سعد اللّه مزرعاني*مرّةً جديدة تتدهور الأوضاع وتتفاقم الأزمات دون أن يطمئنّ اللبنانيون بعد، إلى أنّ المعالجة متوافرة في مؤسساتهم الدستورية القائمة، أو هي في متناول قواهم السياسية الأساسية عبر آلية ما للصلة والاحتواء والسيطرة. ليس خافيًا على أحد أنّ التصعيد قد بلغ، في الأسابيع الأخيرة، ذروة غير مسبوقة. وقد أثار ذلك قلقًا مشروعًا لدى أعرض أوساط الرأي العام، من انتقال الصراع إلى الشارع وعبر مسار خطير مفتوح على أسوأ الاحتمالات. إنّ بعض المظاهر ذات الطابع المذهبي الصريح قد عرضت على أسوأ صورة ودون رقابة أو ضوابط أو شعور بالمسؤولية...
وكالعادة، لم تبادر المؤسسات الرسمية إلى التحرّك. حتى الراغب منها في القيام بعمل أو مبادرة ما، وجد نفسه عاجزًا بسبب الافتقار إلى الإمكانات والآليات والسوابق والتقاليد!
وكالعادة أيضًا كان السواد الأعظم من اللبنانيين يتطلّع إلى الخارج في سبيل أن يبادر أحد من المعنيين منه، إلى احتواء الأزمة وإكساب لبنان واللبنانيين فترة سماح جديدة قبل أن يقرّر الإسرائيليون والأميركيون فصلاً جديدًا من التصعيد والعدوان.
وارتهان أوضاعنا للخارج، وإلى حدّ كبير وخطير، لا يقتصر فقط على إيجاد التسويات، بل أساسًا، على توليد الأزمات أو تأجيج التناقضات والمشاكل والحروب. هذا التاريخ المأساوي ما زال بعضه طريًّا في الذاكرة والأجساد ندوبًا وجراحًا وانقسامات... خبرتها الأجيال القديمة وذاقت طعمها الأجيال الجديدة والآتي ما زال أخطر وأعظم!
لا أحد ينفي أنّ لبنان لا ينفرد بتأثير العوامل الخارجية على أوضاعه وعلاقات أبنائه وقواه السياسية. لا ينفي أحد أيضًا أنّ الصراعات القائمة في المنطقة قد استوطن بعضها في لبنان، وجعل بعضها الآخر بلدنا في دائرة الخطر وعدم الاستقرار والتحوّلات... لكنّ كلّ ذلك لا يقتصر على لبنان دون سواه من دول المنطقة. فلماذا لم تكابد بقية البلدان المعنية أو المستهدفة ما نكابد من عدم الاستقرار ومن التفتّت والانقسام والشرذمة والصراعات الداخلية التي بلغت مرّات عديدة حدود الاحتراب الداخلي؟
إنّ لبنان بلد معطوب في بنيته الكيانية، مثلوم في بنائه الاجتماعي، ومعتلّ ومختلّ في مقوّمات وحدته الوطنية. يكرّس كلّ ذلك ويغذّيه نظامه الطائفي المذهبي، مما يفقد بلدنا قدرته على مواجهة الأزمات الكبرى التي تنجم عن التناقضات الداخلية أو الخارجية. أما حين تتفاعل تناقضات وصراعات الداخل مع تلك الوافدة من الخارج، فيقع الأسوأ: أي الأزمات الوطنية الكبرى.
لا بدّ من التذكير بهذه الحقائق والوقائع، ونحن نشهد اليوم فصلاً جديدًا من الانقسام الخطير الذي استحضر أسوأ الذكريات في أذهان اللبنانيين، كما بعث لديهم أعظم المخاوف. وقد تعاظم الأثر السلبي للتطوّرات الخطيرة الراهنة، بمقدار ما شعر اللبنانيون بأنّ مؤسساتهم الدستورية، السياسية والأمنية، كالعادة، عاجزة أو معطّلة أو منقسمة!
إنّها مشكلة الافتقار إلى المرجعية الداخلية إذاً في التعامل مع الأزمات، وبالتالي في احتوائها وفي معالجتها ولو بعد حين. وفي هذا الصدد لم يحصل أيّ تقدّم يُذكر. على العكس من ذلك فقد تضاعفت عوامل الانقسام وتفاقمت إلى درجة أنّ الدويلات هي التي تنمو على حساب الدولة وفي كلّ الحقول والمجالات السياسيّة والأمنية والتربوية والاقتصادية والإعلامية...
لا يستطيع الإكثار من الكلام عن رغبة هذا الطرف أو ذاك في «بناء الدولة»، حجب رداءة، بل وخطورة الإمعان والمضيّ في العمل لتعزيز الدويلات الفئوية الطائفية والمذهبية، القديمة والجديدة، على جميع الأراضي اللبنانية!
ولا يستطيع رمي تهمة إضعاف الدولة على الخصم، إلغاء مسؤولية المتهِم عمّا يقذف به الآخرين. إنّ مسألة بناء الدولة ليست أولوية لدى أحد بين الأطراف المتصارعة دون أن يلغي ذلك تفاوت المسؤولية بشأن المآل الموضوعي للتباينات والخلافات والصراعات، في سياق قد يضيع فيه لبنان كلّيًا إذا ما انتصر المشروع الأميركي ـــــ الصهيوني في المنطقة. وهذا الاستنتاج لا يطلق على عواهنه: فشكل ضياع لبنان ليس واحدًا وصيغه ليست محصورة في نسخة ذات شكل فريد وحصري.
لقد امتدّت أزماتنا حتى بدت قدرًا، وبدا حلّها مستعصيًا. هذا الاستنتاج الذي يروّج له كثيرون نتيجة مصلحة وغرض أو نتيجة شعور بالعجز وبتأثير العادات والتقاليد وترسّخها، ليس صحيحًا، وليس سليمًا وليس وطنيًا! إنّه يصوّر شعب لبنان شعبًا محكومًا بالانقسام لطبيعة فيه مختلفة عن بقية شعوب العالم. وهذا الاستنتاج يحاول إيهام أكثرية اللبنانيين بأنّ الطائفية ظاهرة جينية لا ظاهرة اجتماعية نشأت بموجب عوامل متنوّعة وتغذّت عبر جملة مصالح وبوسائل تزداد تغذيتها بالمزيد من عناصر القوة كلّ يوم وكلّ ساعة!

