني في المخيّمات، والمدارس والجامعات في لبنان، كما كانت أيضاً نتاج انبعاث حركات قوميّة عربيّة، ومقاومات فلسطينيّة طبعت الحقبة الناصريّة، وما تلاها من زيادة نفوذ قوى الثورة الفلسطينيّة.
والتحرّك يزداد زخماً بسبب تعنّت السلطة (بقواها كافّة) وعنفها، بالإضافة إلى إصرار رعاة الحكومة (السعوديّين والأميركيين والأروبيين) على الحفاظ عليها بأي ثمن، لأنها تخدم مصالح تلك الدول. والتحرّك الشبابي عريض (كما يجب أن يكون)، ومتنوّع (كما يجب أن يكون)، ولا يُختصر بتنظيم واحد أو تنظيمين. لكن التجربة الحاليّة قد تنمو وتختمر، إلا إذا خبت، بسبب تمنّع من قبل الحركة نفسها، أو بسبب مزيد من العنف والتسلّط من قبل السلطة الظالمة. مهما كان، فإن جيلاً حاليّاً يراكم تجارب، ويستلّ دروساً لا بدّ أن تفيده في المستقبل. كما أنّ تجارب ودروس أجيال سبقته تُلهم في عظاتها وفي فشلها. وتجربة «الحركة الوطنيّة اللبنانيّة» غنيّة بالعبر، في ما يجب عمله وفي ما يجب تلافيه. وهنا بعض من دروس تلك التجربة (كما أراها):
أوّلاً: عدم التحضير للمواجهة والاستهانة بالخصم. من الأخطاء الكبيرة لـ»الحركة الوطنيّة اللبنانيّة» أنها لم تعد العدّة للتحضّر للحرب الأهليّة، التي كان حزب «الكتائب» وصحبه، من أعوان العدوّ الإسرائيلي، يعدّون لها في لبنان. كانت الإشارات جليّة: منذ الستينيات كان «زعران الكتائب» في الكحّالة، والدامور، يتحرّشون بالفلسطينيّين، ويمعنون في دفع الطرف الآخر نحو الحرب الأهليّة. وفي مرّة أوقفت ميلشيا «الكتائب» شاحنة تحمل نسخاً من القرآن وأحرقتها، لا لشيء، إلاّ للإسراع نحو الفتنة. وكان قادة «الحركة الوطنيّة اللبنانيّة» يعلمون أنّ الدولة اللبنانيّة فتحت كل خزائنها، ومعدّاتها أمام ميلشيا «الكتائب» بعد فشل الجيش اللبناني في كسر المقاومة الفلسطينيّة، في مواجهات أيّار 1973. تساهل فؤاد شهاب (الذي ساهم في تدعيم ظاهرة الكتائب بوجه خصمه اللدود، ريمون إدّة) مع ميليشا «الكتائب»، وتساهل معها مَن خلفه في الرئاسة، حتى أتى سليمان فرنجيّة، وأمر بأن تصبح مهمّة إعداد وتضخيم ميليشيا «الكتائب» جزءاً من عقيدة الجيش اللبناني. لو أنّ «الحركة الوطنيّة اللبنانيّة» كانت متحضّرة لما أمكن هزيمة «الكتائب» مبكّراً، ولأمكن دفعهم عمّا أصبح لاحقاً «خطوط التمّاس».

من الضروري في بدء شنّ حملة سياسيّة لتغيير الواقع رفع سقف المطالب على الأقلّ من أجل المفاوضة على أساسها

رفض كمال جنبلاط، ومحسن إبراهيم، وجورج حاوي، الخيار العسكري (حتى من باب الدفاع عن النفس) لأنّ الشيوعيّين الإصلاحيّين كانوا يؤمنون بتغيير النظام من الداخل، وسلميّاً. كاد نقولا الشاوي أن يصبح نائباً في 1972، وبدت النيابة أغلى على قيادة الحزب من ديكتاتوريّة الطبقة العاملة. أمّا كمال جنبلاط، فلم يكن في وارد تسليح القوى الوطنيّة، خصوصاً أنه ساهم في إيصال سليمان فرنجيّة إلى سدّة الرئاسة، كما أن الاتحاد السوفياتي كان يقيم علاقات وطيدة مع الرئيس الجديد، ولم يرتح لظاهرة تثوير الوضع اللبناني. إن حالة الرخاوة التي اعترت صفوف قيادة «الحركة الوطنيّة اللبنانيّة» كادت أن تؤدّي إلى اجتياح الكتائب لمنطقة الحمراء، عام 1976، لولا أنّ المقاومة الفلسطينيّة عبّأت قواها، لتخوض حرباً بطوليّة في «حرب الفنادق»، وتدفع بقوى اليمين «الفاشي» نحو المرفأ (العلاقات العامّة للحركة الوطنيّة آنذاك جعلت من التنظيم الاستعراضي، «المرابطون» هو بطل تلك الحرب). وجزء من عدم التحضّر هو في الاستهانة بقدرات الخصم، وبرعايته الخارجيّة.
