وائل عبد الفتاحمستقبل الحكم في مصر أصبح مرهوناً على ما يبدو بصراعات غير تقليدية، وغير مفهومة. المال يتداخل تداخلاً غير مسبوق في تحديد شكل الحكم واختياراته، وتحدّيه لقوى قديمة في الدولة، وهذه مرحلة انتقالية لم يكن يتمناها المجتمع المدني في مصر، لكنها تجري وفق إيقاع سري تماماً، تتساوى فيه قوى المال مع القوى الصلبة في الدولة، أو بمعنى أدق تتعدل قيم التوازن بينهما.
هكذا عادت أرض «مدينتي» إلى هشام طلعت مصطفى بالأمر المباشر. وهكذا خُفّف الحكم على هشام طلعت مصطفى في قضية قتل سوزان تميم من الإعدام إلى ١٥ سنة.
هل صدر الحكم بالأمر المباشر، مثل إعادة الأرض بعد إثبات بطلان العقد؟ اللاعبون السريون في النظام لا يخفون أصابعهم التي تلعب في كل الملفات. جناح من النظام يريد توصيل رسالة إلى الديناصورات الثقيلة خلف محميات عمرها ٣٠ سنة: اطمئنوا سنحميكم!
وهذا الجناح أعاد الأرض إلى هشام طلعت مصطفى وسط اعتراض من جناح قديم لا تزال محمياته تدار بأسلوب الستينات: محميات للجنرالات والسياسيين ورموز الدولة. ولم يفهم هذا الجناح العقل الجديد الذي يدير المحميات ويحمي خلفها ديناصورات المال.
هناك صراع لا يحسم عادةً إلا بيد الرئيس. ويد الرئيس تعمل وفق حساسيته الشخصية وخبرته وإحساسه بالخلل في توازن من صنعه هو وحده.
ولهذا فالجناح الذي يريد حل مشاكل الديناصورات المرعوبة خلف المحميات، أعاد الأرض واكتفى الجناح المضاد بالاحتجاج ولم تتحرك يد الرئيس.
ولهذا فإن الجمهور الواسع دفع إلى سؤال: هل تخفيف العقوبة على هشام طلعت مصطفي سار على نفس طريق السلامة لأصحاب المليارات أم لا؟
السؤال كاشف عن غياب الأمل، ولو ضئيلاً، في وجود قوى داخل النظام تنتصر لقواعد العدالة أو قيم المساواة وسيادة القانون.
القانون ليس سيداً في مصر، يمكن اختراقه من أصغر عسكري جوال في الشوارع، حتى أكبر رأس في كل مكان في البلد.
من هو السيد إذاً؟ لا إجابة. وهذا يجعل كل شيء محل شك. كل شيء عبثي إلى درجة أنّ الجريمة أصبحت تفيد أكثر من السير في الأمان.
وعندما أثبت القضاء أنّ عقد «مدينتي» باطل، لم يكن رد الجيش الصحافي للنظام سوى مطالبة الجميع بالصمت، لأن كل المعترضين على العقد استفادوا من العقود الباطلة.
لم يهتمّ أحد بأن بطلان العقود أو توزيع أراضي الدولة على حسب الهوى المباشر يهدر قيم العدالة والمساواة، ويحرم الشخص العادي الحق في مساحة في مدينته، لا مدينة هشام طلعت مصطفى أو أيّ ديناصور شاطر عرف كيف يتسرّب إلى محميات النظام.
لم يكن المهم أن يُطبَّق القانون، المهم هو حل المشكلة، وإعلان أنّ الجميع متورّط.
ويمكن أن يكون الجميع متورطاً، بشكل أو بآخر، لأن العقود الباطلة لم تعد جريمة عابرة، أصبحت سياسة منهجية، مثلها مثل التعذيب. العقد الباطل يجعل السيد الغامض يفرض سلطانه، والتعذيب يفرض سيطرته. فالقانون ينام مرتاحاً في أدراج لا تفتح إلّا بالأوامر العليا. وفي ظروف تربك الناس أكثر ممّا تُشعرهم بالأمان.
والحكم على هشام طلعت مصطفي أكبر دليل. عندما صدر حكم الإعدام في الدرجة الأولى، لم يغب الشك، فالقضية، ليست إلا حرب تصفية بين الديناصورات الذين توحّشوا ولا بد من حركات إزاحة، تجري بتصفيات دموية أحياناً.
وعندما خُفّف الحكم انفجر السؤال: ولماذا يجري التخفيف، هل هو بريء أم لا؟ هل محسن السكري قاتل أم لا؟
هل كان الحكم الأول تهدئة لمصالح النظام مع دبي؟ والتخفيف ظهر بعد هدوء العاصفة؟ أسئلة تحوّل القانون إلى لعبة أمام جمهور يرى الأصابع، التي فقدت حس الخفاء، تلعب وتلعب وتلعب.
النظام يعرف أنّ الثروة مفتاح السلطة، ولم يكن من الممكن أن يمنح المفاتيح لمن لا يعرف ولهذا اختار من بين زبائنه والموثوق بهم، من يحمل المفاتيح، ويملك الثروات.
الدولة هنا لم تحدث نقلة اقتصادية، لكنها فتحت الطرق السريعة أمام حملة عضوية ناديها الضيق جداً.
هكذا اتسعت العين، لكن الخطوة أمام الوصول إلى ما تراه، ضيقة، ومحفوفة بالمخاطر، ومعلّقة عليها لافتات ممنوع الاقتراب أو التفكير في الاقتراب.
الدولة اختارت أن يكون تحوّلها هذا عبر الاقتصاد السهل: بيع الأراضي، وبناء العقارات، ذلك النشاط الاقتصادي الذي يصنع الثروات ولا يحقّق تطوراً اقتصادياً.
العقارات كانت الباب الذهبي لأصحاب شركات صغيرة، مثل هشام طلعت مصطفى وغيره، ليصبح إمبراطوراً يدير إمبراطورية واسعة من عطايا الدولة وهباتها التي من المفترض أن توزّع على الجميع، لكن النظام طبّق قانون «الحاشية المختارة».
هذا القانون أوصل البلد كله إلى أزمة «مدينتي»، وهي ليست أزمة ٩٥٠ ألف أسرة فقط، بل أزمة أراضٍ وعقارات عقودها باطلة. كيف أصبح ٥ رجال أعمال يملكون ١٩٨ مليون متر مربع من أرض مصر؟ سؤال يكشف أزمة كبيرة تتوازى تقريباً مع أزمة الرئاسة في مصر. أصبح من حق المصريين أن يختاروا رئيسهم لكن لا تنطبق الشروط إلا على من يختاره النظام.
القانون نفسه: العين اتسعت والطريق إلى ما تراه ضيق جداً وممنوع إلّا على من يختارهم النظام.