محاولة إيهام اللبنانيين بأنّ الطائفية ظاهرة جينية لا ظاهرة اجتماعية تغذّت عبر جملة مصالح

ظنّ البعض وفي مراحل متعدّدة من الصراع اللبناني ــ اللبناني أنّه يستطيع أن يستأثر بالهيمنة على قاعدة الامتيازات

إنّ انقسام اللبنانيين يعطّل، أوّل ما يعطّل، مؤسساتهم الدستورية السياسية والأمنية. وهذه المؤسسات هي التي يجب أن تحتوي النزاعات والصراعات، وتُوجّهها في مسار سياسي وسلمي وديموقراطي. وحيث إنّ هذا الانقسام تثيره مصالح وحسابات وتناقضات داخلية وخارجية، فينبغي التعامل معه على هذا الأساس بعيدًا عن القدرية والفرادة والمزاعم الوهمية. مثل هذا الفهم هو الذي يمثّل المدخل للفرز ما بين المصالح الوطنية العليا والمصالح الفئوية التي تتعارض معها. فليس مقبولاً أن تتقدّم المصالح العامة على المصالح الخاصة لأنّ من شأن ذلك ببساطة، أن يعزّز الانقسام ويمنع قيام الوطن الحصين والدولة القوية.
لقد ظنّ البعض وفي مراحل متعدّدة من الصراع اللبناني ـــــ اللبناني أنّه يستطيع أن يستأثر بالهيمنة على قاعدة الامتيازات.
لكنّ ذلك لم يؤدّ إلا إلى تكريس الانقسام الداخلي وزيادة التدخل الخارجي. وحاول البعض الآخر استبدال هيمنة بأخرى، فلم يُضف إلا حلقة جديدة من الصراعات والنزاعات والحروب.
أما الحلّ، ففي مكان آخر. إنّه في بناء تعاقد وطني جديد أشارت إليه وثيقة الطائف في امتداد تجربة الحرب الأهلية ما بين عامي 1975 و1990. وليس صدفة أنّ هذه الإشارة التي تكرّست بندًا دستوريًا، قد بقيت حبرًا على ورق وبقيت معها وتفاقمت أزمة الانقسام بين اللبنانيين!
أما التعاقد الجديد، فليس أمرًا تعجيزيًا. إنّ مقدّماته وأسسه موجودة في المواد غير المطبّقة من الدستور، وصولاً إلى صياغة ميثاق وطني جديد يقوم على المساواة التامة بين اللبنانيين ويحرّر النظام الطائفي من المحاصصة الطائفية والمذهبية ويعطي ما لقيصر لقيصر وما لله لله!
نظام المساواة هذا الذي ينتسب فيه المواطن إلى وطنه وإلى مؤسساته الدستورية، هو طريق الخلاص. بل إنّ مقياس الوطنية هو في التخلّي عن الدويلات الطائفية والمذهبية لمصلحة الدولة. إنّه «الجهاد الأكبر» الذي يكمل «الجهاد الأصغر» ضدّ العدوّ الصهيوني، الذي سطّر شعبنا ومقاومونا فيه صفحات خالدة من البطولة والتضحية والانتصار.
لا بدّ للبنانيين من أن يستعيدوا زمام المبادرة بشأن إنقاذ أنفسهم ووطنهم. ولن يحصل ذلك لا بشعارات المناصفة ولا بطموحات الهيمنة ولا بالاستقواء بالخارج، وخصوصًا الخارج العدو، الذي يتربّص بلبنان وبالمنطقة على حدّ سواء.
* كاتب وسياسي لبناني