ثانياً: رفع سقف المطالب. من الضروري في بدء شنّ حملة سياسيّة لتغيير الواقع رفع سقف المطالب، على الأقلّ من أجل المفاوضة على أساسها، واستخدامها ورقة قوّة، مع أنه من الأفضل التمسّك بالمطالب المبدئيّة، والإصرار على تنفيذها. كان سقف «الحركة الوطنيّة اللبنانيّة» بقيادة كمال جنبلاط، الذي كان ركناً من أركان النظام اللبناني على مرّ العقود، هو «إصلاح» النظام و»تطويره» فقط كما طرح جنبلاط في «البرنامج المرحلي» للحركة، في آب 1975. كان البرنامج «مرحليّاً» من أجل طمأنة الخصم أن الحركة لن تسعى لتحقيقه على الفور (عندما كانت قوّة الحركة في ذروتها، وعندما كانت تنطق باسم جمهور متعدّد الطوائف والمشارب) بل بالتدرّج البطيء، ومن دون تحديد جدول زمني. كما أن بنود البرنامج (عندما تعود إليها اليوم) لم تكن أبداً تمثّل تغييراً في النظام، بقدر ما كانت إصلاحاً ليبراليّاً تجميليّاً، ينقذ النظام من أزمة كان يمكن أن تودي به. وسقف الإصلاحات كان منخفضاً للغاية، حتى العلمانيّة لم تكن مطروحة، بل طرح البرنامج بدعة «إلغاء الطائفيّة السياسيّة»، والتي تبنّاها لفظاً مؤتمر «الطائف» في التعديلات الدستوريّة (وهي لا تزال تنتظر التنفيذ من قبل طبقة تعتاش على الطائفيّة). ورواية دين براون، عن لقائه مع كمال جنبلاط، في 1976، مندوباً عن الرئيس الأميركي، جيرالد فورد، معروفة. كيف أنّ براون قرأ ترجمة للبرنامج المرحلي، وقال لجنبلاط، في اليوم التالي، إنّ البرنامج يُعتبر مُعتدلاً، ولا يُصنّف يساراً في الولايات المتحدّة (وكان براون هذا جمهوريّاً محافظاً). لو أنّ الحركة سعت لتغيير النظام، كان يمكن لها أن تضغط على السلطة من أجل تغيير مسارها وهي مُترنّحة.
ثالثاً: الالتزام اللاعنفي. أخطأت «الحركة الوطنيّة اللبنانيّة» عندما كان لها ظهير جبّار، متمثّل في المقاومة الفلسطينيّة، ولم تطرح «العنف الثوري»، على الأقل كورقة ضغط بوجه السلطة منذ السبعينيات. التزمت الحركة باللاعنف، فيما كانت السلطة تعتمد أسلوب العنف، مستعينة بميليشيات اليمين الانعزالي، التي كانت تدخل المدارس والجامعات وتمعن ضرباً وشغباً لعلمها أن الطرف الآخر ملتزم باللاعنف بصرامة. يمكن لحركة احتجاجيّة أن تفاوض السلطة على ورقة اللاعنف على الأقل، لا أن تمنحها مجّاناً للسلطة.
