بدر الابراهيم*لعل المنجزات معروفة، وهي تتأكد مع مرور الزمن. أما الإخفاقات، فتسيطر عليها نظرتان، إحداهما تبريرية والأخرى اختزالية. في التبرير، يُتجاوَز الإخفاق إلى الإنجاز مع تناسي تعطيل الإخفاق للإنجاز في كثير من الأحيان بما يوجب الحديث عنه للتخلص من تعطيله. وأما الاختزال، فيحدث بقصد تفريغ الإنجاز من مضمونه بالتركيز على إخفاق رئيسي (نكسة 67) يختزل التجربة كلها ويتعامى عن حجم الإنجاز... وحجم الإخفاق أيضاً.
إن غياب الموضوعية في نقد التجربة ينطلق من منطلقات عاطفية (مع أو ضد) ويؤثر على مراجعة التجربة والإفادة من دروسها، لكن يبدو بعد مرور كل هذا الوقت على وفاة الرجل (ووفاة التجربة) أن هذه الوفاة السياسية كانت نتيجة لأهم إخفاق ربما سجلته التجربة الناصرية، وهو فشلها في التحول من زعامة فردية إلى حكم مؤسساتي، ولو صارت مؤسساتية لما تمكن السادات من شطبها بجرة قلم.
إجراء مراجعة نقدية للتجربة الناصرية يتكامل مع تلمس الحاجة إليها في وقتنا الحالي، والحاجة تقتضي تجديد ركيزتي التجربة الأساسيتين في وعي الأمة وسلوكها: مواجهة الاستعمار، وبلورة مشروع نهضوي شامل.
لقد تجدد المشروع الناصري في مواجهة الاستعمار من خلال جبهة الممانعة وحركات المقاومة في المنطقة. ورغم أن أيديولوجيا هذه الحركات تختلف عن الناصرية، إلا أنها تعتبر وريثاً شرعياً لها في ما يخص مواجهة الهيمنة الأميركية والاحتلال الإسرائيلي، وهي تكمل الجهد الناصري بهذا الاتجاه، بل تتفوق في تأكيدها على الإيمان بالقدرة على الإنجاز والانتصار الذي تحقق فعلاً، وهو ما كانت الناصرية تسعى لتكريسه في الوعي العربي، وإن أخفقت في تحويله إلى واقع كما هو اليوم عبر انتصارات المقاومة.
استمر نهج عبد الناصر وتجدد في مواجهة الهيمنة، وتمكن وارثوه من هزيمة الهزيمة في الوعي العربي وضرب الدعاية الإسرائيلية/ العربية عن عجز العرب عن الانتصار والتفوق الصهيوني الأبدي. لكن تطلعه إلى مشروع نهضوي عربي لم يتجدد (دون إغفال وجود ثغر كثيرة في صيغة هذا المشروع بحاجة إلى معالجة)، ومجموعة المقاومين والممانعين في العالم العربي لم تنجح في بلورة مشروع نهضوي أو تنموي عربي أو حتى وطني، وليس هناك من يملك حتى رؤية نظرية لمثل هذا المشروع على مستوى الأحزاب والأنظمة العربية، وهذا جزء أساسي من الإخفاق العربي المتواصل.

تجدد المشروع الناصري في مواجهة الاستعمار من خلال الممانعة وحركات المقاومة
إن الحاجة اليوم كبيرة لاستلهام تجربة عبد الناصر الساعية للاستقلال والطامحة لمشروع عربي جامع، وإلى عودة الروح التي سادت في عهد عبد الناصر وحرّكت الجماهير وألهمتها، وذلك التطلع العربي العام إلى التخلص من الجهل والتخلف، وخصوصاً مع تسيّد الظلامية الساحة ومعها النزعات المذهبية والعرقية التي تنفست في غياب المشروع القومي الجامع.
والحاجة لعبد الناصر ونهجه تصبح أكثر إلحاحاً في مصر اليوم، مصر التي شهدت تحولاً عجيباً على كل المستويات. فمن استرداد حقوق العمال والفلاحين إلى استرداد حقوق الفاسدين في النهب، ومن الإنتاج والتصنيع إلى ممارسة التسول، ومن دور الدولة الكبرى إلى الأداة الصغيرة بيد الامبريالية، ومن قيادة الأمة في مواجهة الصهيونية إلى التحالف معها في وجه الأمة، ومن الازدهار الثقافي والأدبي والفني إلى الانحطاط المبشر بموت الثقافة وموت الدولة أيضاً.
ليست الدعوة هنا إلى الترحم على عبد الناصر وأيامه كلما ازدادت سوداوية المشهد، بل إلى الإفادة من هذه التجربة والبناء عليها وتطويرها للتخلص من تلك السوداوية. وهي دعوة تُعنى بها مباشرة الجهات التي ترث عبد الناصر في مجابهته للهيمنة الامبريالية، دعوةٌ لاستكمال وراثة التجربة في تبني مشروع حقيقي على المستوى الوطني والقومي للخروج من النفق المظلم.
تتأكد عظمة عبد الناصر ونهجه كلما زاد الانحطاط والتخلف في العالم العربي. وما يلفت الانتباه أن الرجل يزداد حضوراً وبريقاً كلما أمعن خصومه وكارهوه في الانقلاب على نهجه ومبادئه، وهو ما يجعله رغم كل محاولاتهم لقتله في قبره قائداً تاريخياً يكتسب شرعيته من الأمة المتطلعة إلى ذاك الشعور الذي فقدته منذ زمن طويل.
* كاتب سعودي