رابعاً: تهميش، ولَوْم «اليسار المتطرّف». في كل الحركات الاحتجاجيّة، التي لا يقودها اليسار، تلجأ قوى معتدلة ووسطيّة وليبراليّة، إلى لوم اليسار، بدلاً من لوم الخصم وتحميله المسؤوليّة. لم يكن كمال جنبلاط متساهلاً مع القوى التقدميّة، وجماهيرها، عندما كان في السلطة (وشغل منصب وزير الداخليّة، ويُذكر من منجزاته، في منتصف الستينيات، منع جوني هوليداي من دخول لبنان لأنه يخدش الآداب العاميّة في حفلاته، بحسب القرار آنذاك). وقد مشى وليد جنبلاط في تظاهرة ضد سلطة والده، في عام 1969. ومن المعروف أن كمال جنبلاط، في شباط 1975، وردّاً على عنف السلطة، المتمثّل باغتيال معروف سعد، أدلى بتصريح قال فيه: «أُطلقت النار على الجيش من الأبنية المجاورة، فاضطرّ الجيش إلى الردّ على النار بالمثل، فأصيب معروف سعد، وقد ضبط الجيش أعصابه… إنّ بعض كتل اليسار المنحرف تسبّب مشاكل كثيرة، وهي تستفيد من هذه الظروف» (النهارـ 27 آب ـ 1975) . وقد سبّب تصريح جنبلاط، يومها، غضبة شعبيّة في مدينة صيدا (كم كانت تقدميّة تلك المدينة قبل أن يجتاحها رفيق الحريري بماله وفساده) خصوصاً أنه ليس ثمّة شك في أن الجيش اللبناني هو المسؤول عن اغتيال سعد، وأن بندقيّة تابعة للجيش هي التي أطلقت النار عليه (عاد كمال جنبلاط وأصلح روايته في ما بعد اندلاع الحرب). إنّ اليسار المتطرّف (المُنحرف، في حساب جنبلاط) كان حكيماً وثاقب النظر، لأنه دعا إلى التنبّه من مخطّطات السلطة، وأصرّ على أنّ الجيش اللبناني (الذي ظنّ جنبلاط أن بمستطاعه تحييده) هو شريك، وحليف للميليشيات الانعزاليّة. إنّ اليسار الثوري كان سبّاقاً في مراحل الحرب الأهليّة، مع أنّ قوى اليمين في منظمّة التحرير، وقيادة «الحركة الوطنيّة» كانت تبعده دوماً عن صنع القرار.
خامساً: تهميش المرأة. تنشر دلال البزري، في جريدة «المستقبل» ذكرياتها عن الحرب الأهليّة، وعن تجربتها السياسيّة والعسكريّة في منظمّة «العمل الشيوعي»، وهذه الشاهدة جديرة بالقراءة من جيل شبابي جديد. وما كتبته البزري عن تهميش المرأة، وعن إبعادها عن صنع القرار، ينطبق ليس فقط على المنظمّة (للأمانة) بل على كل أحزاب اليسار اللبناني والفلسطيني (أذكر أن العظيم جورج حبش، في آخر لقاء لي معه، قال إن عدم إيلاء موضوع تحرير المرأة أهميّة قصوى كان من أخطاء الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين). كانت المرأة في أحزاب اليسار تحتلّ نفس الموقع الذي تحتلّه في القبيلة والعشيرة الذكوريّة. ولم تنل المرأة في «البرنامج المرحلي» إلا جملة واحدة غير محدّدة.
سادساً: السريّة في اتخاذ القرار وفي الماليّة. لم تكن قيادة «الحركة الوطنيّة» تعتمد الصراحة والشفافيّة في صنع القرار المصيري. كانت قيادة الحركة تنطق، وتعمل وتتحرّك باسم «الجماهير الشعبيّة» والفقراء، وتتخذ كل قراراتها بسريّة مطلقة، ومن دون إشراك القاعدة.

في كل الحركات
الاحتجاجيّة، التي لا يقودها اليسار، تلجأ قوى معتدلة ووسطيّة وليبراليّة، إلى لوم اليسار، بدلاً من لوم الخصم

وكان صنع القرار يتمّ خارج مكاتب «الحركة الوطنيّة»: كانت بضع قيادات تستفرد بالقرار، الذي غالباً كان يأتيها على شكل أوامر، إمّا من ياسر عرفات، أو من النظام السوري، أو من النظام الليبي، أو من السفير السوفياتي في بعض الأحيان. وكانت الشؤون الماليّة سرّاً من الأسرار، كما في كلّ الميليشيات والأحزاب اللبنانيّة، لكن الحركة كان يفترض أنها تطرح شعارات التغيير الديموقراطي، الإصلاحي للنظام اللبناني، غير أنّ قادتها تصرّفوا كزعماء تقليديين. كان كلّ أمين عام لحزب، أو تنظيم من أحزاب وتنظيمات «الحركة الوطنيّة» يتلقّى مبلغاً شهريّاً مقطوعاً، مقداره مئة ألف دولار من النظام الليبي، وكان معظم الأمناء العامّين يتصرّفون بالمبلغ كما يشاؤون (بعض الأحزاب الصغيرة كانت تضع المبلغ في ميزانيّة الحزب مباشرة).
سابعاً: عدم التراجع أمام التهديدات. كانت «الحركة الوطنيّة» تتراجع أمام التهديدات، وأمام المدّ الرجعي. قرّرت «الحركة الوطنيّة» متأخرة (في عام 1980)، أمام حالة الفوضى المستشرية في بيروت الغربيّة، وتنوّع وتعدّد الميليشيات فيها (خلافاً لبشير الجميّل الذي «وحّد» البندقيّات في سلسلة من المجازر المتلاحقة)، بالإضافة إلى اختراقها من قبل عدد هائل من أجهزة مخابرات معادية، أن تنشئ، في مناطق نفوذها، مجالس للإدارة المحليّة، من أجل تدبير أمور المواطنين، وتقويض الدعاية الإسرائيليّة، التي كانت تبنى على حالة النقمة الشعبيّة من فوضى السلاح، في تلك المناطق. لكن «الحركة الوطنيّة» لم تمضِ في مشروعها، بل تراجعت فور تجمهر كلّ القوى الطائفيّة الرجعيّة (المتمثّلة بـ «جبهة المحافظة على الجنوب» للطائفيّة الرجعيّة الشيعيّة، و»التجمّع الإسلامي» للطائفيّة السنيّة الرجعيّة) ضدّه. وكانت تلك القوى، السعوديّة المنشأ، تحرّض على المشروع، وتدعو إلى نشر سلطة الدولة (التي كانت مرتهنة بالكامل، في عهد سركيس، لبشير الجميّل). كما أنّ التنظيم البيروتي، «اتحاد قوى الشعب العامل» (وكان آنذاك، كما رجع بعد «عاصفة الحزم»، موالياً للنظام السعودي) قاد حملة شعبيّة واسعة ضد المشروع، الذي كان يمكن له أن يقضي على حالة الفساد المنتشرة، ويقرّب بين «الحركة الوطنيّة» وبين جمهورها.
ثامناً: أخذ زمام المبادرة، وعدم الوقوف في الدفاعيّة. في وقت كان حزب «الكتائب اللبنانية»، و»القوات اللبنانيّة» في ما بعد، مستمرين في طرح مشروعهما، وتعبّئة جمهورهما وراءه، وثابتين في التزامهما المشروع الشرّير والخطير، كانت «الحركة الوطنيّة» تتخبّط، ولا تأخذ زمام المبادرة، وكانت عسكريّاً وسياسيّاً في حالة الدفاع المُستمرّ، مّا أفقدها القدرة على المناورة، وعلى التحريك. حتى خطوط التماس كانت من صنع الفريق الانعزالي، ولم تعمل قوى «الحركة الوطنيّة» على تغييرها. وكان ياسر عرفات حريصاً، هو الآخر، على عدم تغيير خيوط «اللعبة» التي كان يتعامل معها (كما تعامل معها النظام السوري) على أنها ورقة تفاوضيّة لصالحه. قام حزب «العمل الاشتراكي العربي - لبنان»، و»الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين» في بداية الحرب في 1975ـ 1976 بعمليّة لفتح ثغرة في جبهة (الشيّاح - عين الرمّانة) لكن قوّات «فتح» كانت تمنع مثل هذا التحريك للوضع العسكري. كانت تلك تجربة وحيدة.
تاسعاً: الكذب على الجماهير. لم تكن «الحركة الوطنيّة اللبنانيّة» بشخص قياديّيها تصارح جمهورها بما يدور في الخفاء، وكانت تطرح شعارات لاتلتزم بها. لقد كان ردّ الحركة على مجزرة عين الرمّانة ضعيفاً للغاية، وطالب السلطة بتحقيق (والسلطة كانت متواطئة بالكامل مع الميليشيا التي ارتكبت المجزرة) وطرحت شعار «عزل الكتائب» (وكان الشعار من صنع وتصميم كمال جنبلاط ومحسن ابراهيم وجورج حاوي، الذين تخلّوا عنه في ما بعد). لكن الحركة لم تكن ملتزمة بالشعار، وكانت من وراء الجماهير، تقوم بحوارات ولقاءات سريّة مع بشير الجميّل ومع غيره. كان كمال جنبلاط، كما غيره من قيادات الحركة، على تواصل مستمرّ مع بشير الجميّل، وكان سمير فرنجيّة يقوم بدور الوسيط بين الطرفين. كيف يمكن تعبئة الجماهير وراء شعار لم تكن قيادة الحركة ملتزمة به أو جديّة في طرحه؟ والشعار كان صائباً في حينه، ولا يزال، لأن الطرف الواجب عزله هو الذي قام بالمجزرة، وهو الذي كان يريد «عزل» لبنان عن محيطه العربي، وربطه عضويّاً بالعدوّ الإسرائيلي. والحركة الوطنيّة رفعت علناً شعار «العزل» فيما قرّر وليد جنبلاط، بعد اجتياح إسرائيل للبنان في عام 1982، وتحت ضغط الدبّابات، إلى الرضوخ لمطلب مفاوضة بشير الجميّل (مع حركة أمل) على شرط تسليمه الجمهوريّة (وتمّ ذلك في لجنة استحدثها إلياس سركيس، عرّاب بشير الجميّل، تحت مسمّى، الإنقاذ الوطني). وموقف «العزل» كان صائباً لأن الميليشيا عينها قامت، فيما بعد، بمجازر متعدّدة ضد مسلمين ومسيحيّين، وضدّ مخيّمات فلسطينيّة. لماذا لم تكن الحركة تصارح جمهورها بحالة اللعب على الحبال، والمفاوضات من وراء جثث الشهداء، كي يحكموا عليها سلباً أو إيجابا؟ ربّما لأن الحركة كانت تخشى جمهورها، بعدما ابتعدت منه، وزاد ابتعادها حتى بلغ الذروة قبل الاجتياح، عندما وجد العدوّ تربة خصبة كي ينقضّ فيها على مشروع المقاومة والصمود والمواجهة مع العدوّ.
عاشراً: الاعتدال وبال. خصوصاً في زمن مواجهة المؤامرات. قرّرت «الحركة الوطنيّة» أن تنتهج منهج الاعتدال في كل مراحل تاريخها، وابتعدت عن التطرّف، كما أن قيادة كمال جنبلاط، ووليد جنبلاط من بعده، ضمنتا أنّ الخيارات الراديكاليّة في مواجهة أخطر مشروع راديكالي جذري رجعي، المتمثّل في مشروع بشير الجميّل، لم تكن تُنتقى، وكان الإصرار دوماً على الخيار المعتدل، وعلى التهدئة، وعلى الحوار. كان الفريق الانعزالي يعطّل كل مشاريع الوفاق والسلام، فيما كانت «الحركة الوطنيّة» لا تعتمد، مهما كان، على خيار الحل، أو الحسم العسكري. صحيح أن كمال جنبلاط وصل متأخراً إلى قناعة حول ضرورة الحسم العسكري، في عام 1976 لكن المشروع عطّله النظام السوري، وحركة «فتح» (لم تكن حركة فتح، بشخصي أبو عمّار وأبو جهاد، جديّة في قرار المواجهة العسكريّة مع قوّات النظام السوري، التي تدخّلت عام 1976 لإنقاذ ميليشيات اليمين الرجعي من الهزيمة الأكيدة)
حادي عشر: الهوّة بين القيادة والقاعدة. إنّ الهوّة بين قيادات الحركة، وبين قاعدتها، كانت كبيرة. إن الثراء الذي لحق بمعظم قيادات «الحركة الوطنيّة» نقلهم من طبقة إلى طبقة، ومن منطقة سكنيّة إلى أخرى. طبعاً، إنّ بعض قادة التنظيمات اليساريّة الصغيرة لم تتأثّر بالدفق المالي، الذي لم يصبها منه إلا القليل، وكانت تنفقه على ضرورات العمل العسكري والتجهيز. كما أن الحركة التقدميّة خضعت لمعايير الزعامة الطائفيّة التقليديّة في تسليم القيادة إلى كمال جنبلاط، وإلى ابنه من بعده.
ثاني عشر: الإدمان على الدفق المالي. كان الدفق المالي على الحركة المفسدة الكبرى. تحوّل المال الخارجي، من وسيلة لبناء حركات مقاومة وطنيّة، إلى هدف بحدّ ذاته، لإطعام أخطبوط بيروقراطي، نسي الذين أنشأوه سبب وجوده. أبنية وقواعد ومكاتب لا يعلم أحد جدواها. كانت «الحركة الوطنيّة اللبنانيّة» في الستينيات، وأوائل السبعينيات، أفعل وأجدى وأقرب من الجماهير، عمّا أصبحت عليه في ما بعد، ولم تكن تملك لا المكاتب ولا الأبنية، ولا القواعد الثابتة، التي كانت أهدافاً ثابتة أمام طائرات العدوّ، والتي كانت تخلّ بأبسط قواعد «التكتيك العسكري» الذي كان يتعلّمه مَن مرّ في معسكرات تدريب الثورة الفلسطينيّة. كان المال الليبي يتدفّق على الحركة، إلى درجة أن الحركة ابتاعت مبنىً كاملاً، وكان فضفاضاً، ولم يكن هناك من سبب لملء كلّ تلك المكاتب (أذكر حجم مكتب الأمين العام التنفيذي للحركة الوطنيّة). والبيروقراطيّة الإداريّة التي تمخّضت عن التمويل، لم تكن تحسّن البتّة في أداء التنظيمات. على العكس، جعلتها أكثر جموداً ولينينيّة ومركزية. كما أن المال الهابط، ولّد ظاهرة التفرّغ، التي جذبت مقاتلين يفتقرون إلى العقائديّة. كان المال وفيراً إلى درجة أنه كان هناك إفراط في نشر المجلاّت والصحف: كانت مجلّة «الهدف» التي أطلقها العظيم، غسّان كنفاني، تنشر في سنواتها الأولى، بعد 1969 ثبتاً بالتبرّعات الصغيرة، التي كان عرب حول العالم يجمعونها للمجلّة، لكن «الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين» باتت تنشر في سنوات الطفرة الماليّة (التي كان ياسر عرفات يستعملها لأسر باقي التنظيمات الفلسطينيّة واللبنانيّة) مجلّة غنيّة (وأنيقة بلا سبب)، وتنشر جريدة يوميّة «الثورة مُستمرّة». (وكان معظم مواد تلك الصحف اليوميّة مُصوّرة من صحف أخرى). كانت الثورة أفعل في سنوات فقرها وعوزها.
لن تتكرّر تجربة «الحركة الوطنيّة اللبنانيّة»، بسيّئاتها وإيجابيّاتها، كما أن الحكم عليها يجب حكماً أن يأخذ بعين الاعتبار الظروف، والعوامل الخارجيّة، التي أثّرت في مسارها، وفي قدرتها على التغيير. والتحرّك الشبابي الجاري في لبنان، اليوم، قد لا يتكرّر من حيث قدرته على اجتراح معجزة تغيير النظام، كي لا نقول إسقاطه، لكن تجربة الأجيال السابقة مفيدة، لمَن يريد أن يعتبر من الماضي. لكن التجارب لا تتكرّر، ولا يجب أن تتكرّر، وكل تجربة تغيير، أو انتفاضة، أو ثورة (حتى نحلم) يجب أن تكون صنيعة لحظتها، وعصارة أحلام شبيبتها، من دون تقليد، أو عودة إلى الوراء. لكن الأمل هو العامل المشترك، ومن دونه تزول حركات التغيير، وتسود الأنظمة إلى ما لا نهاية.
* كاتب عربي (موقعه على الإنترنت:
angryarab.blogspot.com)